الكرم صار ادعاءً عند العرب وحقيقة في الغرب | ||
اختار الله لي فاخترت لنفسي محاولة قول الحق ولو على نفسي أو أهلي أو قومي حتى لامَني مرة أخي الشيخ عبد الله المعتاز مؤسس إدارة المساجد على كثرة اعترافي العلني بنقائصي، خشية منه أن أقع في الكفر بنعمة الله عليّ وهي عظيمة. وفي المقابل ـ بل في الاتجاه نفسه ـ لم أتوقف عن مخالفة الكثرة من قومي ومن أهل ديني إذ تبيّنت مخالفتهم للحق مستهدياً بقول الله تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّه} [الأنعام: 116]، وقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، وقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] ومثلها كثير: أ ـ تبيّن لي أنَّ الكثرة منا تتبع الفكر (الموصوف زوراً بالإسلامي) والظن والعاطفة؛ واخترت اتباع الهدى من الكتاب والسنة بفهم أئمة القرون المفضلة المعتد بهم استجابة لهدى الله في كتابه قال الله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 36 ]، وقال الله تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23]. ب ـ وتبين لي أن الكثرة منا تنشغل بالمهم عن الأهم في الدين: بحفظ القرآن عن تدبره، وبالنوافل عن الفرائض عموماً، وبالنهي عن الصغائر عن النهي عن الكبائر؛ فاخترتُ العكس استجابة لهدى الله في كتابه، قال الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48]، وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم: (لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم أتيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقُرابها مغفرة) من الحديث القدسي الصحيح، وقوله أيضاً: (حقُّ العباد على الله أن لا يُعذب من لا يشرك به شيئاً) من صحيحي البخاري ومسلم؛ وانشغلتُ بالأهم (الذي لا يكاد أكثر الدعاة يعرفونه أو يهتمون به) أكثر من المهم أو غير المهم الذي يُفْرّطون فيه. ج ـ وتبيّن لي أن الكثرة منا ـ بنزغٍ من الشيطان ـ تُغلِّب التشاوم على التفاؤل وتذكر جوانب الشر على تذكر جوانب الخير في الحياة (حاضرها ومستقبلها) كما قال الله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268]، والنتيجة شَغْل ألسنتهم بالشكوى عن الشكر، وإغراق أفئدتهم بالأسى والشقاء وسوء الظن عوضاً عن الفرح بنعم الله التي لا تحصى؛ فاخترت حُسْن الظن بالله وبقَدره، وركّزت نظري على جوانب الخير من الحياة فسَعِدت. د ـ وتبين لي أن الكثرة منا تعلمتْ من الصحافة الجاهلة انتقاء ونشر أخبار الشر من أفسق مصادرها الظنية، والانشغال بدعوى إصلاح الغير عن إصلاح النفس، ولا أجد هذا بعيداً من أن يحق عليه قولُ الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} [النور: 19]، وهي لا تتحرى إشاعة خبر الفاحشة وحدها في بلاد التوحيد والسنة بل تضم إليها مختلف معاصي الشبهات والشهوات، وقول الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 44]؛ فاخترت تجنب قبول ـ فضلاً عن نشر ـ أخبار وسائل الإعلام العربية من الجريدة والإذاعة والإشاعة إذْ ينافي ذلك أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالتثبت قبل قبول الخبر أو نقله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، وقوله: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] .. ولا أستثني من وسائل الإعلام أكثر الموصوف منها بالإسلامية. هـ ـ وعنوان هذا المقال مَثلٌُ آخر لانتقائنا وتلقينا ونشرنا خبر الشر وإعراضنا عن خبر الخير عن الغير من جهة، وادعائنا ومَدْحنا لأنفسنا بما لا نفعل مخالفة لشرع الله قال تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ} [المائدة: 8]، {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3]، {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ} [آل عمران: 188]، وإليك تفصيل البيان بقدر الإمكان والمكان: 1ـ الكرم من أهم صفات الخير التي ندَّعي تميُّز العرب بها عن العجم، ولدينا شواهد نادرة على ما في هذا الادعاء من حق من الجاهليين: حاتم الطائي من بلاد نجد (بصرف النظر عما ألحق التاريخ والأدب العربي بسيرته من مبالغات) ومن الملوك: الملك سعود ابن عبد العزيز آل سعود أول ملوك آل سعود الذين أدركْتُهم بعد تجاوزي مرحلة الطفولة (رحمهم الله)، ورأيت بأم عيني كرماً بالنفس والمال والوقت، وأعرفُ كهلاً ضعفت ذاكرته عن تذكر أسماء أولاده فإذا قيل له (أبو خيرين) تذكر اسم أحدهم (سعود)، وهو لقب خاص بالملك سعود، وميزه الله على حاتم الطائي بإفراد الله بالعبادة، وعندما زار جامعة عليكره بالهند غطّتْ دولتها جميع التماثيل والنصب والأصنام في طريقه للجامعة، وميزه الله على حاتم الطائي بخدمته للإسلام ـ عالمياً ـ بتأسيس الجامعة الإسلامية بالمدينة في قصره الخاص به، وخدمة العلم الشرعي ـ عالمياً ـ بجمع وطبع فتاوى الإمام ابن تيمية لأول مرة في التاريخ، وخدمة الإسلام بتأسيس كلية الشريعة (الأولى من جامعة الإمام محمد بن سعود فيما بعد)، ومن كرمه بالمال أنه يزور (ولا ينتظر الزيارة مثل حاتم) يزور مدينة مثل تيماء فلا يغادرها وفيها رجل أو امرأة أو طفل لم ينل جائزته، وأعلمُ من كرمه بنفسه ووقت راحته أنَّ أحد مواطني شقراء رحل إليه يطلب إعانة لعلاج شلل ابنه، فلم يصل إلى قصره إلا بعد أن أوى إلى فراشه في الثلث الأول من الليل، ولم يكن للمواطن مكان يأوي إليه في الرياض، ولم يكن الناس يومها عرفوا الفنادق، ولما أبلغ الملك سعود رحمه الله بقدومه خرج إليه بثياب النوم وأخرج له من جيبه خمسة آلاف ريال (تساوي اليوم خمسين ألفاً على الأقل)، وممن عرفت من نوادر كرام العرب حقاً من العلماء العاملين الدعاة إلى الله على بصيرة: الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله؛ كان ابن باز يسع الناس بصبره وحلمه وكرمه وعلمه (من يوافقه منهم ومن يخالفه)، وكانت يده مثل يد الملك سعود (مخروقة كما يقول المثل المحلي) وكان ـ مثله ـ يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وقد فوض أخي إبراهيم في ذلك بلا حساب وقد كتبت من قبل عن تميّز آل الجميح وابن سليمان وأبا حسين رحمهم الله بتوفير وإيصال المياه إلى كل بيت في مدنهم وقراهم وغير ذلك من أنواع الكرم والإحسان، وتميز آل الجميح بكفالة (130) داعٍ إلى الله على منهاج النبوة حتى اليوم منذ عشرين سنة، ولا عبرة بالدعوة والدعاة على غير هذا المنهاج. 2ـ ولكن من نَصِمُهم بالمادية والبُعْد عن العدل والكرم والإحسان من نصارى أوروبا وأمريكا يُقدمون أمثلة نادرة للكرم والإحسان لا يعرفها عرب العصر، ولا يصلون إليها بل ولا يبحثون عنها ولا يتناقلونها جرياً على عادتهم الانشغال بأخبار الشر عن حكامهم وغيرهم، واحتكار دعوى الكرم لأنفسهم، مع أنَّهم بلغوا مبلغاً من الشح يليق به أن يُضرب به المثل، وليكون القارئ على بينة في متناول يده وبصره فليجرّب إيقاف سيارته إلى جدار أخيه في الإسلام والعروبة (ولو لم يكن له ظل، ولو لم يمنع أهله من الاستفادة منه بأي حال) فضلاً عن طلب عونه أو ماله أو طعامه. 3ـ تبرَّع (أندروكارنيجي) من عام 1902م إلى عام 1919م بما يعادل سبعة آلاف مليون دولار. 4ـ تبرَّع (جون ركفلر الأب) من عام 1889م إلى 1937م بما يعادل سبعة آلاف مليون دولار. 5ـ تبرع (جون ركفلر الابن) من عام 1927م إلى 1960م بما يعادل خمسة آلاف وخمسمائة مليون دولار. 6ـ تبرع (بِلْ كيتز) في خمسة أعوام ماضية بعشرة آلاف مليون دولار، وتقوم معه زوجته على مؤسسة للإحسان بثلاثين ألف مليون دولار، وأعلن التقاعد ليتفرغ لمحاولة القضاء على الملاريا والسل والإيدز في قارتي أفريقيا والهند، وتطوير المكتبات والمدارس الثانوية في أمريكا، (لاشيء يذكر لمجلس الكنائس العالمي كما يدعي الحركيون والحزبيون الإسلاميون عذراً للحصول على فوائد البنوك العالمية وزيادة التبرعات لمؤسسات الإغاثة الإسلامية التي تصب في خزائن أحزابهم، هداهم الله وكفى الإسلام والمسلمين شرورهم وفتنهم). 7ـ قبل أيام أعلن (وَرنْ بَفِتْ) التبرع بخمسة وثمانين في المئة من ثروته (تقدر اليوم بسبعة وثلاثين ألف مليون دولار أمريكي) ويترك لورثته 15% الباقية توفر لهم مستوى من العيش لا يغريهم بترك العمل، وأكثر تبرعاته كانت لمؤسسة (كيتز) للإحسان وتُصْرف في مصارفها لمكافحة الأمراض وللتعليم. و ـ وللكرم بالنَّفس والجهد والوقت (والمال) في الغرب أمثلة لا تحصى أختار للقارئ منها نماذج مختلفة تيسَّر لي الاطلاع عليها على قلة اطلاعي: 1ـ أصيبت فتاة أمريكية ليلة زواجها في حادث مروري بالشلل، فانتظرها زوج المستقبل سبع سنوات حتى تمكنت من المشي متكئة على أبويها لإتمام إجراءات الزواج بعد أن فقدت أهم مزاياها في الحركة والنطق والشكل. 2ـ داوم متبرع مجهول على إعانة مطبخ للفقراء في نيويورك، ولما بلغت تبرعاته (15) مليون دولار، حقق صحفيٌ الأمر حتى عرف اسم المتبرعة ونشره في صحيفته؛ فخيرته بين تكذيب الخبر أو المحاكمة، فاضطر إلى تكذيب الخبر احتراماً لها وخوفاً منها. 3ـ طالب طفل (11سنة) مدرَسته بالإذن له بتقديم فائض الطعام للمحتاجين فاعتذرتْ بتعقيد الأنظمة خشية التسمم، فرفع شكواه للإدارة التعليمية في المنطقة، وبعد عدة محاولات وافقت إدارة الصحة على تخفيف الإجراءات ـ في مقابل إلحاحه ـ عدا شرط التعليب الصحي، وأجاب مصنع لتعليب الطعام طلبه فزوده بكمية كبيرة من علب الطعام، ولما بلغ (16سنة) كان قد تم له توزيع375000 وجبة غذائية؛ فرشحته مدرسته للتكريم في البيت الأبيض، وبعد أن وضعت زوجة الرئيس الأمريكي (كلينتون) المدالية على قميصه سألها عن أهم ما يشغل باله: (ماذا تفعلون بفائض الطعام في البيت الأبيض؟). 4ـ خرج مواطنٌ أمريكي في يوم إجازته لصيد السمك فوجد من سبقه إلى فُرْضة الصيد، وبعد فترة قصيرة من التعارف تبين أن أحدهما يأخذ راتباً من (الضمان الاجتماعي) لحاجته يومياً إلى (غسيل) لعطل كليتيه عن أداء وظيفتهما، وتلاقيا بعد يومين أو ثلاثة وقد وصل الآخر إلى قرار منح إحدى كليتيه لمواطن لا يكاد يعرفه، لماذا؟ خشي ألا يجد في مستقبل حياته ما يقدمه للغير خيراً من ذلك. 5ـ عَرفتْ مقدمة برنامج تلفزيوني في (شيكاغو) عن عاملة متميزة بحسن الخلق يقصد الناس محل الوجبات السريعة الذي تعمل فيه من أجل حُسْن خُلُقها، وعرفت أنها ـ براتبها الضئيل ـ تسكن في شقة صغيرة (3 غرف وحمام ومطبخ) وقد اضطرت لكفالة ستة أطفال لبعض أقاربها (مع أطفالها الثلاثة) إنقاذاً لهم من الحياة في الملجأ؛ فأهدتها بيتاً كامل التأثيث يتسع لحاجتها وكرمها وخلقها .. أيهما أكثر كرماً؟؟!!. ومقدمة البرنامج التلفزيوني هذه تقوم على مؤسسة للإحسان، وتقدر تبرعاتها في خمس سنوات مضت بمئتين وخمسة وسبعين مليون دولار أمريكي، ومن أمثلة تبرعاتها: تقديم الألعاب والأدوات المدرسية لجميع الأطفال في منطقة فقيرة في جنوب أفريقيا، وبناء بيوت لعدد ممن فقدوا بيوتهم في إعصار كثرينا، وإهداء كل حضور إحدى حلقات برنامجها نوعاً من كل ما تحبه لنفسها من الكسوة والطعام، وفي حلقة أخرى أهدت سيارة لكل من حضر الحلقة بما لا تقل قيمته عن سبعة ملايين دولار. 6ـ (تايكرود) أول زنجي يشتهر في لعبة الكولف، ابتكر مدرسة للنشاط الإضافي توفر جميع أنواع الآلات والأدوات والتجارب والتدريب للأطفال (وبخاصة المحتاجين) كلَّفه إنشاؤها وتجهيزها خمسة ملايين دولار في ولاية كلفورنيا، ويرغب في إنشاء مثلها في كل الولايات الأمريكية ثم في المناطق الأكثر حاجة في العالم، لماذا؟ لأنه حُرِم منها في صغره، ولحفظ طلابها من شرور الأسواق بعد الدارسة، وليقدم لهم نوعاً حراً ومسلياً ومفيداً من الفكر والعمل يشغلهم عن مغريات الشر. 7ـ أحد القائمين على مؤسسة ناجحة للتسوق والتسويق بالأنترنت أهمَّه أمر الفقراء المضطرين للعمل فيما سمَّاه جمال عبد الناصر بالإقطاع الزراعي بما يشبه الرق المنتشر في الهند؛ فعمل حتى الآن على كفالة أكثر من سبعين ألف فرد بما يغنيهم عن الرق العملي. 8ـ موسيقيٌ لم يتوفر عنده من المال ما يتبرع به فوظف مهارته الوحيدة في محاولة تخفيف أثر الأسى عن قلوب ووجوه (60) من الأطفال المرضى الذين لا يُرجى بُرْؤهم، يزور الطفل ويعرف أحب أسمائه وألقابه إليه وأحب الألعاب والحيوانات وأنواع الطعام والشراب والناس إليه، ويغيب عنه يومين أو ثلاثة فيؤلف أغنية باسمه تذكره بكل ما أحب في دنياه ويسجل ذكرياته الطيبة في حياته القصيرة، ثم يلحنها ويغنيها ويفاجئه بها مسجلة، ثم يودّعه متمنياً له الشفاء بعد أن يغنيها أمامه على آلته الموسيقية. 9ـ شابّ مات في سيارته بسبب شاب آخر لم يستجب لإشارة المرور بسبب السُّكر، وهو وحيد والديه اللذين لم ينجبا ولن ينجبا غيره، وكانت مصيبتهما كبيرة لا يخففها الغضب ولا الحزن ولا محاولة الانتقام من القاتل؛ فاختارا التنازل عن كل حق لهما عليه بشرط ابتعاده عن السكر وبالتالي عن قيادة السيارة تحت تأثير المسكر، وأن يقبل مراقبتهما له للتأكد من ذلك .. قالا: لله حكمةٌ فيما حدث لا نعلمها، ولن يعزينا عن فقد ابننا الوحيد إلا أن نجعل موته سبباً في شفاء قاتله من إدمانه حتى لا يؤذي نفسه ولا غيره. 10ـ زوجان عجزا عن الإنجاب وخسرا مدخراتهما في العلاج ثم محاولة التبني، وبعد أن غلبهما اليأس إلا من الدعاء فوجئا بإحدى مؤسسات التبني تخبرهما بأن متبرعاً لا يريد أن يُعرف اسمه تكفل بمصاريف تبنيهما طفلاً من رومانيا تبلغ بين 10.000و 12.000دولار أمريكي، وحقق الله رغبتهما بعد أن وطنا نفسيهما لمستقبل بلا ولد. 11ـ موظفة في إدارة شركة الطيران الأمريكي فقدت أباها فجأة فصُعقت، ولما أفاقت من أثر الصدمة المفاجئة تبين لها أن مدى الحياة قد يكون قصيراً أكثر من المتوقع فطلبت النزول من وظيفة الإدارة إلى (مضيفة) على الطائرة حيث يتوفر لها ـ براتب أقل ـ السياحة والوقت وبالتالي: معرفة سبل النفع العام، وبدأت بجمع قطع الصابون والشامبو المستعملة في الفنادق وإيصالها إلى اللاجئين البوسنيين، ورأت بعضهم يبكون من الفرح بهذه الهدية الصغيرة؛ فأسست منظمة تطوعية بلغ عدد أفرادها (3000) لنقل الأدوية والغذاء والكساء، بل مرافقة (20) طفلاً شهرياً للعلاج في أمريكا أو للتبني، ولما طلبت من مدير أحد فنادق (هِلْتُن) أن يسمح لها باستعمال حيز للتبريد في فندقه وافق على طلبها وزاد بإعطائها ما لم تطلب: إسكان العاملين معها في فندقه مجاناً، كما أعطتها شركة الطيران حيزاً مجانياً للشحن الجوي، وكان تعليقها على هذا ومثله كثير: (اعمل الخير ينفتح لك من الأبواب الموصدة ما لم تقرعه). 12ـ جاءت راهبة أوروبية شابة للاعتكاف في دير بإحدى المناطق الفقيرة النائية بالهند، وأثناء سفرها بالقطار شاهدت ما لم تتخيله من المرض والجهل والفقر؛ فاقتنعت بأنها سترضي الله بخدمة عباده (ولو على غير دينها) أكثر مما ترضيه باعتكافها وعزلتها عن العالم لعباده، فقضت 60سنة (حتى ماتت) في علاج المريض وتعليم الجاهل وإطعام وإكساء الفقير، وعُرفت باسم (الأم تريزا). 13ـ وجاءت راهبة أوروبية شابة وأقامت مع الزبالين على أكوام الزبالة في طرف صحراء مصر، وبدأت بتعليم الأطفال جميعاً (لأول مرة في حياتهم) القراءة والكتابة والحساب، والخياطة للبنات، والدين الذي تعتنقه للنصارى منهم. وبعد عشرات السنين حصلت من إعانات المؤسسات الدولية على ما مكنها من بناء مدرسة مهنية في العباسية وبقربها كنيسة، وبنت أول مسجد في منطقة الزبالين، وزُرت المنطقة بعد 30سنة من معرفتي بها، فوجدتها منطقة سكنية بعد أن نقل مكب الزبالة إلى منطقة أبعد في الصحراء. 14ـ صاحب مطعم أسماك أصيب بنوبة قلبية اضطرته للانقطاع عن العمل مما يهدد بالقضاء على مصدر رزقه، فتطوعت شابة تشترك في ملكية مطعم منافس للقيام بعمله حتى شُفي، فجعلها شريكة في ملكية مطعمه؛ إذ لا يقدر على مكافأتها بأكثر ولا أقل من ذلك، يقول: (قبل أيام توقفت لإعانة سائق نفد من سيارته الوقود؛ فقال لي: سيكافئك الله على ذلك، ولم أتوقع المكافأة بهذه السرعة)، ولم تتوقع الشابة أيضاً مكافأة منه في حال مرضه وعجزه وكبر سنه وحاجته. 15ـ زوجتا قتيلين في مبنى مركز التجارة العالمي - نيويوك فقدا الزّوج والعائل وظنا أن حياتهما انتهت بقتله، ولكنهما بحثتا عن السبب في مصيبتهما فوجدتا أن الإرهابيين الذين قتلوا أنفسهم وغيرهم دون حق دُرِّبوا في أفغانستان فاتفقتا على السفر إليها والوقوف على الحقيقة دون الاكتفاء بما تنشره وسائل الإعلام، وهنا ثبت لهما أن الاعتداء نتج عن الجهل بالدّين والتقرب إلى الله بمعصيته، ولكنهما وجدتا أن عدد الأرامل في أفغانستان يفوق عددهن في أمريكا أضعافاً مضاعفة بسبب القتال بين المجاهدين ودولتهم بعون من روسيا ثم بين المجاهدين أنفسهم ثم بين طالبان والمجاهدين ثم بين الاثنين ودول التحالف، فوجدا أن خير عزاء لهما جمع الأموال والمتاع والدواء لأرامل أفغانستان. ز ـ كيف يتميز الأوروبيون والأمريكيون بالإحسان في بلاد المادية والرأسمالية والعلمانية؟ 1ـ قال الله تعالى عن النصارى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد: 27]. 2ـ يقتدي (ورن بفت) الذي تبرع بـ 85% من ثروته و(بل كيتز)الذي تبرع بأكثر ثروته كذلك ويقتديان بـ(كاينجي) الذي سبقهما إلى الإحسان في أول القرن الماضي بتبرعه بما يعادل اليوم أكثر من 7000 مليون دولار أمريكي؛ إذ يقول: (الثروة التي ساعَدنا الناس على جمعها يليق بنا أن نعيده عليهم)، وهذا أقرب إلى العدل والعقل من فكر سيد قطب واقتداء جمال عبد الناصر به (تجاوز الله عنهم): أخذ أموال الأثرياء وممتلكاتهم بالباطل عنوة وتوزيعها ـ مخالفة لشرع الله ـ على الناس. 3ـ ويقتدي المحسنون بالعمل والقول بحكمة شرعية: (عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به). ح ـ لماذا أخص حسنات النصارى بالذكر هنا؟ لأني اخترت لنفسي التفاؤل على التشاؤم والتركيز على الخير أكثر من الشر، ولأن أكثرنا يحصي سيئات غيرنا ويبالغ (ويكذب على من يعده عدداً ولا حرج مخالفةً لشرع الله)، وينقل أخبار السوء ويتجنب أخبار الخير، خُذ مثلاً من مجلة توصف خطأ بالإسلامية اسمها (نون) ومن العدد السابع الذي جاءني دون سعي إليه، وقد خصصتْ صفحة (11) لأخبار العالم بالعناوين التالية: (دبلوماسيون يبيعون الخمور في البرازيل)، (معركة زوجية بالقنابل والمسدسات والسكاكين)، (سجون سرية أمريكية للصحفيين على الأرض الكرواتية، نقلاً عن برنامج تلفزيوني روسي)، (الحكم بسجن ألمانية لتسميمها ابنة زوجها بالملح)، (جنون الصرعات)، (لص أفرج عنه للتو يسرق سيارة من مركز للشرطة، وتصف المجلة اللص المزعوم بأنه صاحب طموح)، (تنزانية تغفل عن طفلها لدقائق فتفاجأ به يرضع من كلبة، وتصف المجلة الكلبة أنها قد تكون أحن من الأم)، (إدانة جزّار امتهن جراحة التجميل، وتقف المجلة في صف المجرم المزعوم بقولها: يستاهلون أهل جراحة التجميل)، (رقم قياسي للانتحار الجماعي عبر الأنترنت في اليابان). هذه هي أخبار المجلة الإسلامية كما (زعموا) من أولها إلى آخرها، ومع أنها أحدث مثيلاتها لم تستفد من التجارب السابقة خيراً لانشغالها بالقدوة الفاسدة: أسْرفتْ في الورق والألوان والصور، والله {لا يحب المسرفين}، تكلَّفت (12) صورة للشيخ ابن جبرين وفقه الله (وهو وحده العالم بشرع الله بين عدد من مفكريها الإسلاميين): صورتان لتطييب لحيته، وست صور لجلوسه، وأربع صور لوقوفه، وأعطت المفكرين الإسلاميين نصيبهم من الصور بمختلف اللفتات والسكنات وكأن المحرر خاطبة تعرض عرائسها على طالبي القُرْب. ولا أعرف لهم قدوة قبل دواوين نزار قباني وهي ـ فيما أعلم ـ أول منشور عربي بالألوان، وعندما ظهر أولها منذ نصف قرن كتب الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله يقول: (ظهر ديوان جديد لنزار قباني كالمومسة مزوّقٌ بالأحمر والأصفر)، والألوان قد تليق بديوان شعر إباحي، ولكنها لا تليق بمجلة توصف بالإسلامية. ولأن المجلة لم توفق للقدوة الصالحة خرجت عن منهاج الوحي والفقه واليقين، ووقعت في مناهج الفكر والظن والعاطفة، لم يكن أكبر همها الأمر بأعظم ما أمر الله به: إفراد الله بالعبادة واتباع السنة، ولا النهي عن أعظم ما نهى الله عنه: الشرك بالله في عبادته وما دون ذلك من البدع ـ فيما ظهر لي منها ـ وفي المقال الوحيد الأقرب إلى السنة للشيخ ابن جبرين وفقه الله، نقلت عنه ما لم يرد في كتاب ولا سنة، ولا عن خليفة راشد، ولا صحابي، ولا فقيه معتد به من التابعين أو تابعيهم في القرون المفضلة عن الرقية من العين: (بسم الله أعطيك من كل حبس حابس وحجر يابس وشيئ قابس، زددت عين العائن عليه وعلى أحب الناس إليه)؛ فليس في سند هذه الرقية ولا متنها ما يوثق به، وهي أقرب ما تكون إلى سجع الكهان، وفيها من الاعتداء في الدعاء ما يخالف شرع الله، كيف يؤخذ أحب الناس إلى العائن بجريرته، وأحب الناس إليه أبواه بعد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ـ وقال الله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. ولمحتُ إشارةً إلى ضيق المجلة من (انتقاد لا نقد) الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر لها، ووصفها ـ احتمالاً ـ بمحاربة المجلات الإسلامية. وليس بمستغرب على مثلها عدم التفريق بين إشاعة الفاحشة في المسلمين للتسلية أو التشفي أو الترويج وهو المحرم، وبين بيان المنكر المخالف لشرع الله إذا قُدِّم للناس بدعوى أنه الحق ليلبس به الشيطان عليهم دينهم؛ فإن هذا هو النهي عن المنكر الذي ميز الله به هذه البلاد وهذه الدولة المباركة، وهذا لا يعني اتهام النيات فعلمها عند الله وحده، والعدل في إحسان الظن بالنية، وبيان الحق ونشره، وبيان الباطل ومحاربته، والدعاء للجميع بالهداية لأقرب من هذا رشدا. ط ـ مرة أخرى لعلنا نَفهم ونُفهم: لا يجوز اتهام النيات ولا تجوز الغيبة، ولا تجوز الشماتة بالمخطئ، ولا الغرور بدعوى الانتماء للإسلام والسنة والدعوة والإصلاح، وفي الوقت نفسه لا يجوز السكوت عن الخطأ الظاهر من القول والعمل إذا صدر عمن يُخشى الاقتداء به (بخاصة)، على أن يجمع الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بين بيان الحق وبين رحمة الخلق. ي ـ ومرة أخيرة لعلنا نفهم ونفهم: أكبر خطر على الإسلام والمسلمين أحرى به أن يأتي من الدعاة إليه على ضلالة أي: على غير منهاج النبوة المعصومة؛ فاحتمال أن يأخذ المسلم دينه عن أخيه الداعي إلى الإسلام (على الابتداع وهو لا يدري) أكثر ـ بكل المعايير ـ من احتمال أن يأخذه من يهودي أو نصراني أو وثني أو علماني. ى ـ وظُلم العربي للعربي وظلم المسلم للمسلم اليوم فاق كل ظلم، قارن ما سماه جمال عبد الناصر بالاستعمار الغربي في الكويت ـ مثلاً ـ عشرات السنين، وكان من آثاره: استخراج النفط، وسفلتة الطرق، وإدخال الكهرباء والماء والغاز للبيوت، وانتشار التعليم العصري، وتحقيق أفضل بنية تحتية ومستوى دخل في العالم العربي والإسلامي بل في أكثر بلاد العالم، قارنه باحتلال العراق المنتمي للعروبة أولاً (ثم للإسلام) سبعة أشهر من جحيم الاشتراكية العربية والسلب والنهب والفجور والظلم الديني والدنيوي وانتهى بحرق (700) بئر نفط حقداً وحسداً وعدواناً، وصفّق له كل العرب والمسلمين إلا الأقلون في الخليج أو في دول قليلة لم تعلن تأييد الإجرام مثل مصر وسوريا لأسباب مختلفة، وكان أكثر مؤيدي الإجرام المفكرون والحركيون والحزبيون الموصوفون زوراً بالإسلاميين. هدى الله الجميع لدينه الحق وردهم إليه رداً جميلاً. |