أحمد بن حنبل الشيباني

 

بسم الله الرحمن الرحيم
 
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ؛ أمَّا بعد :
  فقد طلب مني المشرفون على وقف السلام الخيري بمدينة الرياض أن أترجم لعَلَمٍٍ من أعلام الحديث ، وإمامٍ من أئمتهم ، فاخترت أن أترجم للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله لما لهذا الإمام من المحبة ، والقبول ، والإجلال عند الناس جميعا ، وفي الأوساط العلمية خاصة ، ورأيت أن تكون الترجمة مشتملةًً على الأبحاث الآتية :
1- التعريف بنسبه 2- مولده 3- نشأته 4- بداية طلبه للعلم 5- شيوخه 6- رحلته في طلب العلم 7- حفظه للعلم  8- ورعه وثناء العلماء عليه 9- أوصافه الشخصية 10- ثباته في المحنة في عهد المعتصم 11- منعه من التحديث 12- المحنة في عهد الواثق 13- انتهاء المحنة بولاية المتوكل على الله 14- حال الإمام في دولة المتوكل 15- جهاده لأهل البدع 16- وفاته 17 – مؤلفاته رحمه الله 18- منهج الإمام أحمد في تأليف المسند .
   وهذا أوان البدء في البحث فأقول :
 
1- التعريف بنسبه رحمه الله :
  قال الإمام محمد بن أحمد الذهبي المتوفى سنة 748 هـ رحمه الله في كتابه سير أعلام النبلاء في ج11 / 177 رقم الترجمة 78 : " هو الإمام حقاً ، وشيخ الإسلام صدقاً أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة ، وبعض النسابين يقدِّم ذهل بن شيبان ، وساق النسب إلى بكر بن وائل ، ثمَّ قال الذهلي الشيباني المروزي ، ثمَّ البغدادي أحد الأئمة الأعلام هكذا ساق نسبه ولده عبد الله ، واعتمده أبو بكر الخطيب في تأريخه وغيره ، ويلتقي نسبه بنسب النبي صلى الله عليه وسلم في نزار بن معدِّ بن عدنان .
 
2- مولده رحمه الله :
   قال الإمام الذهبي : " وكان محمد والد أبي عبد الله من أجناد مـرو مات شابَّاً ؛ له نحو ثلاثين سنة وربِّي أحمد يتيماً ، وقيل أنَّ أمَّه تحوَّلت من مرو ؛ وهي حاملٌ به رحمها الله ، ونقل أبو داود سمعت يعقوب الدورقي سمعت أحمد يقول : ولدت في شهر ربيع الأول سنة أربعٍ وستين ومائة .
 
3- نشأته رحمه الله :
    نشأ يتيماً في حجر أمِّه ، ونقل صالحٌ عن أبيه أنَّه قال : ثقبت أمي أذني ، فكانت تصيِّر فيهما الؤلؤتين ، فلمَّا ترعرعت نزعتهما ، فكانت عندها ، ثمَّ دفعتها إليَّ ، فبعتهما بنحو ثلاثين درهماً .
 
4- بداية طلبه للعلم رحمه الله :
  قال الإمام الذهبي : " كان وهو ابن خمس عشرة سنة في العام الذي مات فيه مالكٌ ، وحماد بن زيد " قلت كان ذلك في عام 179 هـ .
 
5- شيوخه :
  قال الذهبي رحمه الله : " سمع من إبراهيم بن سعد قليلاً ، ومن هشيم بن بشير ، فأكثر ، وجوَّد ومن عبَّاد ابن عباد المهُلَّبي ، ومعتمر بن سليمان التيمي ، وسفيان بن عيينة الهلالي ، وأيوب بن النجَّـار ويحيى بن أبي زائدة ، وعلي بن هاشم بن البَرِيد ، وقُرَّان بن تمام ، وعمَّار بن محمد الثوري ، والقاضي أبو يوسف ، وذكر عدداً من المشائخ الذين أخذ عنهم " .
  ثمَّ قال الإمام الذهبي :  " فعدة شيوخه الذين روى عنهم في المسند مئتان وثمانون ونيف ؛ حدَّث عنه البخاري حديثاً ، وعن أحمد بن الحسن عنه حديثاً آخر في المغازي ، وحدَّث عنه مسلم ، وأبو داود بجملة وافرة ، وروى أبو داود ، والنسائي ، والترمذي ، وابن ماجة عن رجلٍ عنه ، وحدَّث عنه أيضاً ولداه صالح ، وعبد الله ، وابن عمِّه حنبل بن إسحاق ، ومن شيوخه عبد الرزَّاق والحسن بن موسى الأشيب ، وأبو عبد الله الشافعي ؛ لكن الشافعي لم يسمِّه ؛ بل قال حدثني الثقة ، وحدَّث عنه علي بن المديني ، ودحيم ، وأحمد بن صالح ، وأحمد بن أبي الحواري ، ومحمد ابن يحيى الذهلي وأحمد بن الفرات ، وذكر جملةً ممن حدَّثوا عنه بعضهم من شيوخه .
  قال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبو زرعة أنًَّ أحمد أصله بصري ، وخُطَّته بمرو ، وحدثنا صالح سمعت أبي يقول : مات هشيم فخرجت إلى الكوفة سنة ثلاثٍ وثمانين ، وأول رحلاتي إلى البصرة سنة ستٍّ ، وخرجت إلى سفيان سنة سبعٍ ، فقدمنا وقد مات الفضيل بن عياض ، وحججت خمس حجج منها ثلاثٌ راجلاً أنفقت في إحداها ثلاثين درهما ، وقدم ابن المبارك في سنة تسعٍ وسبعين وفيها أول سماعي من هشيم ، فذهبت إلى مجلس ابن المبارك ، فقالوا قد خرج إلى طرطوس وكتبت عن هشيم أكثر من ثلاثة آلاف ، ولو كان عندي خمسون درهماً لخرجت إلى جـرير إلى الـري " قـال الإمام الذهبي : لقد سمع منه أحاديث وسمعت أبي يقول : كتبت عن إبراهيم بن سعد في ألـواحٍ ، وصليت خلفـه غير مرةٍ ، فكان يسلم واحدة قال : وقد روى عنه مــن
شيوخه ابن مهدي " اهـ .
 
6- رحلته في طلب العلم رحمه الله :
  قال المروذي : سمعت أبا عبد الله يقول : مات هشيم ولي عشرون سنة ، فخرجت أنا والأعرابي رفيق كان لأبي عبد الله ؛ قال فخرجنا مشاةً ، فوصلنا الكوفة يعني في سنة ثلاثٍ وثمانين ، فأتينا أبا معاوية وعنده الخلق ، فأعطى الأعرابي حَجةً بستين درهماً ، فخرج ، وتركني في بيتٍ وحدي فاستوحشت ، وليس معي إلاَّ جرابٌ فيه كتبي كنت أضعه فوق لبنة ، وأضع رأسي عليه ، وكنت أذاكر وكيعاً بحديثٍ الثوري .
 
7- حفظه للعلم رحمه الله :
  قال المروذي : " وذكر مرةً شيئاً ، وقال : هذا عند هشيم ، فقلت : لا . وكان ربما ذكر العشرة أحاديث فأحفظها ، فإذا قام قالوا لي ، فأمليها عليهم ، وحدثنا عبد الله بن أحمد قال لي أبي خذ أي كتابٍ شئت من كتب وكيع من المصنف إن شئت أن تسألني عن الكلام حتى أخبرك بالإسناد ، وإن شئت الإسناد حتى أخبرك بالكلام " قلت : يريد بالكلام المتن أي الحديث الذي يتوصل إليه بالإسناد .
   قال الإمام الذهبي : وسمعت أبا إسماعيل الترمذي يذكر عن ابن نمير قال : كنت عند وكيع فجاءه رجلٌ أو قال جماعةٌ من أصحاب أبي حنيفة ، فقالوا له : هاهنا رجلٌ بغدادي يتكلم في بعض الكوفيين ، فلم يعرفه وكيعٌ ، فبينا نحن كذلك ؛ إذ طلع أحمد بن حنبل ، فقالوا : هذا هو ، فقال وكيعٌ : هاهنا يا أبا عبد الله ، فافرجوا له ، فجعلوا يذكرون عن أبي عبد الله الذي ينكـرون وجعل أبو عبد الله يحتج بالأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالوا لوكيع : هذا بحضرتك ترى ما يقول فقال : أي وكيع رجلٌ يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيش أقـول له ثمَّ قال : ليس القول إلاَّ كما قلت يا أبا عبد الله فقال القوم لوكيع خدعك والله البغدادي .
  وعن أحمد الدورقي عن أبي عبد الله قال : نحن إذا كتبنا الحديث من ستةٍ وجـوه أو سبعــة لم نضبطه فكيف يضبطه من كتبه من وجهٍ واحد .
   قال عبد الله بن أحمد : قال لي أبو زرعة أبوك يحفظ ألف ألف حديث ، فقيل : وما يدريك ؟ قال : ذاكرته ، فأخذت عليه الأبواب .
   قال الإمام الذهبي : فهذه حكايةٌ صحيحة في سعة علم أبي عبد الله ، وكانوا يعدون في ذلك المكرر والأثر ، وفتوى التابعين ، وما فسِّر ، ونحو ذلك ، وإلاَّ فالمتون المرفوعة القوية لاتبلغ عشر
معشار ذلك .
     قال إبراهيم الحربي : رأيت أبا عبد الله كأنَّ الله جمع له علم الأولين والآخرين .
قال الخلال : أخبرنا المروذي : سمعت محمد بن يحيى القطان يقول : رأيت أبي مكرماً لأحمد بن حنبل : لقد بذل له كتبه أو قال حديثه .
  وقال القواريري : قال يحيى القطان : ما قدم عليَّ من بغداد أحبَّ إليَّ من أحمد بن حنبل .
   وقال عبد الله بن أحمد : سمعت أبي يقول : شقَّ على يحيى بن سعيد يوم خرجت من البصرة .
     قال عمرو بن العباس : سمعت عبد الرحمن بن مهدي ذكر أصحاب الحديث فقال : أعلمهم بحديث الثوري أحمد بن حنبل ؛ قال : فأقبل أحمد بن حنبل ، فقال : من أراد أن ينظر إلى ما بين كتفي الثوري ، فلينظر إلى هذا .
  وقال أبو الوليد الطيالسي : ما بعد المصرين رجلٌ أكرم عليَّ من أحمد بن حنبل .
 قال عبد الله بن أحمد : سمعت أبي يقول : قدمت صنعاء أنا ويحيى بن معـين ، فمضيـت إلى عبد الرزاق في قريته ، وتخلَّف يحيى ، فلما ذهبت أدقُّ الباب ؛ قال بقَّالٌ تجاه داره : لاتدق فإنَّ الشيخ يُهاب ، فجلست حتى إذا كان قبل المغرب خرج ، فوثبت إليه ، وفي يدي أحاديث انتقيتها ، فسلمت عليه ، وقلت : حدِّثْني بهذه الأحاديث رحمك الله ، فإني رجلٌ غريب ؛ قال : ومن أنت ؟ وزبرني . قلت : أنا أحمد بن حنبل . قال : فتقاصر ، وضمني إليه ، وقال : بالله أنت أبو عبد الله . قال : ثمَّ أخذ الأحاديث ، وجعل يقرأها حتى أظلم . قال للبقال : هلمَّ المصباح وكان عبد الرزاق يؤخر صلاة المغرب .
 
8- ورعه ، وثناء العلماء عليه رحمه الله :
  قال الإمام الذهبي في السير ج11 / 192 : " قال الخـلال : حدثنـا الرمـادي : سمعت عبد الرزاق ، وذكر أحمد بن حنبل ، فدمعت عينـاه فقال : بلغني أن نفقته نفـذت فأخذت بيده فأقمته خلف الباب ، وما معنا أحدٌ وقلت له : لاتجتمع عندنا الدنانير إذا بعنا الغلة أشغلناها في شيءٍ ، وقد وجدت عند النساء عشرة دنانير فخذها ، وأرجو ألاَّ تنفقها حتى يتهيأ شـيءٌ فقال : يا أبا بكر لو قبلت من أحدٍ قبلت منك .
  وقال عبد الله : قلت لأبي بلغني أنَّ عبد الرزاق عرض عليك دنانير ؟ قال : نعم ، وأعطاني يزيد
ابن هارون خمس مائة درهم أظنُّ ، فلم أقبل ، وأعطى يحيى بن معين ، وأبا مسلم ، فأخذا منه .
  قال المروذي : قال أبو عبد الله : كنَّا عند يزيد بن هارون ، فوهم في شيءٍ ، فكلمته ، فأخرج كتابه ، فوجده كما قلت : فغيَّره ، فكان إذا جلس يقول : يا ابن حنبل ادن هاهنا ، ومـرضت
فعادني ، فنطحه الباب .
 قال المروذي : سمعت بعض الواسطيين يقول : ما رأيت يزيد بن هارون ترك المزاح لأحدٍ إلاَّ لأحمد ابن حنبل .
  وقال : قتيبة : خير أهل زماننا ابن المبارك ، ثمَّ هذا الشاب يعني أحمد بن حنبل .
   وقال حرملة سمعت الشافعي يقول : خرجت من بغداد ، فمـا خـلَّفت بهـا رجلاً أفضـل ولا أعلم ، ولا أفقه ، ولا أتقى من أحمد بن حنبل .
   وقال نصر بن علي الجهضمي : أحمد أفضل أهل زمانه .
  وقال : إمام الأئمة ابن خزيمة : سمعت محمد بن سحنون ؛ سمعت أبا عمير بن النحاس الرملي وذكر أحمد بن حنبل ، فقال رحمه الله عن الدنيا : ما كان أصبره ، وبالماضين ما كان أشبهه وبالصالحين ما كان ألحقه ، عرضت له الدنيا فأباها ، والبدع فنفاها .
 وقال قتيبة : لولا الثوري لمات الورع ، ولولا أحمد لأحدثوا في الدين ؛ أحمد إمام الدنيا .
  وروي عن إسحاق بن راهوية : أحمد حجة بين الله وبين خلقه .
   وعن ابن المديني قال : أعزَّ الله الدين بالصديق يوم الردة ، وبأحمد يوم المحنة .
  وقال النفيلي : كان أحمد بن حنبل من أعلام الدين .
 وقال علي بن خشرم سمعت بشر بن الحارث يقول : أنا أسئل عن أحمد بن حنبل أحمد بن حنبل أدخل الكير فخرج ذهباً أحمر .
   وقال ابن أبي حاتم : سألت أبي عن علي بن المديني ، وأحمد بن حنبل أيهما أحفظ فقال : كانا في الحفظ متقاربين ، وكان أحمد أفقه ، إذا رأيت من يحب أحمد فاعلم أنَّه صاحب سنة .
  وقال أبو زرعة : أحمد بن حنبل أكبر من إسحاق وأفقه ، وما رأيت أحداً  أكمل من أحمد .
   وقال ابن واره : كان أحمد صاحب فقه ؛ صاحب حفظ ؛ صاحب معرفة .
  وقال النسائي : جمع أحمد بن حنبل المعرفة بالحديث ، والفقه ، والورع ، والزهد ، والصبر .
قال : الخلال أخبرني محمد بن موسى قال : رأيت أبا عبد الله ؛ وقد قال له خراساني : الحمد لله الذي رأيتك قال : اقعد أي شيءٍ ذا ! من أنا !! .
 وعن رجلٍ قال : رأيت أثر الغم في وجه أبي عبد الله ، وقد أثنى عليه شخصٌ ، وقيل له جزاك الله عن الإسلام خيراً ؛ قال : بل جزى الله الإسلام عني خيراً من أنا ؟! وما أنا ؟!
  قال الخلال : أخبرنا علي بن عبد الصمد الطيالسي ؛ قال : مسحت يدي على أحمد بن حنبل
وهو ينظره ، فغضب ، وجعل ينفض يده ويقول : عمَّن أخذتم هذا .
   قال عبد الله بن بشر الطالقاني : سمعت محمد بن طارق البغدادي ؛ قلت لأحمد بن حنبل :
أستمد من محبرتك ، فنظر إليَّ وقال لم يبلغ ورعي ورعك هذا ، وتبسم .
وقال عبد الله بن أحمد سمعت أبي يقول : وددت أني أنجو من هذا الأمر كفافاً لا علي ولا لي  .
  وقال المروذي : أدخلت إبراهيم الحصري على أبي عبد الله ، وكان رجلاً صالحاً ، فقال : إنَّ أمي رأت لك مناماً هو كذا وكذا ، وذكرت الجنة ، فقال : يا أخي إنَّ سهل بن سلامة كان الناس يخبرونه بمثل هذا ، وخرج في سفك الدماء ، وقال : الرؤيا تسرُّ المؤمن ولاتغره .
  وترجم للإمام أحمد ابن كثير من البداية والنهاية في ج10 / 340 وذكر نسبه كما قلناه من سير أعلام النبلاء إلى بكر بن وائل ، ثمَّ أوصله إلى نزار بن معد بن عدنان ، وأنَّه قدم به أبوه من مرو إلى بغداد ؛ وهو حملٌ فوضعته أمُّه ببغداد في عام 164 هـ في ربيع الأول منه ، وزاد وتوفي أبوه ؛ وهو ابن ثلاث سنوات ، وكفلته أمُّه ، وكان في حداثته يختلف إلى مجلس القاضي أبو يوسف ، ثم ترك ذلك وأقبل على سماع الحديث .
 وقال ابن أبي حاتم عن أبيه عن حرملة سمعت الشافعي قال : وعدني أحمد بن حنبل أن يقدم علي مصر فلم يقدم .
 قال ابن أبي حاتم : يشبه أن تكون خفة ذات اليد منعته أن يفي بالعدة ، وقد طاف أحمد بن حنبل في البلاد والآفاق ، وسمع من مشائخ العصر ، وكانوا يجلونه ، ويحترمونه في حال سماعه منهـم وقد سرد شيخنا في تهذيبه أسماء شيوخه مرتبين على حروف المعجم ، وكذلك الرواة عنه .
  قال البيهقي بعد أن ذكر جماعةً من شيوخ الإمام أحمد ، وقد ذكر أحمد بن حنبل في المسند وغيره الرواية عن الشافعي ، وأخذ جملةً من كلامه في أنساب قريش .
 قلت : ( القائل ابن كثير ) قد أفرد ما رواه أحمد عن الشافعي ؛ وهي أحاديث لاتبلغ عشرين حديثاً ، ومن أحسن ما رويناه عن الإمام أحمد عن الشافعي عن مالك بن أنس عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( نسمةُ المؤمن طائرٌ تعلق في شجر الجنة حتى يرجعه إلى جسده يوم البعث )) .
  وقال الشافعي لأحمد لما اجتمع به في الرحلة الثانية إلى بغداد في190 هـ وعمر أحمد إذ ذاك نيفٌ وثلاثون سنة ؛ قال يا أبا عبد الله : إذا صحَّ عندكم الحديث فأعلمني به ؛ أذهب إليه حجازياً كان أو شامياً أو عراقياً أو يمنياً ؛ وقول الشافعي له هذه المقالة تعظيمٌ لأحمد ، وإجلالٌ له وأنَّه عنده بهذه المثابة ؛ إذا صحَّح أو ضعف يرجع إليه .
  قال ابن كثير رحمه الله في ج10 / 345 : " وروى البيهقي عن الربيع ؛ قال بعثني الشافعي بكتابٍ من مصر إلى أحمد بن حنبل ، فأتيته ، وقد انفتل من صلاة الفجر ، فدفعت إليه الكتاب فقال : أقرأته فقلت : لا ، فأخـذه ، فقرأه ، فدمعت عيناه ، فقلت : يا أبـا عبـد الله ، وما فيه ؟ قال : يذكر أنَّه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ، فقال : اكتب إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبـل واقرأ عليه مني السلام ، وقل له : إنَّك ستمتحن ، وتدعى إلى القول بخلق القرآن ، فلا تجبهم يرفع الله لك عَلَمَاً إلى يوم القيامة " اهـ .
 
9- أوصافه الشخصية رحمه الله :
  قال الإمام الذهبي في السير في ج11 / 184 : " قال ابن ذَرِيح العكبري : طلبت أحمد بن حنبل ، فسلمت عليه وكان شيخاً مخضوباً طوَّالاً أسمر ؛ شديد السمرة .
  وعن محمد بن عباس النحوي ؛ قال : رأيت أحمد بن حنبل : حسن الوجه ؛ رَبْعَةً ؛ يخضب بالحِنَّا خضاباً ؛ ليس بالقاني في لحيته شعراتٌ سود ، ورأيت ثيابه ؛ غلاظاً بيضاً ، ورأيته معتمَّــاً وعليه إزار .
  وقال المروذي : رأيت أبا عبد الله إذا كان في البيت عامة جلوسه متربعاً ، خاشعاً ، فإذا كان برَّاً لم يتبين منه خشوع ، وكنت أدخل ، والجزء في يده يقرأ .
   وقال حنبل : سمعت أبا عبد الله يقول : تزوجت وأنا ابن أربعين سنةً ، فرزق الله خيراً كثيرا .
  وقال أبو بكر الخلال في كتاب أخلاق أحمد ؛ وهو مجلد أملى علي زهيرٌ بن صالح بن أحمد قال : تزوج جدي عباسة بنت الفضل من العرب ، فلم يولد له منها غير أبي ، وتوفيت ، فتزوج بعدها ريحانة ، فولدت له عبد الله عمي ، ثمَّ توفيت فاشترى حُسناً ، فولدت له أم علي زينب ، وولدت له الحسن والحسين توأمان ، وماتا بقرب ولادتهما ، ثم ولدت الحسن ومحمدا ، فعاشا حتى صارا من السن نحو أربعين سنة ، ثمَّ ولدت سعيداً ؛ قيل كانت والدة عبد الله عوراء ، وأقامت معه سنين " اهـ .
 
10- ثباته في المحنة في عهد المعتصم :
  ذكر ابن كثير في البداية والنهاية في ج10 / 345 ما جاء في محنة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله في أيام المأمون ، ثمَّ المعتصم ، ثمَّ الواثق بسبب قولهم في القرآن العظيم أنَّه مخلوق وما أصابه بسبب ذلك من الحبس الطويل ، والضرب الشديد ، والتهديد بالقتل ، وبسوء العذاب ، وأليم العقاب وقلة مبالاته بما كان منهم في ذلك إليه ، وصبره عليه ، وتمسكه بما كان عليه من الدين القويم والصراط المستقيم ، وكان أحمد عالماً بما ورد بمثل حاله من الآيات المتلوة والأخبار المأثورة .... " إلى أن قال : " قال الله تعالى : ) بسم الله الرحمن الرحيم .الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لايفتنون . ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمنَّ الكاذبين ( [ العنكبوت 1- 3 ] وقوله : ) واصبر على ما أصابك إنَّ ذلك من عزم الأمور ( [ لقمان : 17 ] ثمَّ أورد حديث سعد بن أبي وقاص عند أحمد في مسنده من طريق ابنه مصعب بن سعـد عن أبيه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلـم : (( أي الناس أشد بلاءً ؟ قال : الأنبياء ، ثمًّ الأمثل ، فالأمثل )) " اهـ . قلت : وفي هذا الحديث بشارةٌ لأصحاب البلاء بوافر الأجـر وعظيم الذخر عند الله عز وجل حيث قرنهم بالأنبياء .
 وذكر ابن كثير رحمه الله في ص346 ملخص الفتنة والمحنة من كلام أئمة السنة : فقال ابن كثير رحمه الله : " قد ذكرنا فيما تقدم أنَّ المأمون كان قد استحوذ عليه جماعةٌ من المعتزلـة فأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل ، وزينوا له القول بخلق القرآن ، ونفـي الصفات عن الله عز وجـل قال البيهقي : ولم يكن في الخلفاء قبله من بني أمية ، وبني العباس خليفةً إلاَّ على مذهب السلف ومنهاجهم فلمَّا ولي هو الخلافة اجتمع به هؤلاء ، فحملوه على ذلك ، وزينوه له ، واتفق خروجه إلى طرطوس لغزو الروم ، فكتب إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن ، واتفق له ذلك آخر عمره قبل موته بشهور من سنة ثمانية عشرة ومائتين ، فلمَّا وصل الكتاب كما ذكرنا استدعى جماعةٌ من أئمة الحديث فدعاهم إلى ذلك فامتنعوا ، فتهددهم بالضرب ، وقطع الأرزاق ، فأجاب أكثرهم مكرهين ، واستمر على الامتناع من ذلك الإمام أحمد بن حنبل ، ومحمد بن نوح الجنديسابور ، فحملا على بعيرٍ ، وسيِّرا إلى الخليفة عن أمره بذلك ، وهما مقيدان متعادلان في محمل على بعيرٍ واحد ، فلمَّا كانا ببلاد الرحبة جاءهم رجلٌ من الأعراب من عبَّادهم يقال له جابر بن عامر ، فسلم على الإمام أحمد ، وقال له : يا هذا إنَّك وافد الناس ، فلاتكن شؤماً عليهم ، وإنَّك رأس الناس اليوم فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه ، فيجيبوا ، فتحمل أوزارهم يوم القيامة ، وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه ؛ فإنَّه ما بينك وبين الجنة إلاَّ أن تقتل ، وإن لم تقتل تمت ، وإن عشت عشت حميداً ؛ قال أحمد : وكان كلامه مما قوَّى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع من ذلك الذي يدعونني إليه ، فلمَّا اقتربا من جيش الخليفة ، ونزلوا دونه بمرحلة جاء خادم وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه ويقول : يعزُّ عليَّ يا أبا عبد الله أنَّ المأمون قد سلَّ سيفاً لم يسله قبل ذلك ، وأنَّه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنَّك بذلك السيف قال : فجثى الإمام أحمد على ركبتيه ، ورمق بطرفه إلى السماء ، وقال سيدي غرَّ حلمك هذا الفاجر ؛ فتجرَّأ على أولياءك بالضرب ، والقتل ؛ اللهم فإن كان القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته ؛ قال فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل ؛ قال أحمد : ففرحنا ، ثمَّ جاء الخبر بأنَّ المعتصم قد ولي الخلافة ، وقد انضم إليه أحمد بن أبي دؤاد ، وأنَّ الأمر شديد ، فردونا إلى بغداد في سفينةٍ مع بعض الأسارى ، ونالني منهم أذى كثير ، وكان في رجليه القيود ، ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق ، وصلَّى عليه أحمد ، فلمَّا رجع أحمد إلى بغداد دخلها في رمضـان فأودع في السجن نحواً من ثمانيةً وعشرين شهراً ، وقيل نيفاً وثلاثين شهـراً ثمَّ أخرج إلى الضرب بين يدي المعتصم ، وقد كان أحمد وهو في السجن هو الذي يصلي في أهل السجن والقيود في رجليه .
   ثمَّ قال ابن كثير رحمه الله في ص347 : " ذِكْرُ ضربه رحمه الله بين يدي المعتصم ؛ قال : لمَّا أحضره المعتصم من السجن زاد في قيوده ؛ قال أحمد : فلم أتستطع أن أمشي بها ، فربطتها في التَّكَّة ، وحملتها بيدي ، ثمَّ جاءوني بدابة ، فحملت عليها ، فكدت أن أسقط على وجهي من ثقل القيود ، وليس معي أحدٌ يمسكني ، فسلَّم الله حتى جئنا دار المعتصم ، فأدخلت في بيتٍ ، وأغلق علي ، وليس عندي سراجٌ ، فأردت الوضوء ، فمددت يدي ، فإذا إناءٌ فيه ماء ، فتوضأت ، ثمَّ قمت ، ولا أعرف القبلة ، فلمَّا أصبحت ، فإذا أنا على القبلة ، ولله الحمـد ، ثمَّ دعيت فأدخلت على المعتصم ، فلمَّا نظر إليَّ ، وعنده ابن أبي دؤاد ؛ قال : أليس قد زعمتم أنَّه حدث السن ؟ وهذا شيخٌ مكْهِلٌ ، فلمَّا دنوت منه ، وسلمَّت ؛ قال لي : ادنه ، فلم يزل يدنيني حتى قربت منه ، ثمَّ قال : اجلس ، فجلست ، وقد أثقلني الحديد ، فمكثت ساعةً ، ثمًَّ قلت : يا أمير المؤمنين : إلى ما دعا ابن عمِّك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله ؛ قلت : فإني أشهد أن لا إله إلاَّ الله ؛ قال : ثمَّ ذكرت حديث ابن عباس في وفد عبد القيس ثمَّ قلت : فهذا الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : ثمَّ تكلم ابن أبي دؤاد بكلامٍ لم أفهمه ، وذلك أنِّي لم أتفقه كلامه ، ثمَّ قال المعتصم : لولا أنَّك كنت في يد من كان قبلي لم أتعرض إليك ، ثمَّ قال يا أبا عبد الرحمن : ألم آمرك أن ترفع المحنة ؟ فقلت : الله أكبر ؛ هذا فرجٌ للمسلمين ، ثمَّ قال : ناظره يا عبد الرحمن ؛ كلِّمه . فقال لي عبد الرحمن : ما تقول في القرآن : فلم أجبه ، فقال المعتصم : أجبه ، فقلت : ما تقول في العلم ، فسكت ، فقلت : القرآن من علم الله ، فمن زعم أنَّ علم الله مخلوقٌ فقد كفر بالله ، فسكت ، فقالوا فيما بينهم : يا أمير المؤمنين كفَّرك ، وكفرنا ، فلم يلتفت إلى ذلك ، فقال عبد الرحمن : كان الله ، ولاقرآن ، فقلت : كان الله ولاعلم ، فسكت ، فجعلوا يتكلمون من هاهنا ، وهاهنا ، فقلت : يا أمير المؤمنين : اعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسول الله حتى أقول به ، فقال ابن أبي دؤاد : وأنت لاتقول إلاَّ بهذا وهذا ؟ فقلت : وهل يقوم الإسلام إلاَّ بهما ؟!! وجرت مناظراتٌ طويلة ، واحتجوا عليه بقوله : ) ما يأتيهم من ذكرٍ من ربهم محدثٍ ( وبقوله : ) الله خالق كل شيءٍ ( وأجاب بما حاصله : أنَّه عامٌّ مخصوص ، وبقوله : ) تدمِّر كلَّ شيءٍ بأمر ربها ( فقال ابن أبي دؤاد : هو والله يا أمير المؤمنين ضال ؛ مضل ؛ مبتدع ، وهنا قضاتك ، والفقهاء ، فسلهم ، فقال لهم : ما تقولون ؟ فأجابوا : بمثل ما قال ابن أبي دؤاد ، ثمَّ أحضروه في اليوم الثاني ، وناظروه أيضاً في اليوم الثالث وفي ذلك يعلوا صوته عليهم ، وتغلب حجته حججهم ، فإذا سكتوا فتح الكلام عليهـم ابن أبي دؤاد وكان من أجهلهم بالعلم ، والكلام ، وقد تنوعت بهم المسائل في المجادلة ، ولا علم لهم بالنقل وجعلوا ينكرون الآثار ، ويردون الاحتجاج بها ، وسمعت منهم مقالاتٍ لم أكن أظنُّ أنَّ أحداً يقولها ، وقد تكلم معي ابن غوث بكلامٍ طويلٍ ذكر فيه الجسم ، وغيره بما لافائدة فيه فقلت : لا أدري ما تقول ؟ إلاَّ أني أعلم أنَّ الله أحدٌ ؛ صمدٌ ؛ ليس كمثله شيءٌ ، فسكت عني وقد أوردت لهم حديث الرؤية في الدار الآخرة ، فحاولوا أن يضعفوا إسناده ، ويلفقوا عن بعض المحدثين كلاماً يتسلقون به إلى الطعن فيه ، وهيهات ، وأنَّى لهم التناوش من مكانٍ بعيد ، وفي غضون ذلك كله يتلطف به الخليفة ، ويقول : يا أحمد : أجبني حتى أجعلك من خاصتي ، وممن يطأ بساطي ، وأقول : يا أمير المؤمنين يأتوني بآيةٍ من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أجيبهم إليها ؟ واحتج أحمد عليهم حين أنكروا الآثار بقوله تعالى : ) يا أبت لم تعبد ما لايسمع ولايبصر ولايغني عنك شيئا ( وبقوله : ) وكلم اللهُ موسى تكليما ( وبقوله : ) إنَّني أنا الله لا إله إلاَّ أنا فاعبدني ( وبقوله : ) إنَّما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ( ونحو ذلك من الآيات ، فلمَّا لم يقم لهم معه حجةً عدلوا إلى استعمال جاه الخليفة ، فقالـوا : يا أمير المؤمنين ؛ هذا كافرٌ ؛ ضالٌّ ؛ مضل ؛ وقال إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد : يا أمير المؤمنين ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ، ويغلب خليفتين ، وعند ذلك حمي ، واشتد غضبه ، وكان ألينهم عريكةً ، وهو يظنُّ أنَّهم على شيء . قال أحمد : فعند ذلك قال لي : لعنك الله طمعت فيك أن تجيبني فلم تجبني ، ثمَّ قال : خذوه ، واخلعوه ، واسحبوه ؛ قال أحمد : فأخذت ، وسحبت وخلعت ، وجيء بالعقابين والسياط ، وأنا أنظر ، فجردوني ، وصرت بين العقابين ، فقلت : يا أمير المؤمنين : الله ؛ الله ؛ إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لايحل دم امرئٍ مسلم يشهـد أن لا إله إلاًَّ الله إلاَّ بإحدى ثلاث )) وتلوت الحديث ، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاَّ الله ، فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهـم ، فبـم تستحل دمـي ولم آت شيئاً من هذا يا أمير المؤمنين ؟ اذكر وقوفك بين يدي الله كوقوفي بين يديك ، وكأنَّه أمسك ، ثمَّ لم يزالوا يقولون له يا أمير المؤمنين : إنَّه ضالٌّ ؛ مضل كافرٌ ، فأمرني فقمت بين العقابين ، وجيء بكرسيٍّ ، فأقمت عليه ، وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي بأي الخشبتين ، فلم أفهم فتخلعت يداي ، وجيء بالضرابين ، ومعهم السياط ، فجعل أحدهم يضربني سوطيـن ويقول له : يعني المعتصم شُدَّ قطع الله يديك ، وجاء الآخر ، فضربني سوطين ثمَّ الآخر كذلك فضربوني أسواطاً ، فأغمي عليَّ ، وذهب عقلي مراراً ، فإذا سكن الضـرب يعود عليَّ عقلي فقام المعتصم إليَّ يدعوني إلى قولهم ، فلم أجبه ، وجعلوا يقولون ، ويحك الخليفة على رأسك فلم أقبل ، وأعادوا الضرب ، ثمَّ عاد إليَّ فلم أجبه ، فأعادوا الضرب ، ثمَّ جاء إليَّ الثالثة ، فـدعاني فلـم أعقـل ما قال من شدة الضرب ، ثمَّ أعادوا الضرب ، فذهـب عقلي ولم أحس بالضرب ، وأرعبه ذلك من أمري ، وأمر بي فأطلقت ، ولم أشعر إلاَّ وأنا في حجرة من بيتٍ ، وقد أطلقت القيـود من رجلي ، وكان ذلك في الخامس والعشرين من رمضان سنة 221 هـ ثمَّ أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله ، وكان جملة ما ضرب نيفاً ، وثلاثين سوطاً ، وقيل ثمانين سوطـاً لكن ضرباً مبرحاً ؛ شديداً جداً ، وقد كان الإمام أحمد رجلاً طوَّالاً أسمر اللون كثير التواضع رحمه الله " اهـ .
 
11- منعه رحمه الله من التحديث :
  كنت أعتقد أنَّه منع من التحديث من دولة ذلك الزمن ، وحسب ما قرأت ؛ لم أجد ما يدل صراحةً على ذلك ، والذي وجدته أنَّ الإمام أحمد لمَّا عاد إلى بيته بعد الضرب جلس في بيته ، فلم يخرج منه لجمعةٍ ولا لجماعة ، وامتنع من التحديث .
  قال ابن كثيرٍ رحمه الله في البداية والنهاية : " ما كان من أمر الإمام أحمد بعد المحنة حين خرج من دار الخلافة ؛ صار إلى منـزله حتى برئ ولله الحمد ، ولازم منـزله ، فلا يخرج منه إلى جمعةٍ ولاجماعة ، وامتنع من التحديث ، وكانت غَلَّتُه من ملْكٍ له في كل شهرٍ سبعة عشر درهماً ينفقها على عياله ، وتقنَّع بذلك رحمه الله صابراً محتسباً ، ولم يزل كذلك مدة خلافة المعتصم ، وكذلك في أيام ابنه محمد الواثق .
 
12- المحنة في عهد الواثق :
  قال الإمام الذهبي في ج11 / 263 : " قال حنبل : لم يزل أبو عبد الله بعد أن برئ من الضرب يحضر الجمعة والجماعة ، ويحـدث ويفتي حتى مات المعتصم ، وولي ابنه الواثق ، فأظهر ما أظهر من المحنة ؛ والميل إلى أحمد بن أبي دؤاد ، وأصحابه ، فلمَّا اشتدَّ الأمر على أهل بغداد وأظهرت القضاة المحنة ، وفرِّق بين فضل الأنماط وبين امرأته ، وبين أبي صالح وبين امرأته ؛ كان أبو عبد الله ليشهد الجمعة ، ويعيد إذا رجع ، ويقول : تؤتى الجمعة لفضلها ، والصلاة تعاد خلف من قال بهذه المقالة .
  وجاء نفرٌ إلى أبي عبد الله ، وقالوا : هذا الأمر قد فشا ، وتفاقم ، ونحن نخافه على أكثر من هذا
وذكروا ابن أبي دؤاد ، وأنَّه على أن يأمر المعلمين بتعليم الصبيان في المكاتب القرآن كذا وكذا فنحن لانرضى بإمارته ، فمنعهم من ذلك ، وناظرهم ، وحكى أحمد قصده من مناظرتهم ، وأمرهم بالصبر .
  قال : فبينا نحن في أيام الواثق إذ جاءه يعقوب ليلاً برسالةٍ من الأمير إسحاق بن إبراهيم يقول : إنَّ أمير المؤمنين قد ذكرك ، فلايجتمعنَّ إليك أحدٌ ، ولاتساكنِّي بأرضٍ ، ولامدينةٍ أنا فيهـا فاذهب حيث شئت من أرض الله ، فاختفى أبو عبد الله مدة حياة الواثق ، وكانت تلك الفتنة وقتل أحمد بن نصر الخزاعي ، ولم يزل أبو عبد الله مختفياً في البيت لايخرج إلى صلاةٍ ، ولا إلى غيرها حتى هلك الواثق .
   وعن أبي عبد الله البوشنجي قال : حدَّث أحمد ببغداد جهرةً ، فرجعت من الكوفة ، فأدركته في رجب سنة 27 هـ يعني ومائتين ، وهو يحدث ، ثمَّ قطع الحديث لثلاثٍ بقين من شعبـان بلا منعٍ ؛ بل كتب الحسن بن علي بن الجعد قاضي بغداد إلى ابن أبي دؤاد : إنَّ أحمد قد انبسط في الحديث ، فبلغ ذلك أحمد ، فقطع الحديث إلى أن توفي رحمه الله .
 
13- انتهاء المحنة بولاية المتوكل على الله :
  قال الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء في ج11 / 265 : " قال حنبل : ولي المتوكل جعفر فأظهر الله السنة ، وفرَّج عن الناس ، وكان أبو عبد الله يحدثنا ، ويحدث أصحابه في أيام المتوكل وسمعته يقول : ما كان الناس إلى الحديث والعلم أحوج منهم إليه في زماننا ، ثمَّ إنَّ المتوكل ذكره وكتب إلى إسحاق بن إبراهيم في إخراجه إليه ، فجاء رسول إسحاق يأمره بالحضور ، فمضـى أبو عبد الله ، ثمَّ رجع فسأله أبي عمَّا دعي له ، فقال : قرأ عليَّ كتاب جعفر يأمرني بالخروج إلى العسكر يعني سُرَّ من رأى .
 
للعلامة أحمد بن يحيى النجمى رحمه الله
من موقع الدعوة السلفية بصامطة www.njza.net
 

 

adidas calabasas cream factory san jose menu - GZ3194 - adidas Ultra Boost 2021 White Multicolor | nike lebron x gold white for sale on amazon

الأقسام الرئيسية:

المشائخ والعلماء: