القول الحق في نسك الحج الذي أحرم به خير الخلق صلى الله عليه وسلم
مع بيان أنواع نسك الحج الأخرى
دراسة فقهية مقارنة
للدكتور \ عبد السلام بن سالم السحيمي
المقدمة:
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
سورة آل عمران الآية 102
أما بعد: فهذا بحث سميته ( القول الحق في نسك الحج الذي
أحرم به خير الخلق صلى الله عليه وسلم ، مع بيان أنواع نسك الحج الأخرى ، دراسة فقهية مقارنة) . وقد دعاني إلى تأليفه عدة أمور منها:
1 - أنه من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حج حجة واحدة هي حجة الوداع والتي قال فيها صلى الله عليه وسلم:
وبالتالي اختلفت أقوآله م في الجمع بين الأحاديث المروية في ذلك ، كما اختلفوا في تعيين أي الأنساك الثلاثة أفضل . وسبب الخلاف في ذلك كله يرجع إلى اختلافهم فيما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ، وذلك أنه روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان مفردا ، وروي أنه كان متمتعا ، وروي أنه كان قارنا؛ وكله في الصحيح ، وهي قصة واحدة ، فيجب تأويل جميعها ببعضها والجمع بينها .
2 - وأنه قد طعن جماعة من الجهال ، ونفر من الملحدين ، طعنوا في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي أهل الرواية والنقل من أئمة الحديث ، وقالوا: لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم بعد قيام الإسلام إلا حجة واحدة ، فكيف يجوز أن يكون في تلك الحجة مفردا ، وقارنا ، ومتمتعا ، وأفعال نسكها مختلفة ، وأحكامها غير متفقة؛ وأسانيدها عند أهل الرواية ونقلة الأخبار جياد صحاح؛ ثم قد وجد فيها هذا التناقض والاختلاف .
ذكر ذلك الخطابي في معالم السنن ، وقال: يريدون بذلك توهين الحديث والإزراء به وتصغير شأنه وضعف أمر حملته ورواته ، ولو يسروا للتوفيق وأعينوا بحسن المعرفة لم ينكروا ذلك ولم يدفعوه
قلت: وقد وفق الله العلماء المحققين أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه ابن القيم إلي بيان أن الأدلة الصحيحة الصريحة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا .
وجمعوا بين الأحاديث المروية في ذلك جمعا حسنا ، وأن هذه الأحاديث متفقة ليست مختلفة إلا اختلافا يسيرا ، يقع مثله في غير ذلك ، وأن من تأمل ألفاظ الصحابة ، وجمع الأحاديث بعضها إلى بعض ، واعتبر بعضها ببعض ، وفهم لغة الصحابة أسفر له صبح الصواب ، وانقشعت عنه ظلمة الاختلاف والاضطراب
3 - جمع شتات هذا الموضوع ، حيث إن الكلام عليه جاء مفرقا في كتب الفقه ، وكتب شروح الأحاديث ، فجمعه في مؤلف واحد يعين على فهمه والاستفادة منه .
لهذه الأمور رأيت من المناسب جمع كلام أهل العلم في هذا الباب ؛ لأهميته ودراسته دراسة فقهية مقارنة بذكر الأقوال والأدلة مع مناقشة ما يحتاج إلى مناقشة ، وما يحتاج منها إلى اعتراض أو جواب للوصول إلى الحق بدليله والعمل به ، إذ الواجب على طالب العلم أن يعرف الحق بدليله ، فيعمل به ويدعو الناس إليه .
وقد اعتمدت كثيرا في هذا البحث على كلام شيخي الإسلام: ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله ، لما في كلامهما من التحقيق المبني على الفهم الدقيق للنصوص الشرعية
وقد قسمت هذا البحث إلى مقدمة وتمهيد وستة مباحث وخاتمة .
أما المقدمة: فقد بدأتها بالحمد لله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكرت فيها أسباب بحثي لهذا الموضوع ، وخطتي لهذا البحث ، ومنهجي في ذلك .
وأما التمهيد: فذكرت فيه تعريف الحج ، وحكمه ، وفضله ، وشروط وجوبه .
وأما المبحث الأول: ففي أنواع نسك الحج .
والمبحث الثاني: في حكم التخيير بين الأنساك الثلاثة .
والمبحث الثالث: في حكم فسخ الحج إلى عمرة .
والمبحث الرابع: في تحقيق النسك الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو أطول المباحث .
والمبحث الخامس: في طريق الجمع بين الأحاديث الصحيحة المروية في ذلك .
والمبحث السادس: في أي الأنساك أفضل .
وأما الخاتمة: فتضمنت أهم النتائج التي توصلت إليها من هذا البحث .
وأما منهجي في البحث فأجمله في النقاط التالية:
1 - ذكرت أقوال الأئمة الأربعة في المسائل التي بحثتها وقد أذكر غيرهم .
2 - وثقت هذه الأقوال من مصادرها الأصلية .
3 - ذكرت الأدلة بالتفصيل لكل قول مع المناقشة والترجيح على ضوء الدليل .
4 - رقمت الآيات القرآنية .
5 - خرجت الأحاديث النبوية ، وأغلب الأحاديث التي استدللت بها في الصحيحين أو في أحدهما ، وما لم يكن فيهما أو في أحدهما خرجته من كتب الأحاديث الأخرى ، وذكرت من صححه أو ضعفه من أهل العلم .
هذا وقد بذلت غاية جهدي ليخرج هذا البحث على أحسن وجه ، فإن كنت قد وفقت في ذلك فهذا من فضل الله وحده ، وإن كنت قصرت في ذلك- ولا أدعي الكمال- فهو مني ومن الشيطان ، وأستغفر الله من ذلك ومن كل تقصير .
وأسأل الله أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم ، وأن يوفقني والمسلمين للعلم النافع والعمل الصالح ؛ إنه جواد كريم ، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
الحج بكسر الحاء وفتحها في اللغة: القصد
وفي الشرع: عرف بتعريفات متقاربة ، منها:
ما ذكره ابن أبي هبيرة في الإفصاح من أنه: أفعال مخصوصة في أماكن مخصوصة في زمان مخصوص
وقوله: أفعال مخصوصة ، تشمل جميع ما يفعله المحرم وما يتجنبه ، وقوله: في أماكن مخصوصة ، تشمل المسجد الحرام والمشاعر ، وقوله: في زمان مخصوص ، أي وقت أداء أفعال الحج .
وعرفه فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين بأنه: " التعبد لله عز وجل بأداء المناسك على ما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم "
حكم الحج :
هو أحد الأركان الخمسة التي بني عليها الإسلام .
الأصل فى وجوب الحج والأصل في وجوبه:
الكتاب والسنة والإجماع
أما الكتاب:
فقول الله تعالى: سورة آل عمران الآية 97
وحرف " على " للإيجاب لا سيما إذا ذكر المستحق ، فقيل: لفلان على فلان . وقد أتبعه بقوله: سورة آل عمران الآية 97
وأما السنة:
فقول النبي صلى الله عليه وسلم:
وأجمعت الأمة على وجوبه على المستطيع في العمر مرة واحدة
فضل الحج:
ورد في فضل الحج أحاديث كثيرة صحيحة ، منها:
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
2 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
3 - وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت:
والمبرور قيل: المقبول ، وقيل: الذي لا يخالطه شيء من الإثم ، وقيل: إن الأقوال التي ذكرت فيه متقاربة المعنى ، وهي أنه الحج الذي وفيت أحكامه ، ووقع موقعا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل ، والله أعلم
شروط وجوب الحج:
شروط وجوب الحج خمسة ، هي:
الإسلام ، والعقل ، والبلوغ ، والحرية ، والاستطاعة
وتنقسم هذه الشروط ثلاثة أقسام:
منها- ما هو شرط للوجوب والصحة ؛ وهو الإسلام والعقل ، فلا يجب على كافر ، ولا مجنون ، ولا يصح منهما ؛ لأنهما ليسا من أهل العبادات
- ومنها ما هو شرط للوجوب فقط؛ وهو الاستطاعة ، فلو تجشم غير المستطيع المشقة وسار بغير زاد وراحلة ، فحج كان حجه صحيحا مجزئا؛ كما لو تكلف القيام في الصلاة والصيام من يسقط عنه أجزأه
واختلف العلماء في شرطين ، وهما:
1 - تخلية الطريق ، بمعنى ألا يكون في الطريق مانع من عدو أو غيره .
2 - إكمال المسير ، وهو اكتمال هذه الشرائط والوقت متسع يمكنه الخروج إليه
النسك في اللغة: العبادة وكل ما يتقرب به إلى الله تعالى ، والنسيكة الذبيحة
وفي الشرع: قال في المطلع: المناسك المتعبدات كلها؛ وقد غلب إطلاقها على أفعال الحج لكثرة أنواعها
أنواع نسك الحج :
أنواع نسك الحج ثلاثة: " تمتع " و " قران " و " إفراد "
القران في اللغة: الجمع بين الشيئين مطلقا ، وقرن بين الحج والعمرة قرانا- بالكسر- أي جمع بينهما
وفي الشرع: أن يجمع بين الحج والعمرة في الإحرام بهما ، أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل الطواف
قلت: ويطلق على القران تمتع في عرف السلف .
قال ابن عبد البر : " ومن التمتع أيضا القران ؛ لأنه تمتع بسقوط سفر للنسك الآخر من بلده "
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : والذين قالوا تمتع- أي الرسول صلى الله عليه وسلم- لم تزل قلوبهم على غير القران ، فإن القران كان عندهم داخلا في مسمى التمتع بالعمرة إلى الحج . ولهذا وجب عند الأئمة على القارن الهدي ؛ لقوله: سورة البقرة الآية 196
ومن التمتع أيضا فسخ الحج إلى عمرة
والإفراد في اللغة: الفرد الوتر وهو الواحد والجمع أفراد ، وفرد يفرد من باب قتل ، صار فردا ، وأفردته بالألف جعلته كذلك ، وأفردت الحج عن العمرة فعلت كل واحد على حدة . . .
وفي الشرع: أن يهل بالحج مفردا
وعمل المفرد والقارن واحد عند الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد ، فالقارن يكفيه طواف واحد عن طواف الركن ، ويقتصر على أفعال الحج ، وتندرج أفعال العمرة كلها في أفعال الحج ، أما عند الحنفية فالقارن يلزمه أن يطوف طوافين ويسعى سعيين ، ولا تدخل أفعال العمرة في الحج عندهم ، بل يقدم العمرة ثم يتبعها أفعال الحج ، وإنما يشتركان في الإحرام خاصة
المبحث الثاني: حكم التخيير بين الأنساك الثلاثة : ذكر غير واحد من أهل العلم الإجماع على أنه يجوز الحج بكل نسك من الأنساك الثلاثة لكل مكلف على الإطلاق . فقد قال ابن هبيرة : " وأجمعوا على أنه يصح الحج بكل نسك من أنساك ثلاثة: التمتع ، والإفراد ، والقران ، لكل مكلف على الإطلاق " وقال النووي : " مذهبنا جواز الثلاثة وبه قال العلماء وكافة الصحابة والتابعين ومن بعدهم " وقال ابن عبد البر : " وفي حديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة من الفقه: - أن التمتع جائز وأن الإفراد جائز وأن القران جائز وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم " وقال الماوردي : " لا اختلاف بين الفقهاء في جواز الإفراد ، والتمتع ، والقران ، وإنما اختلفوا في الأفضل " وقال ابن مفلح - بعد ما ذكر جواز الإحرام بأي نسك من الأنساك الثلاثة- قال: " ذكره جماعة إجماعا " قلت : هذا الذي ذكره جماعة من أهل العلم ، وهو الإجماع على جواز الإحرام بأي نسك من الأنساك الثلاثة ، ليس محل إجماع ولا اتفاق على الصحيح . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " ثبت عن ابن عباس وطائفة من السلف أن التمتع واجب ، وأن كل من طاف بالبيت وسعى ولم يكن معه هدي ، فإنه يحل من إحرامه ، سواء قصد التحلل أم لم يقصده ، وليس عند هؤلاء لأحد أن يحج إلا متمتعا . وهذا مذهب ابن حزم وغيره من أهل الظاهر " قلت : إذا فيكون في المسألة قولان: الأول : جواز الإحرام بأي نسك من الأنساك الثلاثة ، وهو قول أكثر أهل العلم ، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وهو قول الأئمة الأربعة . والقول الثاني : أن من لم يسق الهدي فليس بمخير بين الأنساك الثلاثة ، بل يتعين عليه أن يحج متمتعا ، وهو قول ابن عباس وأصحابه وأهل الظاهر ، ومال إليه ابن القيم والحجة للقول الأول: 1 - عن عائشة رضي الله عنها ، قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: 2 - وعنها رضي الله عنها ، قالت: قال النووي - بعدما أورد الحديثين-: " فيه دليل لجواز الأنواع الثلاثة ، وقد أجمع المسلمون على ذلك ، وإنما اختلفوا في الأفضل أما الحجة للقول الثاني: فاحتجوا بالأحاديث الصحيحة التي أمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي أن يحلوا من حجهم ويجعلوه عمرة ، ومنها: 1 - حديث عائشة رضي الله عنها ، قالت: 2 - ومنها حديث جابر رضي الله عنه: وفي مسلم عن جابر ، قال: " أهللنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالحج خالصا وحده . قال عطاء : قال جابر : فقدم النبي صلى الله عليه وسلم صبح رابعة مضت من ذي الحجة فأمرنا أن نحل . قال عطاء : قال صلى الله عليه وسلم : |
|
المبحث الثالث: فسخ الحج إلى عمرة :
لا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز فسخ الحج إلى عمرة مفردة لا يأتي بعدها بالحج ، كما أنه لا خلاف بينهم في أنه لا يجوز لمن ساق الهدي أن يفسخ ما أحرم به إلى عمرة . وإنما الذي فيه الخلاف هو بالنسبة لمن كان مفردا أو قارنا ولم يسق الهدي ، هل له أن يفسخ حجه إلى عمرة ليكون متمتعا أم لا ؟
قال ابن عبد البر : " تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه في حجته من لم يكن معه منهم هدي ولم يسقه وكان قد أحرم بالحج أن يجعلها عمرة .
وقد أجمع العلماء على تصحيح الآثار بذلك عنه صلى الله عليه وسلم ، ولم يدفعوا شيئا منها ، إلا أنهم اختلفوا في القول بها والعمل "
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : " لم يختلف أحد من أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه إذا طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة ، وهذا مما تواترت به الأحاديث "
وبعدما اتفق العلماء على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه عام حجه بفسخ الحج إلى العمرة بقوله صلى الله عليه وسلم:
القول الأول: أن فسخ الحج إلى العمرة لا يجوز ، سواء ساق الهدي أم لم يسقه ، وأن ذلك كان خاصا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهو قول الحنفية والمالكية والشافعية
واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 - ما روي من طريق الحارث بن بلال عن أبيه قال: قلت:
3 - عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال:
4 - إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالفسخ؛ ليحرموا بالعمرة في أشهر الحج ، ويخالفوا ما كانا الجاهلية عليه من تحريم العمرة في أشهر الحج ، وقولهم: إنها من أفجر الفجور
ونوقشت هذه الأدلة بما يلي:
حديث الحارث بن بلال لا يصح ، وحديثه لا يكتب ، ولا يعارض . بمثله الأحاديث الصحيحة . وقالوا: وهو حديث ساقط بالمرة باطل لا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تفرد به ربيعة عن الحارث بن بلال المجهول الذي لا يعرف؛ فهو من افترائه أو من غلطه ووهمه ، فإن الحديث المقطوع بصحته قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف هذا ، وأن ذلك إلى الأبد ، مما هو قاطع بكذب هذا الحديث وبطلانه
وأما المروي عن أبي ذر رضي الله عنه أن المتعة في الحج كانت لهم خاصة ، فهذا إن أريد به أصل المتعة فهذا لا يقول به أحد من المسلمين ، بل المسلمون متفقون على جوازها إلى يوم القيامة ، وإن أريد به متعة الفسخ فهذا رأي رآه أبو ذر رضي الله عنه ، وقد قال ابن عباس وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهما: إن ذلك عام للأمة ، فرأي أبي ذر رضي الله عنه معارض برأيهما ، وسلمت النصوص الصحيحة الصريحة .
ثم من المعلوم أن دعوى الاختصاص باطلة ، بنص النبي صلى الله عليه وسلم أن تلك العمرة التي وقع السؤال عنها ، وكانت عمرة فسخ لأبد الأبد ، لا تختص بقرن دون قرن ، وهذا أصح سندا من المروي عن أبي ذر رضي الله عنه ، وأولى أن يؤخذ به منه لو صح عنه .
وأيضا فإذا رأينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا في أمر قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعله وأمر به ، فقال بعضهم: إنه منسوخ أو خاص ، وقال بعضهم: هو باق إلى الأبد ، فقول من ادعى نسخه أو اختصاصه مخالف للأصل ، فلا يقبل إلا ببرهان ، وإن أقل ما في الباب معارضته بقول من ادعى بقاءه وعمومه ، والحجة تفصل بين المتنازعين ، والواجب عند التنازع الرد إلى الله ورسوله؛ فإن قال أبو ذر : إن الفسخ منسوخ أو خاص ، وقال أبو موسى وابن عباس : إنه باق وحكمه عام ، فعلى من ادعى النسخ والاختصاص الدليل .
على أن المروي عن أبي ذر يحتمل ثلاثة أمور:
أحدها: اختصاص جواز ذلك بالصحابة ، وهو الذي فهمه من حرم الفسخ .
والثاني: اختصاص وجوبه بالصحابة ، وهو الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ، وأما الجواز والاستحباب فللأمة إلى يوم القيامة .
والاحتمال الثالث: أنه ليس لأحد من بعد الصحابة أن يبتدئ حجا قارنا أو مفردا بلا هدي ، بل هذا يحتاج معه إلى الفسخ ، لكن فرض عليه أن يفعل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في آخر الأمر ، من التمتع لمن لم يسق الهدي ، والقران لمن ساق الهدي ، كما صح عنه ذلك .
وأما أن يحرم بحج مفردا ثم يفسخه عند الطواف إلى عمرة مفردة ويجعله متعة ، فليس له ذلك ، بل هذا إنما كان للصحابة ، فإنهم ابتدأوا الإحرام بالحج المفرد قبل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمتع والفسخ إليه ، فلما استقر أمره بالتمتع والفسخ إليه لم يكن لأحد أن يخالفه ويفرد ثم يفسخه .
وإذا تأملت هذين الاحتمالين الأخيرين ، رأيتهما إما راجحين على الاحتمال الأول أو مساويين له ، وتسقط معارضة الأحاديث الصريحة به جملة
وأما المروي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه كان يقول- فيمن حج ثم فسخها بعمرة-:
فقد قال النووي : " إسناد هذا لا يحتج به ؛ لأن محمد بن إسحاق مدلس ، وقد قال " عن " ، واتفقوا على أن المدلس إذا قال " عن " لا يحتج به "
قلت: وعلى فرض صحته فقد تقدم الجواب عن ذلك . وأما القول بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بالفسخ ؛ ليبين الجواز ، وليخالف ما كانت الجاهلية تعتقده من عدم جواز العمرة في أشهر الحج .
فالجواب عنه:
1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر قبل ذلك عمره الثلاث في أشهر الحج في ذي القعدة ، فكيف يظن أن الصحابة رضي الله عنهم لم يعلموا جواز الاعتمار في أشهر الحج إلا بعد أمرهم بفسخ الحج إلى عمرة؟
2 - أنه ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قد قال لهم عند الميقات:
3 - أنه أمر من لم يسق الهدي أن يتحلل ، وأمر من ساق الهدي أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله ، ففرق بين محرم ومحرم . وهذا يدل على أن سوق الهدي هو المانع من التحلل لا مجرد الإحرام الأول ، والعلة التي ذكروها لا تختص بمحرم دون محرم فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل التأثير في الحل وعدمه للهدي وجودا وعدما لا لغيره
4 - وأيضا فالذين حجوا معه متمتعين كان في حجهم ما يبين الجواز ، فلا يجوز أن يأمر جميع من حج معه بالتحلل من إحرامه وأن يجعلوا ذلك تمتعا لمجرد بيان جواز ذلك ، ولا ينقلهم عن الأفضل إلى المفضول ؛ فعلم أنه إنما نقلهم إلى الأفضل . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: عمرتنا هذه لعامنا أم للأبد؟ فقال:
5 - وأيضا فإذا كان الكفار غير متمتعين ولا معتمرين في أشهر الحج ، والنبي صلى الله عليه وسلم قصد مخالفة الكفار ، كان هذا من سنن الحج ، كما فعل في وقوفه بعرفة ومزدلفة ؛ فإن المشركين كانوا يعجلون الإفاضة من عرفة قبل الغروب ، ويؤخرون الإفاضة من جمع
فهكذا ما فعله من التمتع والفسخ ، إن كان قصد به مخالفة المشركين فهذا هو السنة ، وإن فعله لأنه أفضل وهو سنة ، فعلى كلا التقديرين يكون الفسخ أفضل ، اتباعا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه- والله أعلم-
القول الثاني: أن الفسخ جائز بل مستحب . وهو قول الإمام أحمد والحسن ومجاهد وداود ، وهو الذي يرجحه شيخ الإسلام ابن تيمية
القول الثالث: وجوب فسخ الحج إلى عمرة لمن لم يسق الهدي . وبه قال ابن عباس رضي الله عنه ، وهو قول ابن حزم ومال إليه ابن القيم
والأدلة لهذين القولين هي:
1 - الأحاديث الصحيحة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم كل من لم يسق الهدي أن يفسخ حجه إلى عمرة ، وهي متواترة كما تقدم ، ولم يختلف أهل العلم في صحتها .
قال الإمام أحمد في رده على سلمة بن شبيب : " عندي أحد عشر حديثا في فسخ الحج ، أتركها لقولك؟ "
وقال ابن القيم : " روى عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بفسخه الحج إلى العمرة أربعة عشر من أصحابه " . ثم ذكرهم ، ثم ذكر أحاديثهم التي رووها
حديث جابر في الصحيحين- وفيه-: فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عمرة ، وفيه:
قال ابن القيم : " وهذا اللفظ الأخير صريح في إبطال قول من قال إن ذلك كان خاصا بهم ، فإنه حينئذ يكون لعامهم ذلك وحده ، لا للأبد ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه للأبد "
2 - ما ثبت عن أبي موسى رضي الله عنه أنه أفتى الناس بالفسخ الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفي ، ثم زمن أبي بكر ، ثم زمن عمر رضي الله عنهما
3 - أن ابن عباس رضي الله عنه كان يأمر بالفسخ كل من لم يسق الهدي ويجعله عمرة ، بل كان يرى أن كل من طاف بالبيت وسعى فقد حل ، شاء أم أبى
إلا أن أصحاب القول الثاني يحملون هذه الأدلة على الاستحباب ، وأصحاب القول الثالث يحملونها على الوجوب
يقول ابن القيم رحمه الله: " ونحن نشهد الله علينا أنا لو أحرمنا بحجج لرأينا فرضا علينا فسخه إلى عمرة ؛ تفاديا من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعا لأمره ، فوالله ما نسخ هذا في حياته ولا بعده ، ولا صح حرف واحد يعارضه ، ولا خص به أصحابه دون من بعدهم ، بل أجرى الله سبحانه على لسان سراقة أن يسأله هل ذلك مختص بهم ؟ فأجاب بأن ذلك كائن لأبد الأبد . فما ندري ما نقدم على هذه الأحاديث ، وهذا الأمر المؤكد الذي غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على من خالفه . . . "
مناقشة أصحاب القول الأول للقولين الثاني والثالث ، والجواب عن هذه المناقشة:
1 - أن حديث سراقة بن مالك المقصود به إبطال ما كان يعتقده أهل الجاهلية من امتناع العمرة في أشهر الحج
قلت: قد تقدم الجواب عن هذا .
2 - أن حديث الحارث بن بلال ، قال عنه النووي : لم أر في الحارث جرحا ولا تعديلا ، وقد رواه أبو داود ولم يضعفه ، وقد ذكرنا أن ما لم يضعفه أبو داود فهو حديث حسن عنده إلا أن يوجد ما يقتضي ضعفه
قلت: قد تقدم الجواب عن سبب تضعيف العلماء لحديث الحارث بن بلال ، ثم كون الحديث لم يضعفه أبو داود لا يلزم منه أن لا يكون ضعيفا ، فقد أورد أبو داود حديث أبي ذر برقم 1807 ، وحديث الحارث برقم 1808 ، ولم يضعف حديث أبي ذر ، وقد قال النووي : " حديث أبي ذر إسناده لا يحتج به ؛ لأن محمد بن إسحاق مدلس وقد قال " عن " ، والمدلس إذا قال " عن " لا يحتج به " . اهـ .
فلم يكتف النووي بعدم تضعيف أبي داود لهذا الحديث ، فكذلك حديث الحارث . ذكر أهل العلم أن الحارث مجهول ، وحديثه يخالف الحديث الصحيح ، مما يدل على بطلان حديث الحارث ، ولم يروا عدم تضعيف أبي داود له دليلا على صحته .
3 - قالوا: إن حديث سراقة بن مالك قد اختلف العلماء في معناه ، على أقوال :
قال النووي : " أصحها - وبه قال جمهورهم- معناه أن العمرة يجوز فعلها في أشهر الحج إلى يوم القيامة . والمقصود به إبطال ما كانت الجاهلية تزعمه من امتناع العمرة في أشهر الحج .
والثاني: معناه جواز القران . وتقدير الكلام: دخلت أفعال العمرة في أفعال الحج إلى يوم القيامة .
والثالث: تأويل بعض القائلين بأن العمرة ليست واجبة؛ قالوا: معناه سقوط العمرة . قالوا: ودخولها في الحج معناه: سقوط وجوبها ، وهذا ضعيف أو باطل .
والرابع: تأويل بعض أهل الظاهر أن معناه جواز فسخ الحج إلى العمرة ، وهذا أيضا ضعيف " . اهـ
وتعقبه الحافظ ابن حجر بقوله- بعدما أورد كلام النووي -: " وتعقب بأن سياق السؤال يقوي هذا التأويل ، بل الظاهر أن السؤال وقع عن الفسخ ، والجواب وقع عما هو أعم من ذلك ، حتى يتناول التأويلات المذكورة إلا الثالث . والله أعلم "
قلت - بعد إيراد الأدلة والمناقشات-: فالذي يترجح عندي هو القول باستحباب الفسخ ، وليس القول بالوجوب أو التحريم ، وأن الوجوب كان خاصا بالصحابة ، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ، أما الاستحباب فباق إلى يوم القيامة ؛ وبه تجتمع الأدلة ، فقول من قال من الصحابة بأنه خاص بهم ، أي وجوب الفسخ ، وقول من قال من الصحابة بعموم الفسخ يحمل على جواز ذلك واستحبابه
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: " والذي يظهر لنا صوابه في حديث
المبحث الرابع: تحقيق النسك الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم:
اختلف العلماء في النسك الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم ، وسبب الخلاف أنه روي عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان مفردا ، وروي أنه كان متمتعا ، وروي أنه كان قارنا
والأقوال في هذه المسألة ثلاثة:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردا ، وبه قال الإمام مالك ، والشافعي في قول من أقوآله
الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعا ، وهو قول للشافعي ، وبه قال بعض أصحاب الإمام أحمد ، وبعض أصحاب الشافعي
وأصحاب هذا القول منهم من رأى أن النبي صلى الله عليه وسلم تمتع تمتعا حل فيه من إحرامه ، ومنهم من رأى أنه لم يحل من إحرامه من أجل سوق الهدي
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا ، وهو قول أبي حنيفة
أدلة القول الأول:
1 - عن عائشة رضي الله عنها ، قالت:
2 - عن عائشة رضي الله عنها:
3 - عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال:
4 - عن جابر رضي الله عنه ، قال في حجة النبي صلى الله عليه وسلم:
5 - عن جابر رضي الله عنه:
6 - عن عطاء قال:
7 - عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل القرشي ، أنه سأل عروة بن الزبير ، فقال:
ونوقشت أدلتهم بما يلي :
أن هؤلاء الذين رووا الإفراد - وهم عائشة وجابر وابن عمر - رووا أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قارنا - كما سيأتي في أدلة من رأى القران - ويعترض عليها بالأحاديث الأخرى الصحيحة ، التي رواها غير هؤلاء ، التي نقل رواتها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حج قارنا ، وفي بعضها أنه حج متمتعا ، فهي متعارضة في الظاهر ومحتملة إفراد الحج ، أو أن مرادهم إفراد عمل الحج ، كما أن من روى أنه أفرد الحج لم يقل أحد منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إني أفردت بالحج ، ولا أتاني من ربي آت يأمرني بالإفراد ، ولا قال أحد : سمعته يقول : لبيك بعمرة مفردة البتة ، ولا بحج مفرد
شيخ الإسلام ابن قال تيمية : (( . . . وأما الذين نقل عنهم أنه أفرد الحج فهم ثلاثة: عائشة وابن عمر وجابر ، والثلاثة نقل عنهم التمتع ، وحديث عائشة وابن عمر أنه تمتع بالعمرة إلى الحج أصح من حديثهما أنه أفرد الحج ، وما صح عنهما من ذلك فمعناه إفراد أعمال الحج ))
وقال ابن القيم - بعدما ذكر الأحاديث السابقة التي ذكرناها استدلالا للقول الأول - قال: (( فأرباب هذا القول عذرهم ظاهر كما ترى ، ولكن ما عذرهم في حكمه وخبره الذي حكم به على نفسه ، وأخبر عنها بقوله:
ومن روى عنهم ما يوهم خلاف هذا ، فإنه عبر بحسب ما فهمه ، كما سمع بكر بن عبد الله بن عمر يقول: أفرد الحج ، فقال: لبى بالحج وحده ، حمله على المعنى ، وقال سالم ابنه عنه ونافع مولاه: إنه تمتع فبدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج ، فهذا سالم يخبر بخلاف ما أخبر به بكر ، ولا يصح تأويل هذا عنه بأنه أمر به ، فإنه فسره بقوله: وبدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج ، وكذا الذين رووا الإفراد عن عائشة رضي الله عنها ، فهما عروة والقاسم ، وروى القران عنها عروة ومجاهد ، وأبو الأسود يروي عن عروة الإفراد ، والزهري يروي عنه القران ، فإن قدرنا تساقط الروايتين سلمت رواية مجاهد ، وإن حملت رواية الإفراد على أنه أفرد أعمال الحج تصادقت الروايات وصدق بعضها بعضا ، ولا ريب أن قول عائشة وابن عمر :
أفرد بالحج ، محتمل لثلاثة معان:
أحدها: الإهلال به مفردا .
والثاني: إفراد أعمال الحج .
والثالث: أنه حج حجة واحدة لم يحج معها غيرها ، بخلاف العمرة فإنها كانت أربع مرات .
وأما قولهما:
فإن ضمت رواية مجاهد إلى رواية عمرة والأسود ، ثم ضمتا إلى رواية عروة ، تبين من مجموع الروايات أنه كان قارنا ، وصدق بعضها بعضا ، حتى لو لم يحتمل قول عائشة وابن عمر إلا معنى الإهلال به مفردا ، لوجب قطعا . أن يكون سبيله سبيل قول ابن عمر :
وأما قول جابر :
ثم ذكر ابن القيم الطريقين الأخريين ، إلى أن قال: وبكل حال فلو صح هذا عن جابر لكان حكمه حكم المروي عن عائشة وابن عمر . وسائر الرواة الثقات إنما قالوا: أهل بالحج ، فلعل هؤلاء حملوه على المعنى ، وقالوا: أفرد الحج . ومعلوم أن العمرة إذا دخلت في الحج ، فمن قال أهل بالحج لا يناقض من قال أهل بهما ، بل هذا فصل ، وذاك أجمل ، ومن قال: أفرد الحج ، يحتمل ما ذكرنا من الوجوه الثلاثة . . . ))
أدلة القول الثاني ، الذي يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم حج متمتعا:
1 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه ، قال:
2 - عن عمران بن حصين ، قال:
3 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال:
ونوقشت هذه الأدلة:
بأنه ليس فيها دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حج متمتعا ، حل فيه من إحرامه ، بدليل الأحاديث الصحيحة الصريحة في أنه صلى الله عليه وسلم لم يحل من إحرامه
على أن التمتع المذكور في هذه الأحاديث المراد به القران ، فالصحابة يطلقون التمتع ويعنون به القران
وفي رواية عن سعيد بن المسيب ، قال:
أدلة القول الثالث ، الذي يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا:
ورد في ذلك أحاديث كثيرة صحيحة وهي صريحة في ذلك ، ومنها:
1 - ما رواه ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر قال:
2 - وفي الصحيحين أيضا عن عروة عن عائشة ،
3 - عن نافع عن ابن عمر :
طوافا واحدا ، ثم قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . . .
4 - عن ابن عباس :
5 - عن مجاهد ، قال:
6 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
7 - ما
رضي الله عنها قد لبست ثيابا صبيغا وقد نضحت البيت بنضوح ، فقالت: ما لك؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه فأحلوا ، فقلت لها: إني أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لي: كيف صنعت؟ قال: قلت: أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: فإني قد سقت الهدي وقرنت . . .
8 - عن علي بن الحسين
9 - عن حميد بن هلال ، قال:
قلت: وهذا الحديث صحيح وصريح في أنه كان قارنا .
10 -
قال ابن القيم : ((إسناده ثقات ))
11 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه:
قال ابن القيم : ((رواه الإمام أحمد
قلت: قال الترمذي : حديث جابر حسن ، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم
12 - عن حفصة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم:
واللفظ لمسلم
قال ابن القيم : (( وهذا يدل على أنه كان في عمرة معها حج ، فإنه لا يحل من العمرة حتى يحل من الحج ، وهذا على أصل مالك والشافعي ألزم ، لأن المعتمر عمرة مفردة لا يمنعه عندهما الهدي من التحلل ، وإنما يمنعه عمرة القران ، فالحديث على أصلهما نص ))
وقال ابن حجر : (( قول حفصة :
,
قال ابن القيم : (( ومراده بالتمتع هنا بالعمرة إلى الحج: أحد نوعيه ، وهو تمتع القران ، فإنه لغة القرآن ، والصحابة الذين شهدوا التنزيل والتأويل شهدوا بذلك ، ولهذا قال ابن عمر : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج ، فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج ، وكذلك قالت عائشة
ثم ذكر ابن القيم حديث عمران بن حصين في المتعة وكذلك حديث سعيد بن المسيب في اختلاف علي وعثمان في المتعة ، ثم قال: (( فهذا يبين أن من جمع بينهما كان متمتعا عندهم ، وأن هذا هو الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد وافقه عثمان - أي وافق عليا - على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ، فإنه لما قال له: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه ، لم يقل له: لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولولا أنه وافقه على ذلك لأنكره ، ثم قصد علي إلى موافقة النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في ذلك ، وبيان أن فعله لم ينسخ ، وأهل بهما جميعا؛ تقريرا للاقتداء به ومتابعته في القران ، وإظهارا لسنة نهى عنها عثمان متأولا ، وحينئذ فهذا دليل مستقل ))
14 - عن أنس رضي الله عنه ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
15 - عن قتادة عن أنس :
وقد أورد العلامة ابن القيم اثنين وعشرين حديثا ، قال عنها بأنها صحيحة صريحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا
وقال ابن القيم - بعد ما أورد حديث أنس المتقدم -: (( فهؤلاء ستة عشر نفسا من الثقات ، كلهم متفقون عن أنس أن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم كان إهلالا بحج وعمرة معا - ثم ذكر هؤلاء الستة عشر ، إلى أن قال -: فهذه أخبار أنس عن لفظ إهلاله صلى الله عليه وسلم الذي سمعه منه ، وهذا علي والبراء يخبران عن إخباره صلى الله عليه وسلم عن نفسه بالقران ، وهذا علي أيضا يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله ، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ربه أمره بأن يفعله ، وعلمه اللفظ الذي يقوله عند الإحرام ، وهذا علي أيضا يخبر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بهما جميعا ، وهؤلاء بقية من ذكرنا يخبرون عنه بأنه فعله ، وهذا هو صلى الله عليه وسلم يأمر به آله ، ويأمر به من ساق الهدي . وهؤلاء الذين رووا القران بغاية البيان: عائشة أم المؤمنين ، وعبد الله بن عمر ، وجابر ، وعبد الله بن عباس ، وعمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعثمان بن عفان بإقراره لعلي وتقرير علي له ، وعمران بن الحصين ، والبراء بن عازب ، وحفصة أم المؤمنين ، وأبو قتادة ، وابن أبي أوفى ، وأبو طلحة ، والهرماس بن زياد ، وأم سلمة ، وأنس بن مالك ، وسعد بن أبي وقاص ، فهؤلاء سبعة عشر صحابيا رضي الله عنهم ، منهم من روى فعله ، ومنهم من روى لفظ إحرامه ، ومنهم من روى خبره عن نفسه ، ومنهم من روى أمره به . . . ))
ثم قال ابن القيم : (( فإن قيل: كيف تجعلون منهم ابن عمر وجابرا وعائشة وابن عباس ؟ وهذه عائشة تقول:
قيل؟ إن كانت الأحاديث عن هؤلاء تعارضت وتساقطت فإن أحاديث الباقين لم تتعارض . فهب أن أحاديث من ذكرتم لا حجة فيها على القران ، ولا على الإفراد؛ لتعارضها ، فما الموجب للعدول عن أحاديث الباقين مع صراحتها وصحتها؟ فكيف وأحاديثهم يصدق بعضها بعضا ، ولا تعارض بينها ، وإنما ظن من ظن التعارض لعدم إحاطته بمراد الصحابة من ألفاظهم ، وحملها على الاصطلاح الحادث بعدهم )) اهـ
الراجح:
بعد أن سقنا أدلة من رأى أنه صلى الله عليه وسلم كان مفردا ، ومن رأى أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا ، ومن رأى أنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعا ، وذكرنا المناقشات ، والاعتراضات ، والإجابات ، فالراجح من هذه الأقوال ، بل الصحيح منها وهو الحق - إن شاء الله - أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان قارنا ولم يكن مفردا ولا متمتعا ، وهو قول أبي حنيفة وأحمد وأهل الحديث وقول للشافعي .
وهذا القول رجحه العلماء المحققون ، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والنووي وابن حجر وغيرهم .
قال الإمام أحمد : (( لا أشك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا ، والتمتع أحب إلي؛ لأنه آخر الأمرين ))
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : (( أما حج النبي صلى الله عليه وسلم فالصحيح أنه كان قارنا ، قرن بين الحج والعمرة وساق الهدي . . . ، وهذا الذي ذكرناه هو الصواب المحقق عند أهل المعرفة بالأحاديث الذين جمعوا
طرقها ، وعرفوا مقصدها . وقد جمع أبو محمد بن حزم في حجة الوداع كتابا جيدا في هذا الباب ))
وقال ابن القيم : (( وإنما قلنا: إنه أحرم قارنا ، لبضعة وعشرين حديثا صحيحة صريحة في ذلك ))
وقال النووي : (( والصواب الذي نعتقده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا ))
وقال ابن حجر : (( والذي تجتمع به الروايات أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا ))
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي : (( ولا شك عند من جمع بين العلم والإنصاف ، أن أحاديث القران أرجح من جهات متعددة ، ثم ذكر - رحمه الله - هذه الجهات . . . ))
وقد ذكر العلامة ابن القيم في زاد المعاد أن أحاديث القران أرجح ، من خمسة عشر وجها ، ثم ذكرها
قلت: ومن أهم هذه المرجحات ما يلي:
1 - أنهم أكثر من غيرهم كما تقدم .
2 - أن طرق الإخبار بذلك تنوعت .
3 - أن فيهم من أخبر عن سماعه ولفظه صريحا وفيهم من أخبر عن إخباره عن نفسه بأنه فعل ذلك ، وفيهم من أخبر عن أمر ربه له بذلك ، ولم يجئ شيء من ذلك في الإفراد .
4 - تصديق روايات من روى أنه اعتمر أربع عمر لها .
5 - أنها صريحة لا تحتمل التأويل ، بخلاف روايات الإفراد .
6 - أنها متضمنة زيادة سكت عنها أهل الإفراد ، أو نفوها ، والذاكر الزائد مقدم على الساكت ، والمثبت مقدم على النافي .
7 - أن رواة الإفراد أربعة: عائشة وابن عمر وجابر وابن عباس ، والأربعة رووا القرآن ، فإن صرنا إلى تساقط رواياتهم ، سلمت رواية من عداهم للقران عن معارض ، وإن صرنا إلى الترجيح ، وجب الأخذ برواية من لم تضطرب الرواية عنه ولا اختلفت ، كالبراء ، وأنس ، وعمر بن الخطاب ، وعمران بن حصين ، وحفصة ، ومن معهم .
8 - أنه النسك الذي أمر به من ربه ، فلم يكن ليعدل عنه .
9 - أنه النسك الذي أمر به كل من ساق الهدي ، فلم يكن ليأمرهم به إذا ساقوا الهدي ، ثم يسوق هو الهدي ويخالفه
وقد ذكر الحافظ ابن حجر أجوبة من رجح الإفراد على القران ، ومنهم البيهقي ، وقال: ولا يخفى ما في هذه الأجوبة من تعسف
المبحث الخامس : طريق الجمع بين الأحاديث الصحيحة المروية في نسك الحج الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم :
قد سبق أن ذكرنا أن من الصحابة من روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حجة الوداع مفردا ، ومنهم من روى أنه كان متمتعا ، ومنهم من روى أنه كان قارنا؛ وهذه الروايات صحيحة في قصة واحدة ، فكيف يمكن الجمع بينها؟ والعلماء كما اختلفوا في النسك الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم ، اختلفوا في كيفية الجمع بين ما روي في ذلك .
قال النووي : (( والصواب الذي نعتقده أنه صلى الله عليه وسلم أحرم أولا بالحج مفردا ، ثم أدخل عليه العمرة ، فصار قارنا ، وإدخال العمرة على الحج جائز على أحد القولين عندنا ، وعلى الأصح لا يجوز لنا ، وجاز للنبي صلى الله عليه وسلم تلك السنة ، وأمر به في قوله:
فإذا عرفت ما قلناه سهل الجمع بين الأحاديث . فمن روى أنه صلى الله عليه وسلم كان مفردا - وهم الأكثرون كما سبق - أراد أنه اعتمر في أول الإحرام ومن روى أنه كان قارنا ، أراد أنه اعتمر آخره وما بعد إحرامه ومن روى أنه كان متمتعا ، أراد التمتع اللغوي ، وهو الانتفاع والالتذاذ ، وقد انتفع بأن كفاه عن النسكين فعل واحد ولم يحتج إلى إفراد كل واحد بعمل . ويؤيد هذا الذي ذكرته أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر تلك السنة عمرة مفردة لا . قبل الحج ولا بعده ))
قلت: وهذا الذي ذكره النووي رحمه الله يعترض عليه بأن رواة الإفراد ليسوا هم الأكثرين ، وأن الأحاديث الصحيحة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بالنسكين معا ، كما تقدم .
وذكر الخطابي في كيفية الجمع: (( أن كلا أضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر به اتساعا ، ثم رجح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردا
قال الحافظ ابن حجر : ((وهذا الجمع هو المعتمد ، وقد سبق إليه قديما ، ابن المنذر ، وبينه ابن حزم في حجة الوداع بيانا شافيا ، ومهد له المحب الطبري تمهيدا بالغا ، يطول ذكره ، ومحصله: أن كل من روى عنه الإفراد حمل على ما أهل به في أول الحال ، وكل من روى عنه التمتع أراد ما أمر به أصحابه ، وكل من روى عنه القران أراد ما استقر عليه أمره ، ويترجح رواية من روى القران بأمور . . . )) ثم ذكرها الحافظ ابن حجر
قلت: هذا الذي ذكروه يعترض عليه بأمور:
منها: أن الأحاديث الصحيحة قد تضافرت على أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا وليس مفردا كما ذكروه ، وقد تقدم بيان ذلك . ومنها: أن الأحاديث الصحيحة قد دلت على أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بالنسكين معا ، وأنه جمع بينهما ، لا أنه أحرم مفردا ثم أدخل العمرة على الحج . ثم إن المالكية والشافعية يرجحون أنه كان مفردا ، فكيف يستقيم هذا مع الجمع بأنه كان قارنا آخر الأمر؟ .
أما القول بأن كل من روى عنه صلى الله عليه وسلم التمتع أراد به ما أمر به أصحابه ، فيعترض عليه أن هناك أحاديث صحيحة دلت على أنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعا
ومن أحسن ما جاء في الجمع بين الأحاديث المروية في النسك الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم - من أحسن الجمع - ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ، حيث قال: (( والصواب أن الأحاديث متفقة ليست مختلفة إلا اختلافا يسيرا يقع مثله في غير ذلك ، فإن الصحابة ثبت عنهم أنه تمتع ، والتمتع عندهم يتناول القران ، والذين روي عنهم أنه أفرد روي عنهم أنه تمتع )) .
ثم ذكر - رحمه الله - المروي في ذلك ، وجمع بين ذلك بما محصله: (( أن التمتع عند الصحابة يتناول القران ، فتحمل عليه رواية من روى أنه . حج متمتعا ، وكل من روى الإفراد ، قد روى أنه صلى الله عليه وسلم حج تمتعا وقرانا ، فيتعين الحمل على القران ، وأنه أفرد أعمال الحج ))
وقد نقل ابن القيم ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وارتضاه ، إلى أن قال ابن القيم : ((قال
قلت - القائل ابن القيم -: وقد اتفق أنس وعائشة وابن عمر وابن عباس ، على أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر ، وإنما وهم ابن عمر في كون إحداهن في رجب ، وكلهم قالوا: وعمرة مع حجته ، وهم - سوى ابن عباس - قالوا: إنه أفرد الحج ، وهم - سوى أنس - قالوا: تمتع ، فقالوا: هذا وهذا وهذا ، ولا تناقض بين أقوآله م ، فإنه تمتع تمتع قران ، وأفرد أعمال الحج ، وقرن بين النسكين ، وكان قارنا باعتبار جمعه بين النسكين ، ومفردا باعتبار اقتصاره على أحد الطوافين والسعيين ، ومتمتعا باعتبار ترفهه بترك أحد السفرين .
ومن تأمل ألفاظ الصحابة ، وجمع الأحاديث بعضها إلى بعض ، واعتبر بعضها ببعض ، وفهم لغة الصحابة ، أسفر له صبح الصواب ، وانقشعت عنه ظلمة الاختلاف والاضطراب . والله الهادي لسبيل الرشاد ، والموفق لطريق السداد .
فمن قال: إنه أفرد الحج ، وأراد به أنه أتى بالحج مفردا ، ثم فرغ منه وأتى بالعمرة بعده من التنعيم أو غيره - كما يظن كثير من الناس - ، فهذا غلط لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين ، ولا الأئمة الأربعة ، ولا أحد من أئمة الحديث . وإن أراد به أنه حج حجا مفردا لم يعتمر معه - كما قاله طائفة من السلف والخلف - فوهم أيضا ، والأحاديث الصحيحة ترده كما تبين . وإن أراد به أنه اقتصر على أعمال الحج وحده ، ولم يفرد للعمرة أعمالا فقد أصاب ، وعلى قوله تدل جميع الأحاديث .
ومن قال: إنه قرن ، فإن أراد به أنه طاف للحج طوافا على حدة ، وللعمرة طوافا على حدة ، وسعى للحج سعيا والعمرة سعيا ، فالأحاديث الثابتة ترد قوله . وإن أراد أنه قرن بين النسكين ، وطاف لهما طوافا واحدا ، وسعى لهما سعيا واحدا ، فالأحاديث الصحيحة تشهد لقوله ، وقوله هو الصواب .
ومن قال: إنه تمتع ، فإن أراد أنه تمتع تمتعا حل منه ثم أحرم بالحج إحراما مستأنفا ، فالأحاديث ترد قوله ، وهو غلط . وإن أراد أنه تمتع تمتعا لم يحل منه ، بل بقي على إحرامه لأجل سوق الهدي ، فالأحاديث الكثيرة ترد قوله أيضا ، وهو أقل غلطا . وإن أراد تمتع القران ، فهو الصواب الذي تدل عليه جميع الأحاديث الثابتة ، ويأتلف به شملها ، ويزول عنها الإشكال والاختلاف ))
قلت: فالراجح من الجمع بين الأحاديث هو ما ذكره شيخا الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، وقد قال الشوكاني عن الجمع الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية : إنه جمع حسن .
اختلف العلماء في الأفضل من الأنساك الثلاثة ، وسبب اختلافهم في ذلك يرجع إلى اختلافهم في نسك الحج الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم
فاختلف العلماء في الأفضل على أربعة أقوال:
القول الأول: أن الإفراد هو الأفضل ، وبه قال الإمام مالك
الحج ، أما إن أخر العمرة عن سنة الحج ، فكل واحد من القران والتمتع أفضل ، بلا خلاف - في المذهب - لأن تأخير العمرة عن سنة الحج مكروه
والأدلة لهذا القول:
1 - قالوا: إنه النسك الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم
ونوقش هذا الاستدلال: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج مفردا ، على الصحيح - كما تقدم في المبحث الرابع - .
2 - قالوا: إن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أفردوا الحج ، وواظبوا عليه ، كذلك فعل أبو بكر وعمر وعثمان ، واختلف على علي ، ولو لم يكن هذا هو الأفضل عندهم ، وعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم حج مفردا لم يواظبوا على الإفراد ، مع أنهم الأئمة الأعلام ، وقادة الإسلام ، ويقتدى بهم في عصرهم وبعدهم ، وكيف يظن بهم المواظبة على خلاف فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، أو أنهم خفي عليهم جميعهم فعله صلى الله عليه وسلم
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال . بما يلي:
أما كون النبي صلى الله عليه وسلم أحرم مفردا ، فالأحاديث الصحيحة الصريحة ترد هذا القول كما تقدم
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (( إنه إذا أفرد الحج بسفرة ، والعمرة بسفرة ، فهو أفضل من القران والتمتع الخاص بسفرة واحدة ، وقد نص على ذلك أحمد وأبو حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم . وهو الإفراد ، الذي فعله أبو بكر وعمر ، وكان عمر يختاره للناس ، وكذلك علي ، وقال عمر وعلي في قوله تعالى: سورة البقرة الآية 196
3 - قالوا: إن الدم الواجب بالقران والتمتع جبران للنقص؛ لأنه دم متعلق بالإحرام ، أو يختص وجوبه بالإحرام ، فأشبه الجزاء ونسك الأذى ، وإذا ثبت أنه دم نقص وجبران ، فالإتيان بالعبادة على وجه ليس فيه نقص ولا جبران أتم
ونوقش هذا الاستدلال: بأنه لا يصح من وجهين:
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من هديه ، وقد ثبت أنه كان متمتعا التمتع العام - أي القران - فإن القارن يدخل في مسمى التمتع ، فدل على استحباب الأكل من هدي المتمتع ، ودم الجبران ليس كذلك .
الثاني: أن سبب الجبران محظور في الأصل ، كالإفساد بالوطء ، وكفعل المحظورات أو ترك الواجبات ، فإنه لا يجوز له أن يفسد حجه ، ولا أن يفعل المحظور إلا لعذر ، ولا يترك الواجب إلا لعذر ، والتمتع جائز مطلقا ، فلو كان دمه دم جبران لم يجز مطلقا ، فعلم أنه دم نسك وهدي ، وأنه مما وسع الله به على المسلمين ، فأباح لهم التحلل في أثناء الإحرام والهدي مكانه ، لما في الاستمرار من المشقة فيكون بمنزلة قصر الصلاة في السفر ، وبمنزلة الفطر للمسافر
قلت: ويمكن تلخيص الجواب عن الدليل الثالث: بأن الجميع قد اتفقوا على إباحة القران والتمتع ، فدل أنهما غير ناقصين ، وكيف يكون ناقصا وقد أباحه الله
ويضاف إلي ما تقدم ، أنه لو كان الإفراد أفضل لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان مفردا بفسخ الحج إلى عمرة
القول الثاني: أن أفضل الأنساك هو القران ، وهو قول أبي حنيفة وزفر وإسحاق والثوري ، وقول للشافعي ، وبه قال المزني وأبو إسحاق المروزي وابن المنذر ، والقاضي حسين من الشافعية ، ولم ير أصحاب هذا القول أن القران أفضل بشرط سوق الهدي ، بل رأوا أن القران أفضل مطلقا
والأدلة لهذا القول:
استدلوا بالأحاديث الصحيحة ، التي دلت على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا . قالوا: فلما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا ، وهو إنما يختار لنفسه الأفضل ، دل على أن القران أفضل الأنساك
ونوقش هذا الاستدلال:
بأنه وإن كان الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا ، لكن هذا لا يدل على أنه الأفضل؛ إذ لو كان القران هو الأفضل لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان قارنا ولم يسق الهدي أن يفسخ حجه إلى عمرة ، فالنبي صلى الله عليه وسلم نقل أصحابه من الحج إلى المتعة ، وتأسف كيفا لم يمكنه ذلك ، ولو كان القران هو الأفضل لكان الأمر بالعكس
القول الثالث: أن أفضل الأنساك هو التمتع ، وبه قال الإمام أحمد في الصحيح من المذهب ، والشافعي في قول ، وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر وعائشة وعلي ، وبه قال الحسن وعطاء وطاووس ومجاهد
وأدلة هذا القول:
الدليل الأول: استدلوا بالأحاديث الصحيحة عن ابن عباس وجابر وأبي موسى وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه لما طافوا ، أن يحلوا ويجعلوها عمرة ، وذلك في أحاديث صحيحة متفق عليها .
ومنها:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (( قد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه أمر أصحابه في حجة الوداع لما طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة ، أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة ، إلا من ساق الهدي ، فإنه أمره أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله ، لهذا لما قال سلمة بن شبيب لأحمد : يا أبا عبد الله ، قويت قلوب الرافضة
فبين أحمد أن الأحاديث متواترة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمتع لجميع أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي ، حتى من كان منهم مفردا أو قارنا ، والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينقلهم من الفاضل إلى المفضول ، بل إنما يأمرهم بما هو أفضل لهم ))
وقال شيخ الإسلام أيضا: ثبت أن المتعة أفضل من حجة مفردة ومن القران ، من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أنها آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه أمرهم بها عينا ، بعد أن خيرهم عند الميقات بينها وبين غيرها .
الثاني: أن التمتع ثبت لأصحابه الذين حجوا معه متمتعين بأمره ، وأمره أبلغ في الإيجاب والاستحباب من فعله عليه الصلاة والسلام لو كان الفعل معارضا .
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج بالمسلمين إلا هذه الحجة ، وفيها أكمل الله الدين ، وأتم النعمة ، وأحييت فيها مشاعر إبراهيم عليه
الصلاة والسلام ، فلم يكن الله ليختار لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من السبل إلا أقومها وأفضلها ، وقد اختار لهم المتعة
وقد نوقش الاستدلال: بالأحاديث التي أمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بفسخ الحج إلى عمرة ، وتأسفه على سوق الهدي ، ليفعل مثل ما أمرهم به ، بأنه إنما أمرهم بذلك ليبين لهم جواز العمرة ، وليبطل ما كان عليه أهل الجاهلية من عدم الاعتمار في أشهر الحج
وأجيب عن هذه المناقشة: . بما تقدم في مبحث فسخ الحج إلى عمرة
أما القول بأنه قال:
الدليل الثاني: أن التمتع منصوص عليه في كتاب الله تعالى ، بقوله تعالى: سورة البقرة الآية 196
الدليل الثالث: أن المتمتع يجتمع له الحج والعمرة في أشهر الحج ، مع كمالها وكمال أفعالها على وجه اليسر والسهولة ، مع زيادة لنسك هو الدم ، فكان ذلك هو الأولى
قال الشوكاني في نيل الأوطار: (( وفي الجملة لم يوجد شيء من الأحاديث ما يدل على أن بعض الأنواع أفضل من بعض غير هذا الحديث - حديث
القول الرابع: أنه إن ساق الهدي فالقران أفضل ، وإن لم يسق الهدي فالتمتع أفضل .
وهو رواية عن الإمام أحمد ، واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم
ودليل هذا القول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن حين ساق الهدي ، ومنع كل من ساق الهدي من الحل حتى ينحر هديه
إذا فأي الأنساك أفضل؟ .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية لما سئل عن الأفضل ، قال:
(( فالتحقيق في ذلك أنه يتنوع باختلاف حال الحاج ، فإن كان يسافر سفرة للعمرة وللحج سفرة أخرى ، أو يسافر إلى مكة قبل أشهر الحج ويعتمر ويقيم بها حتى يحج ، فهذا الإفراد له أفضل باتفاق الأئمة الأربعة ))
ثم قال: (( وأما إذا فعل ما يفعله غالب الناس ، وهو أن يجمع بين العمرة والحج في سفرة واحدة ، ويقدم مكة في أشهر الحج ، فهذا إن ساق الهدي فالقران أفضل له ، وإن لم يسق الهدي فالتحلل من إحرامه بعمرة أفضل؛ فإنه قد ثبت بالنقول المستفيضة التي لم يختلف في صحتها أهل العلم بالحديث ، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع هو وأصحابه ، أمرهم جميعهم أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي ، فإنه أمره أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله . وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدي هو وطائفة من أصحابه وقرن بين الحج والعمرة ، فقال:
وقال شيخ الإسلام في موضع آخر - أثناء كلامه على الراجح من الأنساك -: (( ومن سافر سفرة واحدة واعتمر فيها ثم أراد أن يسافر أخرى للحج فتمتعه أفضل له من الحج ، فإن كثيرا من الصحابة الذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا قد اعتمروا قبل ذلك ، ومع هذا فأمرهم بالتمتع ولم يأمرهم بالإفراد ، ولأن هذا يجمع بين عمرتين وحجة وهدي ، وهذا أفضل من عمرة وحجة ))
قلت: فيتلخص من كلام شيخ الإسلام :
1 - أن جعل النسكين في سفرتين أفضل من جلهما في سفرة واحدة .
2 - أن جعل النسكين في سفرة واحدة أفضل من سفرة واحدة بالحج وحده .
3 - أن من أتى بالعمرة في سفرة وأتى بالحج في سفرة أخرى ، إلا أنه في سفرته للحج كان متمتعا ، أفضل ممن سافر للعمرة ثم سافر للحج وحده ، وأن الأفضل له في سفرته للحج إن لم يسق الهدي أن يكون متمتعا .
الخاتمة:
أهم النتائج التي توصلت إليها من هذا البحث أجملها في النقاط التالية:
1 - أن القران يدخل في مسمى التمتع في عرف السلف ، فتحمل الأحاديث المروية في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعا على أن المراد بالتمتع في هذه الأحاديث هو القران .
2 - أن عمل المفرد والقارن واحد عند جمهور العلماء ، إنما يزيد القارن في الهدي فقط ، وعلى هذا فتحمل الأحاديث المروية في أنه صلى الله عليه وسلم أفرد الحج على أن المراد أفرد عمل الحج ، ولم يأت بعمل يخص به العمرة .
3 - أن العلماء لم يتفقوا على جواز التخيير بين الأنساك الثلاثة:
التمتع والإفراد والقران ، وإنما هذا هو قول أكثر أهل العلم .
4 - أن المحرم مخير بين الأنساك الثلاثة ، يحرم بأيها شاء على القول الراجح .
5 - أنه يجوز ، بل يستحب فسخ حج القارن والمفرد إذا لم يسوقا الهدي إلى عمرة ليتمتعا بها ، أما من ساق الهدي فلا يجوز له فسخ ما أحرم به .
6 - أن وجوب الفسخ خاص بالصحابة رضي الله عنهم ، أما الجواز والاستحباب فهو عام لكل أحد .
7 - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا على الصحيح من الأقوال .
8 - أنه يمكن الجمع بين الأحاديث المروية في نسك الحج الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو أن التمتع عند الصحابة يتناول القران ، فتحمل عليه رواية من روى أنه صلى الله عليه وسلم حج متمتعا ، وكل من روى الإفراد فقد روى أنه حج صلى الله عليه وسلم تمتعا وقرانا ، فيتعين الحمل على القران ، وأنه أفرد عمل الحج .
9 - بالنسبة لأي الأنساك الثلاثة أفضل ، فهذا يتنوع باختلاف حال الحاج؛ فإن كان يسافر سفرة للعمرة وللحج أخرى ، فهذا الإفراد في حقه أفضل من جعل النسكين في سفرة واحدة ، تمتعا أو قرانا .
وأما إذا جعل النسكين في سفرة واحدة ، فالأفضل في حقه
التمتع إن لم يسق الهدي ، أما إن ساق الهدي فالأفضل له القران .
وكذلك الذي أتى بالعمرة في سفرة ، ثم أراد أن يحج بسفرة أخرى ، فالأفضل له التمتع؛ لأنه يكون قد أتى بعمرتين وحجة ، وهذا أفضل ممن أتى بعمرة وحجة .
المصدر : نشر بمجلة البحوث الإسلامية العدد التاسع و الخمسين ص.198-266
shock drop air force 1 full uv reactive | nike air max olive grey white flash blue screen