الاسناد خصيصة هذه الأمة

الإسناد خصيصة هذه الأمة

والجرح والتعديل قائم في الرواة

ما بقي هذا الدين

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه أما بعد :

فقد سبق أن كتبت ثلاث مقالات في الجرح والتعديل، وبينت فيها أن أهله القائمين به لحفظ رسالة الإسلام وصونها من الكذابين والمبتدعين هم أئمة الحديث والجرح والتعديل المُسَلَّمْ لهم بهذا الشأن والمُقتدى بهم فيه.

وأنه أصل مستمرٌ في هذه الأمة ما دام هناك حقّ وباطل، وضلال وهدى وكفر وإيمان، وكل مقتضيات الجرح والتعديل.

وذلك ردّ على بعض أهل الجهل والأهواء في مقالات لهم نشروها في أحد مواقع الفتن التي أُنشِئت لحرب السنة وأصولها، وحملتها السابقين واللاحقين !! واليوم أضيف مقالة جديدة لعلها تقضي بأذن الله على كلّ أباطيلهم وتقطع ألسنتهم بحول الله الحافظ لدينه والناصر لأنصاره.

قال أبو محمد ابن حزم :

 " ونحن إن شاء الله تعالى نذكر صفة وجوه النقل الذي عند المسلمين لكتابهم ودينهم ثم لما نقلوه عن أئمتهم حتى يقف عليه المؤمن والكافر والعالم والجاهل عياناً إن شاء الله تعالى فيعرفون أين نقل سائر الأديان من نقلهم فنقول وبالله تعالى التوفيق إن نقل المسلمين لكل ما ذكرنا ينقسم أقساماً ستة :

أولها: شيء ينقله أهل المشرق والمغرب عن أمثالهم جيلاً جيلاً لا يختلف فيه مؤمن ولا كافر منصف غير معاند للمشاهد وهو القرآن المكتوب في المصاحف في شرق الأرض وغربها لا يشكون ولا يختلفون في أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أتى به وأخبر أن الله عز وجل أوحى به إليه وأن من اتبعه أَخذه عنه كذلك ثم أَخذ عن أولئك حتى بلغ إلينا ومن ذلك الصلوات الخمس فإنه لا يختلف مؤمن ولا كافر ولا يشك أحد أنه صلاها بأصحابه كل يوم وليلة في أوقاتها المعهودة وصلاها كذلك كل من اتبعه على دينه حيث كانوا كل يوم هكذا إلى اليوم لا يشك أحد في أن أهل السند يصلونها كما يصليها أهل الأندلس وأن أهل الأرمينية يصلونها كما يصليها أهل اليمن وكصيام شهر رمضان فإنه لا يختلف كافر ولا مؤمن ولا يشك أحد في أنه صامه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وصامه معه كل من اتبعه في كل بلد كل عام ثم كذلك جيلاً جيلاً إلى يومنا هذا وكالحج فإنه لا يختلف مؤمن ولا كافر ولا يشك أحد في أنه عليه السلام حج مع أصحابه و أقام المناسك ثم حج المسلمون من كل أفق من إلا فاق كل عام في شهر واحد معروف إلى اليوم وكجملة الزكاة وكسائر الشرائع التي في القرآن من تحريم القرائب والميتة والخنـزير وسائر شرائع الإسلام وكآياته من شق القمر ودعاء اليهود التي تمنى الموت وسائر ما هو في نص القرآن مقروء ومنقول.

وليس عن(1) اليهود ولا عند النصارى في هذا النقل شيء أصلاً لأن نقلهم لشريعة السبت وسائر شرائعهم إنما يرجعون فيها إلى التوراة ويقطع نقل ذلك ونقل التوراة أطباقهم على أن أوائلهم كفروا بأجمعهم وبرؤُا من دين موسى وعبدوا الأوثان علانية دهوراً طوالاً ومن المحال أن يكون ملك كافر عابد أوثان هو وأمته كلها معه كذلك يقتلون الأنبياء ويخنقونهم ويقتلون من دعا إلى الله تعالى يشتغلون بسبب أو بشريعة مضافة إلى الله سبحانه تعالى عن هذا الكذب الذي لا شك فيه.

ويقطع بالنصارى عن مثل هذا عدم نقلهم إلا عن خمسة رجال فقط وقد وضح الكذب عليهم إلى ما أوضحنا من الكذب الذي في التوراة والإنجيل القاضي بتبديلهما بلا شك.

والثاني: شيء نقلته الكافة عن مثلها حتى يبلغ الأمر كذلك إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ككثير من آياته ومعجزاته التي ظهرت يوم الخندق وفي تبوك بحضرة الجيش وككثير من مناسك الحج وكزكاة التمر والبر والشعير والورق والإبل والذهب والبقر والغنم ومعاملته أهل خيبر وغير ذلك مما يخفى على العامة وإنما يعرفه كواف أهل العلم فقط وليس عند اليهود والنصارى من هذا لنقل شيء أصلا لأنه يقطع بهم دونه ما قطع بهم دون النقل الذي ذكرنا قبل من إطباقهم على الكفر الدهور الطوال وعدم ايصال الكافة إلى عيسى عليه السلام.

والثالث: ما نقله الثقة عن الثقة كذلك حتى يبلغ إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يخبر كل واحد منهم بإسم الذي أخبره ونسبه وكلهم معروف الحال والعين والعدالة والزمان والمكان على أن أكثر ما جاء هذا المجيء فإنه منقول نقل الكواف إما إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من طرق جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وإما إلى الصاحب وأما إلى التابع وإما إلى إمام أخذ عن التابع يعرف ذلك من كان من أهل المعرفة بهذا الشأن والحمد لله رب العالمين وهذا نقل خص الله تعالى به المسملين دون سائر أهل الملل كلها وبناه عندهم غضاً جديداً على قديم الدهور مد أربعمائة عام وخمسين عاماً في المشرق والمغرب والجنوب والشمال يرحل في طلبه من لا يحصى عددهم إلا خالقهم إلى الآفاق البعيدة ويواظب على تقييده من كان الناقد قريباً منه قد تولى الله تعالى حفظه عليهم والحمد لله رب العالمين فلا تفوتهم زلة في كلمة فما فوقها في شيءٍ من النقل إن وقعت لأحدهم ولا يمكن فاسق أن يقحم فيه كلمة موضوعة ولله تعالى الشكر وهذه الأقسام الثلاثة التي نأخذ ديننا منها ولا نتعداها إلى غيرها والحمد لله رب العالمين "([1]). وذكر بقية الأقسام فلا نطيل بذكرها.

وقال أبو بكر الخطيب البغدادي :

" أخبرنا محمد بن عيسى بن عبد العزيز البزاز بهمذان قال حدثنا صالح ابن أحمد الحافظ قال سمعت أبا بكر محمد بن أحمد يقول بلغني أن الله خص هذه الأمة بثلاث أشياء لم يعطها من قبلها الإسناد والأنساب والإعراب

أخبرني أبو بكر محمد بن المظفر بن علي الدينوري المقرىء قال حدثنا إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي قال سمعت أبا العباس محمد بن عبد الرحمن الدغولي السرخسي يقول سمعت محمد بن حاتم بن المظفر يقول : إن الله أكرم هذه الأمة وشرفها وفضلها بالإسناد وليس لأحد من الأمم كلها، قديمهم وحديثهم، إسناد وإنما هي صحف في أيديهم، وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم، وليس عندهم تمييز بين ما نزل من التوراة والإنجيل مما جاءهم به أنبياؤهم، وتمييز بين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التي أخذوا عن غير الثقات.

وهذه الأمة إنما تَنُصّ الحديث من الثقة المعروف في زمانه، المشهور بالصدق والأمانة عن مثله حتى تتناهى أخبارهم، ثم يبحثون أشد البحث حتى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ والأضبط فالأضبط، والأطول مجالسة لمن فوقه ممن كان أقل مجالسة.

ثم يكتبون الحديث من عشرين وجهاً وأكثر حتى يهذبوه من الغلط والزلل، ويضبطوا حروفه ويعدوه عداً فهذا من أعظم نعم الله تعالى على هذه الأمة.

نستوزع الله شكر هذه النعمة، ونسأله التثبيت والتوفيق لما يقرب منه ويزلف لديه ويمسكنا بطاعته إنه وَليّ حميد"([2]).

قال الشيخ عبدالحي الكتاني :

"وفي شرح الاسم الثاني عشر ومائة من سراج المريدين للقاضي أبي بكر بن العربي المعافري ما نصه : والله أكرم هذه الأمة بالإسناد،لم يعطه أحد غيرها، فاحذروا أن تسكلوا مسلك اليهود والنصارى فتحدثوا بغير إسناد فتكونوا سالبين نعمة الله عن أنفسكم، مطرّقين للتهمة إليكم وخافضين لمنـزلتكم، ومشتركين مع قوم لعنهم الله وغضب عليهم، وراكبين لسنتهم. اهـ ، ومن نسخة عليها خطه نقلت.

 وأورد أيضاً في شرح الاسم الحادي والعشرين والمائة "من سراج المريدين" قصة تضمنت كرامة لحافظ الإسلام بقي بن مخلد اتصل به من طريق أهل العراق فقال: أما غرابة سندها فرجل -يعني نفسه- رحل من إشبيلية فلقي بمدينة السلام رجلا حدثه عن رجل من أهل تيناعورا أخبره عن رجل كان بالأندلس، وهذا من مفاخر هذه الأمة، فالعلم حدثنا وأخبرنا وما سوى ذلك وسواس الشيطان اهـ.

قال بعض الأعلام في صدر ثبت له: وكفى الراوي المنتظم في هذه السلسلة شرفاً وفضلاً وجلالةً ونبلاً أن يكون اسمه منتظماً مع اسم المصطفى في سطر واحد، على رغم أنف الحاسد المعاند، وبقاء سلسلة الإسناد من شرف هذه الأمة المحمدية، واتصالها بنبيها خصوصية لها بين البرية.

وقال الأستاذ أبو سعيد ابن لب: وحسبك بها شرفاً تتعلق به لذوي الآمال، وتبذل في تعاطيه مع الأموال. ثم قال: والعجب بن مسلم ينكر الرواية وهي نور الإسلام، ثم أنشد:

وما انتفاع أخي الدنيا بناظره

 

إذا استوت عنده الأنوار والظلم

وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر : الإجازة في العلم رأس مال كبير أو كثير . اهـ

وقال ابن حجر الهيثمي: لكون الإسناد يعلم به الموضوع من غيره كانت معرفته من فروض الكفاية اهـ.

وقال ابن رحمون في "الدر والعقيان": كان من سنة علماء الحديث، طلب الإجازة في القديم والحديث، حرصاً على بقاء الإسناد، ومحافظة على الشريعة الغراء إلى يوم التناد، وهي التي نسيت في مغربنا بهذه الأعصر، واكتفى أهله عن البسط بالحصر، وأهملوا السند والإجازة، وحسبوا أن العلم بمجرد التدريس والحيازة اهـ.

ونقل ابن حجر الهيثمي في فتاويه الحديثية عن الحافظ العراقي قال: نقل الإنسان ما ليس لديه به رواية غير سائغ بإجماع أهل الدراية.

وعن الحافظ ابن خير الإشبيلي قال: أجمع العلماء على أنه لا يصح لمسلم أن يقول: قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كذا، حتى يكون عنده ذلك القول مروياً ولو على أقل وجوه الرواية. وتعرض للجمع بين الأقوال بحمل الجواز على ما إذا كان لمجرد االاستنباط وعدمه على ما إذا كان للرواية عن القائل اهـ.

قلت: ولنا في المعنى رسالة اسمها "رفع الضير عن إجماع الحافظ ابن خير" انظر فيها بسط ماله وعليه.

وفي مقدمة "فتح الباري" عن بعض مشايخ الحافظ: الأسانيد أنساب الكتب.

وقال الحافظ أبو الفضل مرتضى الزبيدي في إجازته لأهل قسمطينة: ثبت عند أهل هذا الفن أنه لا يتصدى لاقراء كتب السنة والحديث قراءةَ دراية أو تبرك ورواية إلا من أخذ أسانيد تلك الكتب عن أهلها ممن أتقن درايتها وروايتها، ورحل إلى البلدان فظفر بعوالي المرويات، وباحث الأقران فأحاط بمدارك الدرايات، وجلس في مجالس الإملاءات على الركب، وتردد إلى المشايخ بالخضوع والأدب، وهذا الآن أقل من قليل، فحسبنا الله ونعم الوكيل، اهـ ونحوه لصاحب بذل النحلة (انظر صحيفة: (138) من عقد اليواقيت الجوهرية وانظر كتابنا "الإجازة إلى معرفة أحكام الإجازة" ورسالتنا المسماة "بالردع الوجيز لمن أبى أن يجيز ترَ عجباً"([3]).

قال ابن الصلاح في مقدمته لعلوم الحديث:

" أعرض الناس في هذه الأعصار المتأخرة عن اعتبار مجموع ما بينا من الشروط في رواة الحديث ومشايخه فلم يتقيدوا بها في رواياتهم لتعذر الوفاء بذلك على نحو ما تقدم، وكان عليه من تقدم.

ووجه ذلك: ما قدمناه في أول كتابنا هذا من كون المقصود المحافظة على خصيصة هذه الأمة في الأسانيد والمحاذرة من انقطاع سلسلتها، فَليعتَبر من الشروط المذكورة ما يليق بهذا الغرض على تجرده، وليُكتف في أهلية الشيخ بكونه مسلماً، بالغاً، عاقلاً، غير متظاهر بالفسق والسخف، وفي ضبطه بوجود سماعه مثبَتاً بخط غيِر مُتَّهم وبروايته من أصل موافق لأصل شيخه.

وقد سبق إلى نحو ما ذكرناه الحافظ الفقيه أبو بكر البيهقي -رحمه الله- فإنه ذكر فيما روينا عنه توسع من توسع في السماع من بعض محدثي زمانه الذين لا يحفظون حديثهم ولا يحسنون قراءته من كتبهم ولا يعرفون ما يقرأ عليهم بعد أن تكون القراءة عليهم من أصل سماعهم.

ووُجّهَ ذلك: بأن الأحاديث التي قد صحت أو وقعت بين الصحة والسقم قد دُوِنت وكتبت في الجوامع التي جمعها أئمة الحديث، ولا يجوز أن يذهب شيء منها على جميعهم، وإن جاز أن يذهب على بعضهم لضمان صاحب الشريعة حفظها.

قال: البيهقي فمن جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم لم يقبل منه. ومن جاء بحديث معروف عندهم فالذي يرويه لا ينفرد بروايته والحجة قائمة بحديثه برواية غيره. والقصد من روايته والسماع منه أن يصير الحديث مسلسلاً "بحدثنا وأخبرنا" وتبقى هذه الكرامة التي خُصت بها هذه الأمة شرفاً لنبينا المصطفى صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم،والله أعلم"([4]).

أقول :

لقبول الرواية والتحديث شروط معروفة أشار إليها ابن الصلاح هنا وهي :

1-    أن يكون الراوي مسلماً بالغاً عاقلاً سالماً من أسباب الفسق وخوارم المروءة متيقظاً غير مغفل حافظاً إن حدث من حفظه ضابطاً لكتابه إن حدث من كتابه وإن كان يحدث بالمعنى اشترط فيه مع ذلك أن يكون عالماً بما يحيل المعاني.

2-    هذه الشروط قد كانت ضرورية كلها في الرواة في عهد السلف فلا يحتج برواية أي راو اختلت فيه هذه الشروط أو بعضها إلى أن دونت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدواوين المعروفة المشهورة من الصحاح والسنن والمسانيد والمصنفات والمعاجم.

ثم بعد هذه المرحلة أصبح هم الأمة الحفاظ على ما حوته تلكم الدواوين من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ودراسة ما فيها وروايتها وتداولها بالأسانيد من شيخ إلى شيخ ومن جيل إلى جيل إلى يومنا هذا والعمل بما فيها.

ومن ضمن من تصدى لرواية هذه الدواوين علماء لا تتوفر فيهم كمال الحفظ والضبط فلجأ العلماء إلى التسامح بالتخفيف من تلك الشروط لا إلغائها واكتفوا بما يليق بهذا الغرض منها وسبب هذا التخفيف هو ما يرمون إليه من الحفاظ على خصيصة هذه الأمة وهو الإسناد والحرص على بقائه واستمرار سلسلته والمحاذرة من انقطاعها ما بقيت أمة الإسلام.

من أجل ذلك اكتفى العلماء في أهلية الشيخ المحدث بأن يكون مسلماً بالغاً عاقلاً غير متظاهر بالفسق والسخف.

وفي ضبطه بوجود سماعه مثبتاً بخط ثقة(1) غير متهم وبروايته من أصل موافق    لأصل شيخه لأن القصد من روايته والسماع منه أن يصير الحديث مسلسلاً (بحدثنا وأخبرنا) وتبقى هذه الكرامة التي خُصت بها هذه الأمة شرفاً لنبينا المصطفى صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم.

أقول تعليقاً على كلام البيهقي: ويالها من خصيصة وياله من شرف تبذل لهما النفوس والمُهج ويبذل للحفاظ عليهما كل الأسباب الكفيلة بحفظهما بعد حفظ الله لهما.

واختلال هذه الشروط أو بعضها يعتبر جرحاً في أهلية من يتصدى للرواية والتحديث.

فمن توفرت فيه هذه الشروط فهو أهل لرواية سنة رسول الله ما سمعه منها من شيوخه وما أجيز فيها وأهل للتحديث بها.

ومن اختل فيه شرط أو شروط فهو مجروح فاقد لأهلية الرواية والتحديث بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وروايتها.

ولخص الحافظ ابن كثير كلام ابن الصلاح السابق في مختصره، وعلق عليه أحمد محمد شاكر في الباعث الحثيث (1/321-322) فقال :

" الشروط السابقة في عدالة الراوي إنما تُراعى بالدقة في المتقدمين، وأما المتأخرون   – بعد سنة ثلاثمائة تقريباً (1)– فيكفي أن يكون الراوي مسلماً بالغاً عاقلاً، غير متظاهر بفسق أو بما يخل بمروءته، وأن يكون سماعه ثابتاً بخط ثقة غير متهم وبرواية من أصل صحيح موافق شيخه،لأن المقصود بقاء سلسلة الإسناد، وإلا فإن الروايات استقرت في الكتب المعروفة وصارت الرواية في الحقيقة رواية للكتب فقط".

وعلق الحافظ السخاوي على كلام الحافظ البيهقي السابق فقال : " وقد سبق البيهقي إلى قوله شيخُه الحاكمُ ونحوه عن السلفي، وهو الذي استقر عليه العمل، بل حصل التوسع فيه أيضاً إلى ما وراء هذا.. " فتح المغيث ( 2/108).

وانظر هذا الموضوع في التقريب للنواوي مع تدريب الراوي للسيوطي (ص228) وانتبه لتسمية السيوطي المتوفى في أوائل القرن العاشر كتابه بتدريب الراوي أي لمن سيأتي بعده ممن يشتغل بسنة رسول الله وعلومها.

وإذن فهذا الأصل الأصيل الجرح والتعديل قائم ومستمر ما بقي هذا الدين.

وفي هذا رد حاسم على من يقول إنه قد انقطعت الرواية وبانقطاعها انقطع الجرح والتعديل، فالرواية مستمرة ما بقي هذا الدين ولله الحمد.


الجرح والتعديل في أبواب الشهادات

 بأنواعها([5]) مشروع إلى يوم القيامة

 

قال الإمام موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة – رحمه الله –: " باب شروط من تقبل شهادته وهي ستة " وسأذكرها باختصار.

قال :

أحدها: البلوغ فلا تقبل شهادة الصبيان([6]).

الثاني: العقل فلا تقبل شهادة معتوه ولا مجنون ([7]).

الثالث: الكلام فلا تقبل شهادة الأخرس ([8]) ويحتمل أن تقبل فيما طريقه الرؤية إذا فهمت إشارته.

الرابع: الإسلام فلا تقبل شهادة كافر ([9]) إلا أهل الكتاب في الوصية في السفر إذا لم يوجد غيرهم.

الخامس: أن تكـون ممن يحفظ فلا تقبل شهادة مغفل ولا معروف بكثرة الغلط والنسيان.

السادس: العدالة وهي استواء أحواله في دينه، واعتدال أقواله وأفعاله، وقيل العدل من لم تظهر منه ريبة، ويعتبر لها شيئان :

 الصلاح في الدين، وهو أداء الفرائض واجتناب المحارم وهو أن لا يرتكب كبيرة ولا يدمن على صغيرة([10]).

وقال في العدة، باب من ترد شهادته : " ولا تقبل شهادة صبي ولا زائل العقل ولا أخرس ولا كافر([11]) ولا فاسق([12]) ولا مجهول([13])ولا جار إلى نفسه نفعا...الخ.

وقال الموفق ابن قدامة – رحمه الله - :

" ومن شهد بشهادة يتهم في بعضها([14]) ردت كلها، ولا يسمع الجرح والتعديل والترجمة ونحوها إلا بشهادة اثنين([15]) وإذا تعارض الجرح والتعديل قدم الجرح ([16])".


آيات وأحاديث في الجرح والتعديل

 

قال الإمام البخاري - رحمه الله -:

"بَاب ما قِيلَ في شَهَادَةِ الزُّورِ لِقَوْلِ اللَّهِ عز وجل : ﴿وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ، وَكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ ﴿ولا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فإنه آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ  تَلْوُوا أَلْسِنَتَكُمْ بِالشَّهَادَةِ.

حدثنا عبد اللَّهِ بن مُنِيرٍ سمع وَهْبَ بن جَرِيرٍ وَعَبْدَ الْمَلِكِ بن إبراهيم قالا حدثنا شُعْبَةُ عن عُبَيْدِ اللَّهِ بن أبي بَكْرِ بن أَنَسٍ عن أَنَسٍ رضي الله عنه قال سُئِلَ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عن الْكَبَائِرِ قال الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ تَابَعَهُ([17])غُنْدَرٌ وأبو عَامِرٍ وَبَهْزٌ وَعَبْدُ الصَّمَدِ عن شُعْبَةَ (الشهادات حديث 2653).

حدثنا مُسَدَّدٌ حدثنا بِشْرُ بن الْمُفَضَّلِ حدثنا الْجُرَيْرِيُّ عن عبد الرحمن بن أبي بَكْرَةَ عن أبيه رضي الله عنه قال : قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ألا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلاَثًا قالوا بَلَى يا رَسُولَ اللَّهِ قال الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَجَلَسَ وكان مُتَّكِئًا فقال ألا وَقَوْلُ الزُّورِ قال فما زَالَ يُكَرِّرُهَا حتى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ وقال إِسْمَاعِيلُ بن إبراهيم حدثنا الْجُرَيْرِيُّ حدثنا عبد الرحمن. (الشهادات حديث 2654).

وقال الإمام البخاري - رحمه الله -:

"باب شهادة القاذف والسارق والزاني، وقول الله : ﴿وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾".

وساق أقوال العلماء في رد شهادة القاذف إذا لم يتب.(الصحيح بعد حديث رقم 2647).

فما رأى القائلين بانقطاع الجرح والتعديل ؟.

هل ارتفع الذم والجرح في العصور المتأخرة عن المشركين، وشهود الزور، والقاذفين للمؤمنين والمؤمنات المحصنات، وعن السرُّاق، والزناه؟!.

وهل تقبل شهادتهم في الدماء، والأموال، والأعراض، لأنه أصبح الحال فوضى لا جرح، ولا تعديل؟!.

وقال الإمام البخاري - رحمه الله -:

"بَاب الشُّهَدَاءِ الْعُدُولِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ  و ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ من الشُّهَدَاءِ.

حدثنا الْحَكَمُ بن نَافِعٍ أخبرنا شُعَيْبٌ عن الزُّهْرِيِّ قال حدثني حُمَيْدُ بن عبد الرحمن بن عَوْفٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن عُتْبَةَ قال سمعت عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رضي الله عنه يقول إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ في عَهْدِ رسول اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم وَإِنَّ الْوَحْيَ قد انْقَطَعَ وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمْ الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لنا من أَعْمَالِكُمْ فَمَنْ أَظْهَرَ لنا خَيْرًا أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ وَلَيْسَ إِلَيْنَا من سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ الله يُحَاسِبُهُ في سَرِيرَتِهِ وَمَنْ أَظْهَرَ لنا سُوءًا لم نَأْمَنْهُ ولم نُصَدِّقْهُ وَإِنْ قال إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ. (الشهادات حديث 2641.)

وقال - رحمه الله -:

"حدثنا محمد بن كَثِيرٍ أخبرنا سُفْيَانُ عن مَنْصُورٍ عن إبراهيم عن عَبِيدَةَ عن عبد اللَّهِ رضي الله عنه عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال خَيْرُ الناس قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ قال إِبْرَاهِيمُ وَكَانُوا يَضْرِبُونَنَا على الشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ". الشهادات حديث رقم (2652) و أخرجه الإمام مسلم في الفضائل حديث(2533).

وقال الإمام البخاري في فضائل الصحابة :

"حدثني إسحاق : حدثنا النضر أخبرنا شعبة عن أبي جمرة سمعت زهدم بن مضرب سمعت عمران بن حصين - رضي الله عنهما - يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم   قال عمران : فلا أدري : أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثاً - ثم إن بعدكم قوماً يشهدون   ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يفون ويظهر فيهم السمن " (3650) وأخرجه الإمام مسلم (2535) والترمذي (2222).

ففي هذين الحديثين تعديل للقرون المفضلة وجرح لمن يأتي بعدهم من القرون ممن هذا حالهم وهذا لا يمنع من وجود أهل العلم والفضل والأمانة والعدالة والصدق وعلى رأسهم الطائفة الناجية المنصورة المذكورة في أحاديث كثيرة ليس هذا موضع سردها.

وأقول : إن الجرح والتعديل استمر في هذه الأمة إلى يومنا هذا قام به رجال من أعلام هذه الأمة بعد القرون الثلاثة المفضلة وبعد تدوين السنة في كتب التاريخ والتراجم مثل الخطيب في تاريخه والحافظ الذهبي في التاريخ، والسير، والميزان وسائر كتبه في الرجال من الرواة وأهل البدع وابن الجوزي في المنتظم، وتلبيس إبليس وغيرهما وصلاح الذين الصفدي في كتابه الوافي بالوفيات وابن كثير في بداية والنهاية وابن حجر في لسان الميزان    والدرر الكامنة والسخاوي في الضوء اللامع والشوكاني في البدر الطالع، وفي كتب العقائد التي فيها نقد طوائف البدع وغيرهم مثل كتب أبي القاسم الأصبهاني في كتاب الحجة واللالكائى في شرح اعتقاد أهل السنة والآجري في الشريعة وابن بطة في الإبانتين وغيرهم من أئمة السنة.

وعبد الغني المقدسي في اعتقاده وابن قدامه في " تحريم النظر في كتب أهل البدع "  وابن تيمية في كتبه مثل المنهاج، واقتضاء الصراط المستقيم والحموية والتدمرية وتلبيس الجهمية وغيرها.

وابن القيم في الصواعق المرسلة وفي إعلام الموقعين وإغاثة اللهفان والنونية.

وابن عبد الوهاب وتلاميذه وأبناؤه وأحفاده إلى يومنا هذا.

والشوكاني والصنعاني وعلماء الحديث في الهند وباكستان وأحمد شاكر ومحمد حامد الفقي في أواخر القرن الرابع عشر وابن باز والألباني والعثيمين وأهل السنة في اليمن وفي كل مكان.


استمرار وجود الحفاظ وارتباطهم وتشبثهم بالأسانيد

 جيلاً بعد جيل والحرص على ربط الطلاب بشيوخهم

 

صنف الحافظ الذهبي - رحمه الله - كتابه "المعين في طبقات المحدثين والمسندين" انتهى إلى سنه بضع وعشرين وسبعمائة وكان آخر من ترجم له مسند الآفاق أبو العباس المتوفي سنة ثلاثين وسبعمائة (730هـ) وكانت وفاة الحافظ الذهبي سنة ( هـ748) وكتابه معجم الشيوخ يعدل فيه ويجرح، فكيف يصح القول بأن الرواية انتهت بانتهاء عصر التدوين.

وألف الحافظ الذهبي أيضاً كتاب "تَذْكِرَةُ الحفّاظ" قسم فيه الحفاظ إلى طبقات بلغت إحدى وعشرين طبقة ختمها بالحافظ المزي - رحمه الله - حيث قال في ترجمته :

" المزي شيخنا الإمام العالم الحبر الحافظ الأوحد محدث الشام جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف القضاعي ثم الكلبي الدمشقي الشافعي ولد بظاهر حلب سنة أربع وخمسين وست مائة ونشأ بالمزِّة وحفظ القرآن وتفقه قليلا ثم أقبل على هذا الشأن سمع من أول شيء كتاب الحلية كله على بن أبي الخير سنة خمس وسبعين ثم أكثر عنه وسمع المسند والكتب الستة ومعجم الطبراني والأجزاء الطبرزذية والكِندية وسمع صحيح مسلم من الإربلي ورحل سنة ثلاث وثمانين فسمع من العز الحراني وأبي بكر بن الأنماطي وغازي وهذه الطبقة وسمع بالحرمين وحلب وحماة وبعلبك وغير ذلك"([18]).

وألف الذهبي أيضاً - رحمه الله - كتاباً سماه "بالمعُجَمُ المخُتَصّ بَالمحَدِثينَ" جمع فيه أسماء شيوخه من المحدثين ومن طلبة الحديث وقد يغمز منهم من يجد فيه مغمزاً وهم قلة إبراء للذمة ونصحاً للمسلمين وسيراً على نهج السلف في هذا النصح.

وبلغ شيوخه في هذا الكتاب واحد وثمانون وثلاثمائة شيخ (381) تقريباً.

قال في مقدمته (ص5) : " وبعد فهذا معجم مختص بِذكر من جالسته من المحدثين أو أجاز لي مروياته من طلبة الحديث وبعضهم أميز في هذا الشأن مِن غيره كما أُنبِّهُ عليه بِنُعُوتِهم.

وإلى الله أَلْجَأَ في الإخلاص والتوفيق،وبه الاستعانة ".

وألف الحافظ ابن عبد الهادي كتاباً في "طبقات المحدثين" انتهى بترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفي سنة (728هـ) حيث قال: "شيخُنا الإمام الرَّباَّني، إمام الأئمة،ومُفتي الأُمة، وبحر العلوم،سَيِّد الحُفاَّظ،وفارس المعاني والألفاظ، فريدُ العصر، وقريع الدَّهر،شيخ الإسلام قُدوة الأنام،عَلاَمة الزَّمان، وتَرجُمان القرآن،عَلَمُ الزُّهَّاد،وأوحد العُبَّاد،قامعُ المبتدعين وآخر المُجتهدين" وكانت وفاة الحافظ ابن عبدالهادي سنة (744هـ).

وصنف السيوطي "طبقات الحفاظ" أوصلها إلى أربع وعشرين طبقة ختم الطبقة الرابعة والعشرين الحافظ ابن حجر المتوفي سنة (852هـ) وقال فيه: "شيخ الإسلام وإمام الحفاظ في زمانه وحافظ الديار المصرية بل الحافظ الدنيا"، ومما ذكره في ترجمته قوله: "ثم طلب الحديث من سنه أربع وتسعين وسبعمائة فسمع الكثير ورحل ولازم شيخه الحافظ أبالفضل العراقي وذكر مؤلفاته وخدمته الحديث وعلومه".

وألف العلامة محمد بن سليمان الرَّوداني كتاب "صِلَة الخَلف بموصُول السّلف" جمع فيه أسانيده إلى كتب الحديث والتفسير والفقه والأدب وغيرها عن طريق شيوخه إلى المؤلفين ومن شيوخه بقية المسندين بالشام أبو عبد الله محمد بن بدر الدين البَلْبَانِي الصالحي المتوفى (1083هـ).

والشيخ المعمر نادرة الدهر كما يقول أبو مهدي عيسى بن عبد الرحمن السكتاني الروداني المتوفى (1062هـ) ومن مؤلفات الروداني "جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد".

وألف الشيخ عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني المتوفى سنة (1382هـ) كتاباً سماه "فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسَلسَلات" جمع فيه من هذه الأصناف فأوعى، وهو كما قيل: قاموس لتراجم المؤلفين في الحديث، من القرن الثامن إلى الآن وذيلاً على طبقات الحفاظ والمحدثين للحافظين ابن ناصر والسيوطي التي وقفاً فيها على أواسط القرن التاسع.

وهو على صوفيته اعتنى بالحديث وعلومه عناية كبيرة كما اعتنى بغيره من الفنون.

قال في (1/58): "تسمية بعض من رويت عنه في هذه العجالة من أهل المشرق والمغرب ولم أقصد استيفاءهم أو حصرهم؛ فإن عدد من رويت عنه أو كتبت أو كاتبته على البعد نحو الخمسمائة نفس بين رجال ونساء بمكة والمدينة وبيت المقدس ومصر والاسكندرية ودمشق والرملة وفلسطين وبعلبك وبيروت وطندتا ودمياط ونابلس واصطنبول وبغداد وبلاد الهند والسند واليمن وفاس ومراكش وزرهون ومكناس وسلا والرباط وأسفى وطنجة وبجعد وجبال الهبط والقصر ودمنات وسوس وشنقيط وبلاد الصحراء ووجدة وتازا وتلمسان ومازونة ومعسكر ومستغانم والبليدة والمدية والجزائر وبوسعادة وبرج بوعويرج وقسمطينة وتونس والقيروان والمنستير وسلمان وغيرها من بلاد الله شرقا وغربا وهذه أسماء غالب من رويت عنه في كتابي هذا ( فهرس الفهارس ) مرتبة على حروف المعجم أيضا".

وقال في حد الحافظ والمحدث والمسند :

"اعلم أن أدنى درجات الثلاثة - كما في التدريب - المسند بكسر النون وهو من يروي الحديث بإسناده، سواء كان له علم به أو ليس له إلاّ مجرد الرواية وقد صار اليوم يطلق على من توسع في الرواية، وحصل الكثير من المسانيد والفهارس، واتصل بها عن أيمة المشرق والمغرب من أهل هذا الشأن.

وأما المحدث فهو أرفع منه وقد عرفه المنلا إلياس الكردي في حواشيه على النخبة   بقوله : حدُّهُ أنه العالم بطرق الحديث وأسماء الرجال والمتون لا من اقتصر على السماع المجرد.

وفي القول الجميل لولي الله الدهلوي : نعني بالمحدث المشتغل بكتب الحديث بأن يكون قرأ لفظها وفهم معناها وعرف صحتها وسقمها ولو بإخبار حافظ أو استنباط فقيه"([19]).

وقال الشيخ عبد الحي الكتاني ردًا على إبراهيم الباجوري الذي قال كلاماً معناه لا يوجد الحافظ في زماننا:

" وهو عجيب لأن الحافظ ما دام كما وصفه به الحافظ ابن الجزري من روى ما يصل إليه ووعى ما يحتاج إليه اهـ ؛ وكما وصفه به الخفاجي من أنه من أكثر من رواية الحديث وأتقنها، فغير منقطع([20]).

ولم يختم بالسيوطي والسخاوي، فمن طالع وتوسع في تتبع تراجم الشاميين والمصريين واليمنيين والهنديين والمغاربة من القرن التاسع إلى الآن لم يجد الزمان خلا عمن يتصف بأقل ما يشترط فيمن يطلق عليه اسم الحافظ في الأعصر الأخيرة.

وغاية ما يشترط فيه عندي الآن أن يكون على الأقل قد اشتهر بالتعاطي والإتقان لهذه الصناعة فأخذ فيها وأخذ عنه، وأذعن من يعتبر إذعانه لقوله فيها بعد تجريبه عليه الصدق والتحري فيما ينقل أو يقول وبعد الغور، وتم له سماع مثل الكتب الستة والمسانيد الأربعة على أهل الفن المعتبرين، وعرف الاصطلاح معرفة جيدة، ودرس كتاب ابن الصلاح وحواشيه وشروح الألفية وحواشيها، وترقى إلى تدوين معتبر في السنة وعلومها أو عرف فيه بالإجادة قلمه، والاطلاع والتوسعة مذهبه، والاختيار والترجيح في ميادين الاختلاف نظره، مع اتساع في الرواية بحيث أخذ عن شيوخ إقليمه ما عندهم ثم شره إلى الرواية عمن هم في الأقاليم الأخر بعد الرحلة إليهم وعرف العالي والنازل والطبقات والخطوط والوفيات، وحصل الأصول العتيقة والمسانيد المعتبرة والأجزاء والمشيخات المفرقة، وجمع من أدوات الفن ومتعلقاته أكثر ما يمكن أن يحصل عليه مع ضبطه وصونه لها واستحضاره لأغلب ما فيها وما لا يستحضره عرف المظان له منها على الأقل، ويشب ويشيخ وهو على هذه الحالة من التعاطي والإدمان والانقطاع له ؛ فمن حصل ما ذكر أو تحقق وصفه ونعته به جاز أن يوصف بالحفظ عندي بحسب زمانه ومكانه.

فلذلك أردت أن أرشدك إلى من وقفت على وصفه من الأئمة المعتبرين بالحفظ والإتقان وانه من كبار محدثي الزمان، ووجده مع الحافظ ابن حجر وبعده إلى الآن، لتعلم أن فضل الله لا ينحصر بزمان أو مكان أو جهة من الجهات، فهو سبحانه يعطي بلا امتنان ولا تحجير عليه من أهل الزمان :

فمن أهل القرن التاسع :

سليمان بن إبراهيم العلوي اليمني، ابن إبراهيم الوزير اليمني، التقي ابن فهد المكي ابن قطلوبغا المصري الحنفي أحمد الشرجي اليمني يحيى ابن أبي بكر العاملي اليمني محمد بن عبد الجليل التنسي.

ومن أهل القرن العاشر:

السخاوي المصري، السيوطي المصري، البرهان الناجي الشامي ، عثمان الديمي المصري ، الديمي الصغير المصري ، يوسف بن شاهين المصري، النجم ابن فهد المكي العز ابن فهد، البرهان القلقشندي ، القسطلاني المصري ، الداودي المصري، أبو الفتح الاسكندري، ابن الديبع اليمني ، محمد بن علي الشامي المصري، ابن الشماع الحلبي ،  يوسف بن عبد الهادي الصالحي الدمشقي، ابن طولون الدمشقي، سقين العاصمي الفاسي ، الغيطي المصري.

ومن أهل القرن الحادي عشر :

المناوي المصري، محمد حجازي الواعظ المصري، أحمد المقري الفاسي أحمد بن يوسف الفاسي، عبد الله بن علي بن طاهر السجلماسي، النجم الغزي الدمشقي، البابلي المصري عيسى الثعالبي المكي، ابن سليمان الروداني، يحيى الشاوي الجزائري دفين مصر، فرخ شاه الهندي.

ومن أهل القرن الثاني عشر :

الزرقاني المصري شارح المواهب، عبد الله بن سالم البصري المكي، يوسف الهندي يحيى بن عمر مقبول الأهدل اليمني، ابن الطيب الشركي، ابن إسماعيل الأمير الصنعاني أبو العلاء العراقي، الفاسي عبد القادر بن خليل المدني، محمد البخاري النابلسي ابن سنة الفلاني السوداني.

ومن أهل القرن الثالث عشر :

أبو الفيض مرتضى الزبيدي المصري، الجلال السباعي دفين مصر، صالح الفلاني المدني ابن عبد السلام الناصري الدرعي، أوراس المعسكري الجزائري، الشوكاني اليمني عابد السندي المدني الشيخ السنوسي دفين جغبوب.

وقد ترجمت هنا جميع هؤلاء ترجمة واسعة مناسبة فانظر كلاً في حرف اسمه أو نسبته أو حرف أول اسم فهرسته إن كان لها اسم تعرف به"([21]).

أقول :

ونذكر هنا الإمام شيخ الإسلام المجدد محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - وابنه الشيخ عبد الله وأحفاده الشيخ عبدالرحمن بن حسن والشيخ سليمان بن عبد الله بن الإمام محمد، والشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن، والشيخ سليمان بن سحمان والشيخ حمد بن علي بن عتيق وغيرهم، ممن لهم عناية بالحديث وتجديد للإسلام وجهاد عظيم في نصرة الإسلام وإعلائه وإعلاء كلمة التوحيد ومنهج السلف الصالح ونشر العمل بسنة والدعوة القوية إلى ذلك وإحياء علوم السنة ومحاربة الشرك والبدع والفساد في الأرض مما كان له أعمق الآثار وأبعدها في حياة المسلمين.

وجرى مجرى هؤلاء علماء في الشرق والغرب مثل العلامة نذير حسين وصديق حسن خان ومحمد بشير السهسواني.

والعظيم آبادي محمد شمس الحق وعبدالرحمن المبارك فوري وثناء الله الأمر سترى هؤلاء من القارة الهندية.

وجرى مجرى مجراهم في نصرة السنة وإعلانها والذب عنها ونشر علومها الشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ عبدالله القرعاوي، والشيخ عبدالرحمن السعدي والشيخ حافظ الحكمي، والشيخ عبدالعزيز بن باز، والشيخ عبدالرحمن المعلمي، والشيخ محمد بن عثيمين، والشيخ حمود التويجري، وهؤلاء من بلاد الحرمين.

والشيخ محمد ناصر الدين الألباني وبهجت البيطار من الشام.

والشيخ أحمد محمد شاكر والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة والشيخ محمد حامد الفقي والشيخ أبو السمح وهؤلاء من أهل مصر.

والشيخ محمد الجاندلوي والشيخ محمد إسماعيل السلفي والشيخ بديع الدين السندي وهم من باكستان.

والشيخ مقبل بن هادي الوادعي في اليمن.

وللكل أو المعظم اهتمام بالأسانيد والأثبات والإجازات و نقد وتحذير وجرح لأهل البدع وجهاد عظيم في إعلاء السنة ومن آثارهم إنشاء المعاهد والكليات والمدارس والجامعات في الجزيرة وفي الهند وباكستان وبنجلاديش وذلك من تحقيق وعد الله بحفظ هذا الدين.

نسأل الله أن يثيبهم جميعاً على هذا الجهاد في خدمة السنة والنصح لله ولكتابه ولرسوله صلَّى الله عليه وسلَّم ولأئمة المسلمين وعامتهم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

 

 

كتبه

الشيخ ربيع بن هادي عمير المدخلي

22/4/1428هـ

 



(1) كذا ولعل الصواب عند.

([1])   الفصل في الملل والأهواء والنحل (ص:81-83).

(1)  انظر شرف أصحاب الحديث (ص40) رقم (76) للخطيب البغدادي وفتح المغيث ( 3/331 ) للسخاوي بتحقيق وتعليق الشيخ علي حسين علي. 

([3])  فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسَلسَلات (1/ 80-82).

([4])  (ص108-109) الرابعة عشر من مسائل الجرح والتعديل.

(1) انظر لم يكتفوا بتلك الشروط فأضافوا شرطين في ضبطه بوجود سماعه أن يكون مثبتا بخط ثقة، وفي روايته أن تكون من أصل موافق لأصل شيخه.

(1) أقول : وقد بقي في أجيال الأمة من الحفاظ من يرقى إلى مستوى كبار الحفاظ في القرون الثلاثة الأولى             ومن يقرأ التاريخ وطبقات الحفاظ يدرك ذلك وكلام أحمد شاكر وغيره لا ينفي وجود هذا الطراز من الأمة  بعد القرون الثلاثة.

([5])   في الدماء والأموال والفروج وغيرها في أي زمن ففي عدم اعتبار التعديل والتجريح في الشهود والرواة ونقله الأخبار تضييع الدين والدنيا

([6]) واستُدلَّ لذلك بقوله تعالى : ﴿واستشهدوا شهيدين من رجالكم، والصبيان ليسوا من رجالنا، وقوله تعالى: ﴿ممن ترضون من الشهداء والصبي ممن لا يرضى.

([7]) لأن قولهما على أنفسهما لا يقبل فعلى غيرهما أولى.

([8]) لا تقبل شهادة الأخرس بالإشارة لأنها محتملة... ويحتمل أن تقبل فيما طريقه الرؤية إذا فهمت إشارته.

([9]) والدليل قوله تعالى ﴿وأشهدوا ذوي عدل منكم وقوله تعالى : ﴿ممن ترضون من الشهداء والكافر ليس بعدل ولا مرضي ولا هو منا.

([10])  المقنع مع شرحه للشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ (3/687-690)، وانظر الأم للشافعي (7/88)           ( الشهادات. باب شرط الذين تقبل شهادتهم )، ومختصر المزني (ص407)، والمنهاج للنووي مع شرحه السراج الوهاج (ص603).

([11])  تقدم بيان أسباب رد شهادة هذه الأصناف.

([12])  ترد شهادة الفاسق لقوله تعالى ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) لأن الفاسق ضد العدل ولأنه لا يؤمن منه شهادة الزور وقول الباطل.

([13])  لأن العدالة شرط في قبول الشهادة لقوله تعالى ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) وقال ( ممن ترضون من الشهداء ) وهذا غير مرضي وغير معلوم العدالة فلا تقبل شهادته كالفاسق " انظر العدة مع شرحها للعلامة بهاء الدين           عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسي (2/433-434).

([14])  قال الشارح بهاء الدين : " كشهادة الشريك لشريكه لأنه شهد لنفسه وشهادته لنفسه لا تصح كذا هاهنا.

([15])  قال الشارح بهاء الدين – رحمه الله - : " وعنه ( يعني الإمام أحمد ) تقبل من واحد وهو مذهب أبي حنيفة لأنه خبر يعتبر فيه لفظ الشهادة فتقبل من واحد كالرواية.

قال بهاء الدين : " ولنا أن الجرح والتعديل إثبات صفة من يبني الحاكم حكمه على صفته فاعتبر فيه العدد كالحصانة وفارق الرواية لبنائها على المساهلة ، ولا نُُسلِّم أنه لا يفتقر إلى لفظ الشهادة ويعتبر في الجرح والتعديل اللفظ فيقول في التعديل : أشهد أنه عدل ويكفي هذا... قال تعالى : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) فإذا شهد أنه عدل ثبتت عدالته عليه وله، ودخل في عموم الآية، وأكد أن الترجمة عند الحاكم لكلام المتخاصمين من العجم لا بد فيها من اثنين عدلين .

([16])  ورجح الشارح بهاء الدين تقديم الجرح على التعديل لأن الجارح مثبت لوجود الجرح والمعدل ناف والإثبات مقدم على النفي ولأن الجارح يقول : رأيته بفعل كذا وكذا ومستند المعدل أنه لم يره يفعل ذلك                       العدة مع شرحها (2/438-439).

([17])  ولعل الأصل تابعهما.

([18])  تذكرة الحفاظ ( 4/1498).

([19]) فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسَلسَلات ص:71-72).

([20])  يعني الوصف بالحافظ.

([21])  فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسَلسَلات (1/77-79).

 

 

 

 

-مقال لفضيلة الشيخ العلامة المحدث ربيع بن هادى المدخلى حفظه الله - من موقعه على الشبكة

Oakley MOD5 MIPS SNOW HELMET – ADULT - SneakersbeShops | nike air max 90 essentials gray black naval women, 30 zł• (CU4111300), Nike Zoomx Vaporfly Next 2 Buty Sportowe •cena 815

الأقسام الرئيسية:

المشائخ والعلماء: