بسم الله الرحمن الرحيم من : عبد اللطيف، بن عبد الرحمن، بن حسن : إلى عبد العزيز الخطيب، السلام على من اتبع الهدى وعلى عباد الله الصالحين ؛ وبعد فقرأت رسالتك وعرفت مضمونها وما قصدته من الاعتذار ولكن أسأت في قولك أن ما أنكره شيخنا، الوالد من تكفيركم أهل الحق واعتقاد إصابتكم ؛ أنه لم يصدر منكم وتذكر أن إخوانك من أهل : النقيع يجادلونك وينازعونك في شأننا وأنهم ينسبوننا إلى السكوت عن بعض الأمور وأنت تعرف : أنهم يذكرون هذا غالباً، على سبيل القدح في العقيدة والطعن في الطريقة وإن لم يصرحوا بالتكفير فقد حاموا حول الحمى / فنعوذ بالله من الضلال بعد الهدى ومن الغي عن سبيل الرشد، والعمى وقد رأيت : سنة أربع وستين رجلين من أشباهكم المارقين بالأحساء قد اعتزلا الجمعة والجماعة وكفرا من في تلك البلاد من المسلمين وجحتهم من جنس حجتكم يقولون أهل الأحساء يجالسون : ابن فيروز ويخالطونه هو، وأمثاله ممن لم يكفر بالطاغوت ولم يصرح بتكفير جده الذي رد دعوه الشيخ محمد ولم يقبلها وعاداها . قالا : ومن لم يصرح بكفره فهو كافر بالله لم يكفر بالطاغوت، ومن جالسه فهو مثله ورتبوا على هاتين المقدمتين الكاذبتين، الضالتين ما يترتب على الردة الصريحة من الأحكام حتى تركوا رد السلام فرفع إلى أمرهم فأحضرتهم وتهددتهم وأغلظت لهم القول فزعموا أولاً : أنهم على عقيدة الشيخ، محمد بن عبد الوهاب وأن رسائله عندهم فكشفت شبهتهم وأدحضت ضلالتهم، بما حضرني في المجلس . وأخبرتهم ببراءة الشيخ، من هذا المعتقد والمذهب وانه لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله، من الشرك الأكبر والكفر بآيات الله ورسله أو بشيء منها بعد قيام الحجة وبلوغها المعتبر كتكفير من عبد الصالحين ودعاهم مع الله، وجعلهم أنداداً له فيما يستحقه على خلقه ،من العبادات والإلهية وهذا : مجمع عليه أهل العلم والإيمان، وكل طائفة من أهل المذاهب المقلدة، يفردون هذه المسألة، بباب عظيم يذكرون فيه حكمها وما يوجب الردة ويقتضيها وينصون على الشرك وقد أفرد ابن حجر هذه المسألة بكتاب سماه : الإعلام بقواطع الإسلام . وقد أظهر الفارسيان المذكوران التوبة والندم وزعما : أن الحق ظهر لهما، ثم لحقا بالساحل وعادا إلى تلك المقالة وبلغنا عنهم : تكفير أئمة المسلمين، بمكاتبة الملوك المصريين ؛ بل كفروا : من خالط من كاتبهم من مشائخ المسلمين، نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى والحور بعد الكور . وقد بلغنا : عنكم نحو من هذا وخضتم في مسائل من هذا الباب كالكلام في الموالاة، والمعادة والمصالحة والمكاتبات وبذل الأموال والهدايا ونحو ذلك من مقالة أهل الشرك بالله، والضلالات والحكم بغير ما انزل الله عند البوادى، ونحوهم من الجفاة، لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب ومن رزق الفهم عن الله وأوتي الحكمة وفصل الخطاب . والكلام في هذا : يتوقف على معرفة ما قدمناه، ومعرفة أصول عامة، كلية، لا يجوز الكلام في هذا الباب وفى غيره لمن جهلها و أعرض عنها وعن تفاصيلها فإن الإجمال ،والإطلاق ،وعدم العلم،بمعرفة مواقع الخطاب، وتفاصيله، يحصل به من اللبس، والخطأ، وعدم الفقه عن الله، ما يفسد الأديان، ويشتت الأذهان، ويحول بينها، وبين فهم السنة والقرآن ؛ قال : ابن القيم، في كافيته، رحمه الله تعالى : فعـليك بالتفصيـل والتبيين فالـ إطلاق والإجمال دون بيان قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الـ أذهان والآراء كل زمان وأما : التكفير بهذه الأمور، التي ظننتموها، من مكفرات أهل الإسلام فهذا : مذهب، الحرورية، المارقين، الخارجين على علي بن أبي طالب، أمير المؤمنين، ومن معه من الصحابة، فإنهم : أنكروا عليه، تحكيم أبي موسى الأشعري، وعمرو بن العاص، في الفتنة التي وقعت، بينه وبين معاوية، وأهل الشام ؛ فأنكرت الخوارج عليه ذلك، وهم في الأصل من أصحابه، من قراء الكوفة، والبصرة، وقالوا : حكّمت الرجال في دين الله، وواليت معاوية، وعمراً، وتوليتهما، وقد قال الله تعالى : ( إن الحكم إلا لله) [يوسف:40] وضربت المدة بينك وبينهم، وقد قطع الله هذه الموادعة والمهادنة، منذ أنزلت : براءة . وطال بينهما النزاع، والخصام، حتى أغاروا على سرح المسلمين، وقتلوا من ظفروا به من أصحاب علي، فحينئذ شمر رضي الله عنه لقتالهم، وقتلهم دون النهروان، بعد الأعذار والإنذار، والتمس : " المخدج : المنعوت في الحديث الصحيح، الذي رواه مسلم، وغيره من أهل السنن، فوجده علي، فسر بذلك، وسجد لله شكراً على توفيقه، وقال : لو يعلم الذي يقاتلونهم، ماذا لهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، لنكلوا عن العمل، هذا : وهم أكثر الناس عبادة، وصلاة، وصوماً . فصل : ولفظ : الظلم، والمعصية، والفسوق، والفجور، والموالاة، والمعاداة، والركون، والشرك، ونحو ذلك من الألفاظ، الواردة في الكتاب، والسنة، قد يراد بها مسماها المطلق، وحقيقتها المطلقة، وقد يراد بها مطلق الحقيقة ؛ والأول : هو الأصل عند الأصوليين ؛ والثاني : لا يحمل الكلام عليه، إلا بقرينة لفظية، أو معنوية، وإنما يعرف ذلك بالبيان النبوي، وتفسير السنة، قال تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) الآية [ إبراهيم :4] وقال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) [ النحل :43-44] . وكذلك : اسم المؤمن، والبر، والتقى، يراد بها عند الإطلاق، والثناء، غير المعنى المراد، في مقام الأمر، والنهي ؛ ألا ترى : أن الزاني، والسارق، والشارب، ونحوهم، يدخلون في عموم قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ) الآية [ المائدة :6] وقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا ) الآية [ الأحزاب :69] وقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ) [ المائدة :106] ولا يدخلون في مثل قوله : ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ) [الحجرات:15] وقوله (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون ) الآية [ الحديد :19] . وهذا : هو الذي أوجب للسلف، ترك تسمية الفاسق، باسم الإيمان، والبر ؛ وفي الحديث : " لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر، حين يشربها، وهو مؤمن، وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم فيها، وهو مؤمن " وقوله : " لا يؤمن، من لا يأمن جاره بوائقه " لكن نفى الإيمان هنا، لا يدل على كفره، بل يطلق عليه اسم الإيمان، ولا يكون كمن كفر بالله ورسله، وهذا هو الذي فهمه السلف، وقرروه في باب الرد، على الخوارج، والمرجئة، ونحوهم، من أهل الأهواء ؛ فافهم هذا، فإنه مضلة أفهام، ومزلة أقدام . وأما : إلحاق الوعيد المرتب، على بعض الذنوب، والكبائر، فقد يمنع منه مانع، في حق المعين، كحب الله ورسوله، والجهاد في سبيله، ورجحان الحسنات، ومغفرة الله ورحمته، وشفاعة المؤمنين، والمصائب المكفرة، في الدور الثلاثة، ولذلك، لا يشهدون لمعين من أهل القبلة، بجنة ولا نار، وإن أطلقوا الوعيد، كما أطلقه القرآن، والسنة، فهم يفرقون، بين العام المطلق، والخاص المقيد ؛ وكان عبد الله حمار، يشرب الخمر، فأتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعنه رجل، وقال ما أكثر ما يؤتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله " مع : أنه لعن الخمر، وشاربها، وبائعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه . وتأمل : قصة حاطب بن أبي بلتعه، وما فيها من الفوائد، فإنه هاجر إلى الله ورسوله، وجاهد في سبيله، لكن حدث منه : أنه كتب بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين من أهل مكة، يخبرهم بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسيره لجهادهم، ليتخذ بذلك يداً عندهم، تحمي أهله، وماله بمكة، فنزل الوحي بخبره، وكان قد أعطى الكتاب : ظعينة، جعلته في شعرها، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، والزبير، في طلب الظعينة، وأخبرهما، أنهما يجدانها في روضة : خاخ، فكان ذلك، وتهدداها، حتى أخرجت الكتاب من صفائرها، فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم . فدعا حاطب بن أبي بلتعة، فقال له : " ما هذا " ؟ فقال : يا رسول الله، إني لم أكفر بعد إيماني، ولم أفعل هذا رغبة عن الإسلام، وإنما أردت أن تكون لي عند القوم يد، أحمي بها أهلي، ومالي، فقال صلى الله عليه وسلم : " صدقكم، خلوا سبيله " واستأذن عمر، في قتله، فقال : دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال : " وما يدريك، أن الله اطلع على أهل بدر، فقال : اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم " وأنزل الله في ذلك، صدر سورة الممتحنة، فقال : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ) الآيات . فدخل حاطب في المخاطبة، باسم الإيمان، ووصفه به، وتناوله النهي بعمومه، وله خصوص السبب، الدال على إرادته، معه أن في الآية الكريمة، ما يشعر : أن فعل حاطب نوع موالاة، وأنه أبلغ إليهم بالمودة، وأن فاعل ذلك، قد ضل سواء السبيل، لكن قوله : " صدقكم، خلوا سبيله " ظاهر في أنه لا يكفر بذلك، وإذا كان مؤمناً بالله ورسوله، غير شاك، ولا مرتاب ؛ وإنما فعل ذلك، لغرض دنيوي، ولو كفر، لما قال : خلوا سبيله . ولا يقال، قوله صلى الله عليه وسلم :" ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم " هو المانع من تكفيره، لأنا نقول : لو كفر لما بقي من حسناته، ما يمنع من لحاق الكفر، وأحكامه ؛ فإن الكفر : يهدم ما قبله، لقوله تعالى : ( ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ) [ المائدة :5] وقوله : ( ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ) [الأنعام: 88] والكفر، محبط للحسنات والإيمان، بالإجماع ؛ فلا يظن هذا . وأما قوله تعالى : ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) [ المائدة : 51] وقوله : ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الأخر يوادون من حاد الله ورسوله ) [ المجادلة : 22] وقوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ) [ المائدة : 57 ] فقد فسرته السنة، وقيدته وخصته بالموالاة المطلقة العامة . وأصل : الموالاة، هو : الحب والنصرة، والصداقة ودون ذلك : مراتب متعددة ؛ ولكل ذنب : حظه وقسطه، من الوعيد والذم ؛ وهذا عند السلف الراسخين في العلم من الصحابة والتابعين معروف في هذا الباب وفى غيره وإنما أشكل الأمر، وخفيت المعانى، والتبست الأحكام على خلوف من العجم والمولدين الذين لا دراية لهم بهذا الشأن ولا مممارسة لهم بمعاني السنة والقرآن ولهذا : قال الحسن رضى الله من العجمة أتوا وقال عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد، لما ناظرة في مسألة خلود أهل الكبائر في النار واحتج ابن عبيد : أن هذا وعد والله لا يخلف وعده يشير إلى ما في القرآن من الوعيد على بعض الكبائر والذنوب بالنار والخلود فقال له ابن العلاء "من العجمة أتيت فهذا وعيد لا و عد "و أنشد قول الشاعر" وإنني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادى ومنجز موعدى"قال : بعض الأئمة فيما نقل البخاري أو غيره"إن من سعادة الأعجمي، والعربي، إذا أسلما، أن يوفقا لصاحب سنة وان من شقاوتهما : أن يمتحنا ويسرا لصاحب هوى وبدعة ." ونضرب لك مثلاً ،هو : أن رجلين تنازعا في آيات من كتاب الله أحدهما خارجي والآخر مرجىء قال الخارجي : إن قوله : ( إنما يتقبل الله من المتقين ) [ المائدة : 2] دليل على حبوط أعمال العصاة، والفجار وبطلانها إذ لا قائل : انهم من عباد الله المتقين ؛ قال المرجىء : هي في الشرك، فكل من اتق الشرك يقبل منه عمله لقوله تعالى (من جاء الحسنه فله عشر أمثالها ) [ الأنعام : 160] قال الخارجي : قوله تعالى : ( ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً ) [ الجن : 23 ] يرد ما ذهبت إليه . قال المرجىء، المعصية هنا الشرك بالله واتخاذ الأنداد معه لقوله : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] قال الخارجي، قوله ( أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً ) [ السجدة : 18 ] دليل على أن الفساق من أهل النار خالدين فيها : قال له المرجىء، قوله في آخر الآية : ( وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون ) [ السجدة : 20 ] دليل : على أن المراد من كذب الله ورسوله، والفاسق، من أهل القبلة، مؤمن كامل الإيمان . ومن وقف : على هذه المناظرة، من جهال الطلبة والآعاجم، ظن أنها الغاية المقصودة، وعض عليها بالنواجذ مع أن كلا القولين لا يرتضى، ولا يحكم بإصابته أهل العلم والهدى، وما عند السلف والراسخين في العلم خلاف هذا كله لأن الرجوع إلى السنة المبينة للناس ما نزل إليهم واجب، وأما البدع والأهواء فيستغنون عنها بآرائهم وأهوائهم، وأذواقهم . وقد بلغني : أنكم تأولتم، قوله تعالى في سورة محمد : ( ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر ) [ محمد : 26 ] على بعض ما يجرى من أمراء الوقت من مكاتبة أو مصالحة أو هدنة لبعض رؤساء الضالين والملوك المشركين ولم تنظر لأول الآية وهى قوله : ( إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى ) [ محمد : 25 ] ولم تفقهوا المراد من هذه الطاعة ولا المراد من الأمر المعروف المذكور في هذه الآية الكريمة وفي قصة : صلح الحديبية، وما طلب المشركين واشترطوه وأجابهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكفى في رد مفهومكم ودحض أباطيلكم . فصل : وهنا أصول، أحدها : أن السنة والأحاديث النبوية، هي المبينة للأحكام القرآنية، وما يراد من النصوص، الواردة في كتاب الله في : باب معرفة حدود ما انزل الله كمعرفة المؤمن والكافر والمشرك والموحد والفاجر والبر والظالم والتقى وما يراد بالموالاة والتولي ونحو ذلك من الحدود كما أنها المبينة لما يراد من الأمر بالصلاة على الوجه المراد في عددها وأركانها وشروطها وواجبها وكذلك الزكاة فإن لم يظهر المراد من الآيات الموجبة ومعرفة النصاب، والأجناس التي تجب فيها من الأنعام والثمار والنقود ووقت الوجوب واشترط الحول في بعضها ومقدار ما يجب في النصاب وصفته، إلا بيان السنة وتفسيرها . وكذلك : الصوم، والحج، جاءت السنة بيانهما وحدودهما، وشروطهما، ومفسداتهما، ونحو ذلك مما توقف بيانه على السنة، وكذلك : أبواب الربا وجنسه ونوعه، وما يجرى فيه، وما لا يجرى والفرق بينه، وبين البيع الشرعي، وكل هذا البيان : أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم براوية الثقات العدول، عن مثلهم، إلى أن تنتهي السنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن : أهمل هذا وأضاعه، فقد سد على نفسه، باب العلم والإيمان، ومعرفة معاني : التنزيل والقرآن . الأصل الثاني : أن الإيمان أصل، له شعب متعددة كل شعبة منها تسمى إيماناً فأعلاها : شهادة أن لا إلَه إلا ّ الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، فمنها : ما يزول الإيمان بزواله إجماعاً، كشعبة الشهادتين ومنها : ما لا يزول بزواله إجماعاً، كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبين هاتين الشعبين، شعب متفاوتة، منها : ما يلحق بشعبة الشهادة، ويكون إليها أقرب ومنها ما يلحق إماطة الأذى عن الطريق ويكون إليها أقرب ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى عن الطريق ويكون إليها أقرب والتسوية بين هذه الشعب في اجتماعها مخالف للنصوص وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها . وكذلك الكفر : أيضاً، ذو أصل، وشعب فكما أن شعب الإيمان : إيمان فشعب الكفر : كفر والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان ولا يسوى بينهما في الأسماء والأحكام، وفرق بين من ترك الصلاة، أو الزكاة أو الصيام أو أشرك بالله، أو استهان بالمصحف ؛ وبين من يسرق ويزني أو يشرب أو ينهب أو صدر منه نوع موالاة كما جرى لحاطب فمن سوى بين شعب الإيمان في الأسماء والأحكام ،أو سوى بين شعب الكفر في ذلك، فهو مخالف للكتاب والسنة، خارج عن سبيل سلف الأمة داخل في عموم أهل البدع والأهواء. الأصل الثالث: أن الإيمان مركب من قول وعمل والقول : قسمان قول القلب، وهو اعتقاده وقول اللسان وهو المتكلم بكلمة الإسلام ؛ والعمل قسمان : عمل القلب، وهو : قصده، واختياره، ومحبته، ورضاه وتصديقه، وعمل الجوارح، كالصلاة، والزكاة، والحج والجهاد ونحو ذلك من الأعمال الظاهرة فإذا زال تصديق القلب، ورضاه، ومحبته لله، وصدقه، زال الإيمان بالكلية وإذا زال شيء من الأعمال كالصلاة، والحج والجهاد مع بقاء تصديق القلب وقبوله فهذا : محل خلاف هل يزول الإيمان بالكلية، إذا ترك أحد الأركان الإسلامية كالصلاة والحج والزكاة والصيام أو لا يزول ؟ وهل يكفر تاركه أو لا يكفر ؟ وهل : يفرق بين الصلاة، وغيرها أو لا يفرق
فأهل السنة : مجمعون على أنه لا بد من عمل القلب الذي هو : محبته، ورضاه وانقياده والمرجئة تقول يكفى التصديق، فقط ويكون به مؤمنا والخلاف في أعمال الجوارح هل يكفر أو لا يكفر واقع بين أهل السنة والمعروف عند السلف تكفير من ترك أحد المباني الإسلامية كالصلاة والزكاة والصيام والحج والقول الثاني : أنه لا يكفر إلا من جحدها . والثالث : الفرق بين الصلاة وغيرها وهذه الأقوال معروفة ؛ وكذلك المعاصي، والذنوب التي هي فعل المحظورات، فرقوا فيها : بين ما يصادم أصل الإسلام وينافيه وما دون ذلك وبين ما سماه الشارع كفراً وما لم يسمه هذا ما عليه أهل الأثر المتمسكون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدلة : مبسوطة في أماكنها . الأصل الرابع : أن الكفر نوعان كفر عمل وكفر جحود وعناد، هو : أن يكفر بما علم، أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء به من عند الله جحوداً وعناداً من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه التي أصلها توحيده وعبادته وحده لا شريك له وهذا مضاد للإيمان من كل وجه وأما كفر العمل فمنه ما يضاد الإيمان كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي صلى الله عليه وسلم وسبه وأما : الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهذا كفر عمل لا كفر اعتقاد وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " لا ترجعوا بعدى كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض " وقوله : " من أتى كاهناً فصدقه، أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " فهذا : من الكفر العملي وليس كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي صلى الله عليه وسلم وسبه وإن كان الكل يطلق عليه : الكفر . وقد سمى الله سبحانه : من عمل ببعض كتابه وترك العمل ببعضه، مؤمناً بما عمل به وكافراً بما ترك العمل به قال تعالى : (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) إلى قوله : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) الآية [ البقرة 84-85] فأخبر تعالى أنهم أقروا بميثاقه، الذي أمرهم به والتزموه وهذا يدل على تصديقهم به ؛ وأخبر : أنهم عصوا أمره وقتل فريق منهم فريقاً آخرين وأخرجوهم من ديارهم وهذا كفر بما أخذ عليهم ثم أخبر : أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب وكانوا مؤمنين، بما عملوا به من الميثاق، كافرين بما تركوه منه . فالإيمان العملي : يضاده الكفر العملي والإيمان الاعتقادي : يضاده الكفر الاعتقادي، وفي الحديث الصحيح " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر " ففرق بين سبابه، وقتاله وجعل أحدهما فسوق، لا يكفر به، والآخر كفراً ومعلوم : أنه إنما أراد الكفر العملي لا الاعتقادى وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية، والملة بالكلية كما لم يخرج الزاني والسارق والشارب، من الملة وإن زال عنه اسم الإيمان . وهذا : التفصيل، قول الصحابة، الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله، وبالإسلام والكفر ولوازمهما، فلا تتلقى هذه المسائل إلا عنهم والمتأخرون : لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين ؛ فريق أخرجوا من الملة بالكبائر وقضوا على أصحابهم بالخلود في النار وفريق : جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان، فأولئك غلوا و هؤلاء جفوا وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى، والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل فها هنا كفر دون كفر ونفاق دون نفاق وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم، فعن ابن عباس رضي الله عنه، في قوله تعالى : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) [ المائدة : 44] قال : ليس هو الكفر الذي تذهبون إليه رواه عنه سفيان وعبد الرازق وفي رواية أخرى : كفر لا ينقل عن الملة وعن عطاء كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق . وهذا : بين في القرآن، لمن تأمله فإن الله سبحانه سمى الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً وسمى الجاحد لما أنزل الله على رسول كافراً، وليس الكفران على حد سواء وسمى الكافر ظالما فى قوله : ( والكافرون هم الظالمون ) [ البقرة : 254] وسمى من يتعد حدوده في النكاح، والطلاق والرجعة والخلع، ظالماً وقال : ( ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ) [ الطلاق :1] وقال يونس عليه السلام : ( إنى كنت من الظالمين ) [ الأنبياء :87] وقال آدم عليه السلام ( ربنا ظلمنا أنفسنا ) [ الأعراف : 23 ] وقال موسى : ( رب إني ظلمت نفسي ) [ القصص : 16 ] وليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم ؛ وسمى الكافر فاسقا، في قوله : ( وما يضل به إلا الفاسقين ) [ البقرة : 26 ] وقوله : ( ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون ) [ البقرة : 99 ] وسمى العاصي فاسقاً، في قوله : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) [ الحجرات :6] وقال في الذين يرمون المحصنات : ( وأولئك هم الفاسقون ) [ النور:4] وقال : ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) [ البقرة :197 ] وليس الفسوق، كالفسوق . وكذلك : الشرك، شركان ؛ شرك : ينقل عن الملة، وهو الشرك الأكبر ؛ وشرك : لا ينقل عن الملة، وهو الشرك الأصغر ، كشرك الرياء ؛ وقال تعالى، في الشرك الأكبر : ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ) [ المائدة :72] وقال تعالى : ( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير ) الآية [ الحج:31] وقال تعالى، في شرك الرياء : ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ) [ الكهف :110] وفي الحديث : " أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " وفي الحديث : " من حلف بغير الله، فقد أشرك " ومعلوم : أن حلفه بغير الله لا يخرجه عن الملة، ولا يوجب له حكم الكفار ؛ ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم : " الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل " فانظر : كيف انقسم الشرك، والكفر، والفسوق، والظلم، إلى ما هو كفر ينقل عن الملة، وإلى ما لا ينقل عن الملة . وكذلك : النفاق، نفاقان ؛ نفاق اعتقادي ؛ ونفاق عملي ؛ والنفاق الاعتقادي : مذكور في القرآن، في غير موضع، أوجب لهم تعالى به : الدرك الأسفل من النار ؛ والنفاق العملي، جاء في قوله صلى الله عليه وسلم " أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق، حتى يدعها ؛ إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا أؤتمن خان " وكقوله صلى الله عليه وسلم :" آية المنافق ثلاث " إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان " قال بعض الأفاضل : وهذا النفاق قد يجتمع مع أصل الإسلام ولكن إذا استحكم وكمل، فقد ينسلخ صاحبه من الإسلام بالكلية وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم فإن الإيمان ينهى عن هذه الخلال، فإذا كملت للعبد، ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها، فهذا لا يكون إلا منافقاً خالصاً، انتهى . الأصل الخامس : أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد، أن يسمى مؤمناً، ولا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر، أن يسمى كافراً، وإن كان ما قام به كفر، كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم، أو من أجزاء الطب، أو من أجزاء الفقه، أن يسمى عالماً، أو طبيباً، أو فقيها ؛ وأما الشعبة نفسها، فيطلق عليها اسم الكفر كما في الحديث :" اثنتان في أمتي هما بهم كفر، الطعن في النسب، والنياحة على الميت " وحديث : " من حلف بغير الله فقد كفر " ولكنه لا يستحق اسم الكفر على الإطلاق . فمن عرف : هذا، عرف فقه السلف، وعمق علومهم، وقلة تكلفهم ؛ قال ابن مسعود : من كان متأسياً، فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً ؛ قوم : اختارهم الله لصحبة نبيه، فاعرفوا لهم حقهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ؛ وقد كاد الشيطان بنى آدم، بمكيدتين عظيمتين، لا يبالي بأيهما ظفر أحدهما الغلو ومجاوزة الحد والإفراط والثاني هو الإعراض، والترك والتفريط . قال ابن القيم : لما ذكر شيئاً من مكائد الشيطان قال بعض السلف : ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان، إما إلى تفريط وتقصير واما إلى مجاوزة وغلو ولا يبالي بأبها ظفر وقد اقتطع أكثر الناس إلا القليل، في هذين الواديين وادي التقصير ووادي المجاوزة والتعدي والقليل منهم الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعد رحمه الله كثيراً من هذا النوع إلى أن قال وقصر بقوم حتى قالوا : إيمان أفسق الناس وأظلمهم كإيمان جبريل وميكائيل فضلاً عن أبى بكر وعمر وتجاوز بأخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة . |