تحذير العباد من السعى بالفساد (خطبة للعلامة عبد العزيز ال الشيخ ألقاها فى جامع الامام تركى بن عبد الله بتاريخ 15/3/1424) ملخص الخطبة: 1- الإسلام دين الخير والعدل والإحسان. 2- جريمة الفساد في الأرض. 3- من صور الإفساد في الأرض. 4- جريمة القتل والترويع. 5- عقوبة الإفساد في الأرض. 6- ضرورة محاربة الفساد. 7- كلمة للشباب المسلم. 8- التحذير من مسلك الخوارج. 9- دعوة الشباب للاتصال بالعلماء. 10- كلمة لرجال الصحافة والإعلام. 11- كلمة للعلماء والدعاة إلى الله تعالى. 12- كلمة للآباء. 13- التحذير من إيواء المفسدين والتستّر عليهم. | |||
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى. عباد الله، دينُ الإسلام دينُ الخير والعدلِ والإحسان، إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ [النحل:90]. دين الصلاح والإصلاح، يدعو إلى الخير وينهى عن الشرّ والفساد، وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـٰحِهَا [الأعراف:56]. الفسادُ في الأرض إجرام، وأيُّ إجرام أعظم من فساد في الأرض؟! نهى عنه ربّنا جلّ وعلا، وتتابعت رسُل الله وأنبياؤه ينهَون عن الفساد في الأرض، قال نبيّ الله صالح عليه السلام لقومه: وَٱذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِى ٱلأرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ ٱلْجِبَالَ بُيُوتًا فَٱذْكُرُواْ ءالآء ٱللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى ٱلأرْضِ مُفْسِدِينَ [الأعراف:74]، ونبيُّ الله شعيب يقول لقومه: وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى ٱلأرْضِ مُفْسِدِينَ [هود:85]، ونبي الله موسى يخاطب أخاه نبيَّ الله هارون قائلاً له: ٱخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ ٱلْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142]، وصالحو البشر يخاطبون قارون قائلين له: وَٱبْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِى ٱلأرْضِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ [القصص:77]. الفسادُ في الأرض خُلُق اللئام من البشر، والله لا يحبّ المفسدين ولا يصلِح عملَهم، قال تعالى عن أعدائه اليهود: وَيَسْعَوْنَ فِى ٱلأرْضِ فَسَاداً وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]، وقال موسى مخاطبًا آلَ فرعون، قال لهم: مَا جِئْتُمْ بِهِ ٱلسِّحْرُ إِنَّ ٱللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ ٱلْمُفْسِدِينَ [يونس:81]. أيّها المسلم، وعندَ تدبُّر كتابِ الله والتأمُّل فيه نرى في كتاب الله تحذيرًا عن أنواع الفساد؛ ليكون المسلم على حذرٍ من أيِّ نوع من أنواعها. فقد بيَّن الله في كتابه أنّ الكفرَ به والصدَّ عن سبيله ضربٌ من ضروب الفساد: ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ زِدْنَـٰهُمْ عَذَابًا فَوْقَ ٱلْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ [النحل:88]. وبيّن تعالى أنَّ إضلالَ الناس وتشكيكَهم في دينهم وصرفَهم عن الطريق المستقيم فساد في الأرض، وهو خُلُق المنافقين، قال تعالى عنهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12]. وبيَّن تعالى أنَّ السخريةَ بالمؤمنين وإلحاقَ التُّهَم بهم وهم بُرآء منها ضربٌ من ضروب الفساد، قال تعالى عن قوم فِرعون أنّهم قالوا لهم: أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى ٱلأرْضِ وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ [الأعراف:127]، وفرعون يقول لقومه عن موسى: إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُـمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى ٱلأرْضِ ٱلْفَسَادَ [غافر:26]، فسمَّى دينَ موسى فسادًا، وهكذا من وصف أهلَ الإيمان والاستقامة والثباتِ على الحقّ بنوع الإفساد فإنّه داخل في هذا العموم. أيّها المسلم، ومن الفسادِ في الأرض الصدُّ عن سبيل الله واتّخاذ ذلك عِوَجا، قال تعالى عن شعيب عليه السلام أنّه قال لقومه: وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِرٰطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَٱذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ [الأعراف:86]. ومن الفسادِ في الأرض العدولُ عن الحقِّ بعد معرفتِه، فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِٱلْمُفْسِدِينَ [آل عمران:63]. مِن الفساد في الأرض سرقةُ الأموال الخاصّة والعامّة، قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى ٱلأرْضِ وَمَا كُنَّا سَـٰرِقِينَ [يوسف:73]. من الفساد في الأرض البدعُ المخالفة لشرع الله، في الحديث: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ))[1]. من أنواع الفساد سفكُ الدّماء المعصومة ـ دماء المسلمين أو المعاهدين ـ بغير حق، فذاك ضربٌ من ضروب الفساد، سفكُ الدّماء وإراعة الآمنين فسادٌ في الأرض، مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِى إِسْرٰءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ٱلأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَـٰهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [المائدة:32]، إِنَّمَا جَزَاء ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى ٱلأرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَـٰفٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلأرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33]. أيّها المسلم، إنّ قصدَ القتل وإراعة الآمنين جريمةٌ نكراء، كبيرةٌ من كبائر الذنوب، في الحديث: ((لَزَوَالُ الدّنيا أهونُ على الله مِن قتل المسلم))[2]، وفي الحديث: ((لا يزال العبدُ في فسحة من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًًا))[3]. إنّ زعزعةَ أمن الأمّة وإراعةَ الآمنين جريمةٌ نكراء، فيها سفكُ الدم المعصوم بغير حق، فيها ترويع الآمنين، فيها إعانة أعداء الإسلام على المسلمين، وهذا مِن أعظم الضلال والمصيبة أن يسعَى العبد في إذلال أمّتِه من غير أن يفكِّر ويتأمَّل، فكلّ هذا ضلال وفساد، مَن سعى في إذلال الأمّة وإيقاع المصائب بينها فذاك والعياذ بالله ساعٍ في الأرض فسادًا شاء أم أبى، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى ٱلأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ [القصص:4]. فليحذَر المسلم أن يكونَ من أهلِ الإفساد من حيث لا يشعر، وليتدبَّر أمرَه، وليتَّق الله فيما يأتي ويذر، وليفكِّر في أيِّ أمرٍ يريده، وليعرِض ذلك على الكتاب والسنة، ليعلَم الخطأ مِن الصواب، فإنّ مَن كان الهوى يقودُه أضلَّه بغير هدى. أيّها المسلمون، إنّ الله جلّ وعلا رتّب على الفساد عقوبةَ عظيمة، قال تعالى: وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِى ٱلأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ [البقرة:204-206]، وقال: وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـٰقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى ٱلأرْضِ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ٱلدَّارِ [الرعد:25]. إنّ سببَ الفساد ذنوبُ العباد ومعاصيهم، ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ [الروم:41]، وَمَا أَصَـٰبَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]. أيّها المسلم، إنّه لا نجاةَ للعباد إلا إذا حارَبوا الفساد، سواء اعتقاديّ فكريّ عمليّ، قال تعالى: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْفَسَادِ فِى ٱلأرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ [هود:116]. إنّ المؤمنَ يفرح للمؤمنين بالطمأنينة والأمن والاستقرار، هكذا يفرح بذلك المؤمن، وغيرُ المؤمن يسوؤه ذلك، امتلأ قلبه حقدًا على أهل الإسلام، وكراهيةً لنعم الله على المسلمين، فسعى في الأرض فسادًا والعياذ بالله، دلَّ ذلك على فسادِ الدين وقلّة الخوف من الله، على التصوُّر الخاطئ الذي يعرِض لكثير من النّاس. إنَّ عدوَّ الله إبليس لا يبالي بالعبد، إن رأى فيه صعودًا إلى الخير ربَّما أغواه حتّى صعد به فغلا غلوًّا أخرجه عن الطريق المستقيم، أو هوى به إلى الحضيض فنأى به عن الخير وأهلِه، وإنّما النجاة في التمسُّك بصراط الله المستقيم، قال جلّ وعلا في كتابه العزيز: وَأَنَّ هَـٰذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام:153]. أيّها المسلم، يا مَن انخدَع بكثير من هذه الآراء الباطِلة أو تصوَّر هذا الباطلَ حقًّا، وقد عرفتَ عِظمَ الجريمة وخطرَها وشرَّها، فبادِر بالتّوبة إلى الله والنّدم على ما مضى والعزيمة أن لا تعودَ إلى هذا الباطل، بادِر بالتوبة إلى الله فالتوبةُ بابُها مفتوح، تخلّص من هذا الفساد بكلِّ أنواعه، وتُب إلى الله من هذه الجريمة، والله يقول: قُلْ يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ [الزمر:53]. إنَّ من تصوَّر حلَّ دماء المسلمين وأنّ دماءهم أمرُها يسير فقد ارتكب أمرًا عظيمًا وجُرمًا كبيرًا، وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93]، و((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة))[4]. فالمسلم يجِب أن يتّقي الله في نفسه، ولا يستعجلَ في أموره، ويتصوَّر كلَّ ما يُدلى إليه، ويزن الأمورَ بالميزان الشرعيّ حتى يسلمَ من دعاة السوء ومروِّجي الباطل والساعين في خداع الأمّة وإذلال الأمّة، ليكن المسلم على حذرٍ مِن هذه الطوائف المختلفةِ والأفكار الهدّامة الآتية للأمة من خارج حدودها، لا يكن مطيةً للأعداء، يسخِّرونه كيف يشاؤون، ويدبِّرون له كيف يريدون، بل ليكن عندَه علم ووعيٌ وحصانة إيمانية، يتصوَّر الباطلَ على حقيقته حتّى يكونَ بعيدًا منه، فمن المصائب التباسُ الحقّ بالباطل، أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء [فاطر:8]. فيا شبابَ الأمّة، اتقوا الله في أنفسكم، وتبصَّروا في واقعكم، واعلموا عظيمَ نعمة الأمن التي تعيشون فيها، فهي نعمةٌ عظيمة سابغة، تفضَّل الله بها عليكم، فاشكروا الله على نعمته، واسألوه الثبات على الحقّ، وتعوَّذوا بالله من زوال النعم وتحوّل العافية وفجاءة النقم، انظروا واعتبروا حال من فقدوا الأمنَ كيف يعيشون، وكيف حالُهم الآن، تدبَّروا غيْركم لتعرفوا واقعَكم وما أنتم فيه من النعم، فلا يتَّخذكم الأعداء مطايًا لهم ليقضوا بكم أغراضَهم وينفِّذوا على أيديكم مخطّطاتِهم، لتكونوا على حذر في أموركم كلّها، فهذا واجبُ المسلم الذي يتّقي الله، الذي يرجو الله ويخافه، أن يتّقيَ الله في المسلمين، يتّقي الله في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، يستقيم على الخير، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويبذل النصيحةَ بالضوابط الشرعية والأصول المرعية التي لا تخلُّ بتوازنه، أمّا أن يكونَ والعياذ بالله في قلبه حِقد أو غلّ، يرى أنّ دماءَ المسلمين حلال، لا يبالي بذلك، فذاك والعياذ بالله نوع من النفاق والفساد. إنّ الخوارجَ في عهد أصحابِ محمد لمّا تنكَّبوا عن الطريق المستقيم وأعرضوا عن الصحابة أئمّة العلم والهدى وانخدعوا بأهوائهم وآرائهم وانخدعوا بمن زيَّن لهم الباطلَ استحلّوا دماءَ المسلمين وقاتلوا المسلمين، كل ذلك والعياذ بالله وهم ينتسِبون إلى دين، لكن سوءُ الفهم وقلّة الإدراك وعدمُ الوعي حملهم على ما حملهم عليه، فليحذَر المسلم سلوكَ هذه الطرق الباطلة، وتدبّروا حالَ أممٍ خاضوا في دمائهم، فقتل بعضهم بعضًا، فقدوا الأمنَ، وفقدوا الخير، وصاروا بعدَ الغِنى في فقر، وبعد العزّة في ذلّ، فاتّقوا الله في أنفسكم، وتبصّروا في واقعكم، واسألوا اللهَ الثباتَ على الحقّ والاستقامة عليه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الصلح (2697)، ومسلم في الأقضية (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها. [2] أخرجه الترمذي في الديات (1315)، والنسائي في المحاربين (3922) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "وفي الباب عن سعد وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وعقبة بن عامر وابن مسعود وبريدة"، وأشار إلى أن وقفه أصحّ من رفعه، وكذا رجّح وقفه البيهقي في الكبرى (8/22)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في غاية المرام (439). [3] أخرجه البخاري في الديات (6862) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه. [4] أخرجه البخاري في الديات (6862) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. | |||
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى. عبادَ الله، لي وقفاتٌ ثلاث: وقفة مع رجالِ الصّحافة والإعلام، ووقفةٌ أخرى مع شبابِنا المسلم، ووقفة أخرى مع الدعاةِ ورجال التربيّة والتّعليم. كلّ هذه الوقفات إنّما يُراد بها الإصلاحُ والدّعوة إلى الخير بما يحقِّق للأمَة صلاحَها واستقامتَها. أولاً: فيا شباب الإسلام، اتّقوا الله في أنفسكم، واتّقوا الله في دينكم وأمّتكم. أيّها الشابّ المسلم، ربّما عرضَت لك شبهة، أو زيّن لك أحدٌ أمرًا وحسّن لك رأيًا، فيا أخي الشابّ المسلم اتّق الله، وإيّاك أن تقبَل كلَّ ما أدلِي إليك، وإيّاك أن تغترَّ بمن تظنّه ناصحًا والله يشهد إنّهم لكاذبون. اتّصِل بعلمائك وعلماءِ أمّتك لتجدَ عندَهم كشفًا لشبهتك، وإزالةَ للبس العارض لك. إن يكن عندك شبهةٌ أو اضطراب في أمر فإيّاك أن تقبلَ من أناسٍ لا ثقة في دينهم، ولا ثقةَ في علمهم وتصوّرهم. اتَّق الله في ذلك، فاعرِض كلّ الشبَه على علماء أمّتك، فإنّ علماءَ أمّتك هم حريصون على تبيين الحقّ وكشفِ كلّ لبس حصل عندك حتى تكونَ في أمورك على المنهج القويم. ولا تنخدعْ بنفسك، ولا تسئ الظنَّ بعلماء أمّتك، ولا تقل كما يقول المتطاولون والكاذبون: أولئك كذا وأولئك كذا. لا، اتّق الله، وأتِ الأمورَ من أبوابها، وسترى عند أهل العلم من رحابةِ الصدر وسعةِ الأفق وحسن التعامل ما ـ إن شاء الله ـ يزيل عنك كلَّ الشبَه التي يمكِن أن يكونَ غرَّك بها مَن غرّك وخدَعك بها مَن خدَعك حتّى ظننتَ أنّ الأخطاءَ والفساد حقّ وصلاح، ظننتَها لقصور علمك ومعرفتك، فأتِ علماءَ الأمّة، واسألهم عمّا أشكل عليك، واعرض عليهم الشبهَ التي عرضَت لك حتّى يكونَ أمرك واضحًا، فيوضحون لك الحقّ، ويبيِّنون لك الباطل، ويزيلون عنك كلَّ لبس عرض عليك، حتى تكونَ في أمورك على منهج قويم وصراط مستقيم، أمّا أن تغترَّ بما يقال، تسمَع من هذه الاتصالات أمورًا يقولونها ونشراتٍ ينشرها من لا يدرَى عنه، وإنّما يريد غشَّ الأمّة والكذبَ وترويجَ الباطل، فهذا أمر لا يجوز أن تعتمدَ عليه، ولا أن تثقَ به، وإنّما ائتِ علماءَ أمّتك، واسألهم عمّا أشكلَ عليك، واعرِض لهم كلَّ الشبَه التي عرضَت لك، لترى كشفَها وإزالتها على وفق ما دلّ الكتاب والسنة عليه إن شاء الله. رجالَ الصحافة والإعلام، اتّقوا الله في أنفسكم، واتّقوا الله في أمّتكم، إنّه وللأسف الشديد نقرأ كثيرًا مِن المقالات التي تنشر في الصحف، يريدون بها حلَّ مشكلة ولكن للأسف الشديد أن حلَّهم زاد الأمرَ شرًّا وسوءا، يريدون حلَّ المشكلة ولكن ما كتبوه زاد المشكلةَ إشكالاً زائدًا. بعضهم يحمل هذه الفتنَ والمصائب وينسِبها إلى مذاهب السلف الصالح، وربّما طعنوا في أئمة الدعوة السلفيّة الصالحة، وقالوا: إنّها كتُب ودعوات تدعو إلى الإرهاب وتكفير المسلمين، ويبرأ إلى الله علماءُ الأمّة من ذلك، فأئمّة الدّعوة السلفيّة سائرون على المنهج القويم، لا يكفّرون الناس، ولا ينشرون الباطلَ، وإنّما يطبّقون النصوصَ الشرعيّة على حسب ما دلّ الكتاب والسنّة عليه، فليس في علماء الدّعوة السلفيّة من يحكم على الناس بالكفر، وليس فيهم من يبدّع الناس ويضلّل الناس، إنما هم في حكمهم على الآخرين على وفق ما دلّ الكتاب والسنّة عليه، يوضحون الحقّ ويبيّنونه، ومَن خالف الحقّ بعدما استبان له الأمر وخالف أصولَ الشريعة حكموا عليه بما حكم الله عليه ورسوله، فأعداءُ هذه الدعوة السلفيّة نسَبوا إليها تكفيرَ العموم، ونسَبوا إليها ما نسبوا إليها، ولهذا لمّا عُرض على شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مقالاتُ أعدائه الذين قالوا: إنّ الشيخ يقول: النّاس كلّهم كفار، والنّاس كلّهم ضلاّل، قال تحتها: سبحانك هذا بهتان عظيم. ما كانوا يكفِّرون النّاس، وما كانوا يحكمون إلا بأحكام الشريعة الواضحة المنهج. فيا أيّها الكتَّاب، اتّقوا الله في أنفسكم، وعالجوا مشاكلَ المجتمع على ضوء الكتاب والسنة. إياكم أن يزلّ اللسان بما قد يوقع الإنسانَ في المهلكة، ((إنّ العبد ليتكلّم بالكلمة من سخط الله ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغت يكتب الله له بها سخطَه إلى يوم يلقاه))[1]. أيّها الدعاة إلى الإسلام، أيّها العلماء والمربّون، اتّقوا الله في أنفسكم، واجعَلوا من منهَج تدريسكم تبصيرَ شبابنا وتوعية شبابِنا، إن شعرتم بشيء مما يخالف الشرع فناقشوهم وحاوروهم، وكونوا معهم حتّى تزيلوا ما علق بالنفوس من شبَه، تزيلوها بالحقّ الواضح والمنهج القويم، فلا غلوَّ ولا إفراط، لا تطرّف ولا إفراط، وإنّما عالِجوا القضايا بحكمة، واحتووا هذا الشبابَ وبصِّروهم وبيِّنوا لهم الأخطاء، وقِفوهم على الحقيقة، وعالِجوا الأمرَ بحكمة فإنّ هذا الشبابَ إذا لم يحتوِه العلماءُ والمربّون ويأخذوا على أيديهم ويرسموا لهم المنهجَ القويم فإنّ هذا الشبابَ أمانة في الأعناق لا بدّ من احتوائهم، ولا بدّ من التلطّف معهم، ولا بدّ أن نزيلَ عنهم كلَّ ما علق بأذهانهم مِن دعاة الإفراط والغلو، من دعاة الفساد والضّلال، ممّن يريدون بالأمّة الشرّ والبلاء، عصم الله الجميع من كلّ سوء. ويا أيّها الآباء الكرام، اتّقوا الله في أبنائِكم، اتّقوا الله فيهم واعتَنوا بتربيتِهم، واسألوهم عن كلّ ما عِندهم، وإذا شمَمتم من أحد شيئًا ممّا يخالف الشرع فاحرصوا على التحاقهم بأحد العلماء وذوي الرأي السديد، ليكشفوا عنهم هذا الباطل، ويبيّنوا لهم الحقّ، ويهدوهم إلى صراط الله المستقيم. إنَّ تعاونَ المجتمع على البرّ والتقوى أمر مطلوب، وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِ وَٱلتَّقْوَىٰ [المائدة:2]. إنّ من يعين المفسدين أو يؤويهم أو يتستّر عليهم أو يرضى بأفعالهم فهو شريك لهم في الإثم، وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ [المائدة:2]. فاحذر ـ أيها المسلم ـ أن تعينَ مفسدًا، واحذَر أن تؤويَ مفسدًا، واحذر أن ترضى بعمل المفسدين، فإنك إن رضيتَ بعمله فأنت شريك له في الإثم والعياذ بالله، وفي الحديث: ((لعن الله من آوى محدِثًا))[2]، فإيواؤه التستّر عليه، وإيواؤه عدمُ الكشف عنه، وإيواؤه الرضا بأفعاله وأقواله وتصرّفاتِه. ليكن المسلم على حذَر أن يعينَ على باطل أو ينصرَ باطلا، بل يكون مع الحقّ ينصر الحقَّ ويدعو إليه. أسأل الله أن يجمعَ القلوبَ على طاعتِه، وأن يهديَ ضالَّ المسلمين، وأن يثبّت مطيعَهم، وأن يرزقَ الجميعَ الاستقامة على دين الله والتمسّكَ بوحيه الكريم، إنّه على كل شيء قدير. واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار. وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسولِه محمّد، كما أمركم بذلك ربّكم قال تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]. اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين... [1] أخرجه مالك في الموطأ (1848)، وأحمد (3/469)، والترمذي في الزهد (2319)، وابن ماجه في الفتن (3969) من حديث بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه، وقال الترمذي: "وفي الباب عن أم حبيبة، وهذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (281)، والحاكم (1/107-108)، وهو في السلسلة الصحيحة (888). [2] جزء من حديث أخرجه مسلم في الأضاحي (1978) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. |