"و احفظوا أيمانكم" ملخص الخطبة: 1- الأمر بحفظ الأيمان. 2- كيفية حفظ اليمين. 3- الكذب في اليمين من الكبائر. 4- اليمين الغموس. 5- التحذير من أخذ حق الغير باليمين الكاذبة. 6- التحذير من الحلف في البيع والشراء. 7- مفاسد الأيمان الفاجرة. 8- الكذب في اليمين من صفات المنافقين. 9- تورع السلف من اليمين. | |||
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى. عباد الله، يقول الله جل وعلا: وَٱحْفَظُواْ أَيْمَـٰنَكُمْ كَذٰلِكَ يُبَيّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءايَـٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:89]، أمر الله عباده بحفظ الأيمان. حفظُ الأيمان يكون بأمور، فمِن حفظ اليمين ألا تكون متسرعاً فيها، ولا تُوقع اليمينَ إلا على أمرٍ أنت مضطرّ إليه، وعظِّم تلك اليمين بالله تعظيمَ المؤمن حقاً لها، وإذا وقع منك يمين قابلة للكفارة فحافظ على اليمين بأن تؤدي الكفارة إذا أردت مخالفة ما حلفت عليه، يقول : ((إني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير))[1]. ومن المحافظة على اليمين أن تكون صادقاً في يمينك، بعيداً عن الكذب فيها، وقد ألزم الله المسلمين بالصدق في أيمانهم، وألزم قبول يمين من حلف إذا لم يستبن كذبُه وباطله، يقول : ((من حلف بالله فليصدُق، ومن حُلِف له بالله فليرضَ، ومن لم يرض فليس منا))[2]. أيها المسلمون، إن الكذبَ في الأيمان كبيرة من كبائر الذنوب، موجبةٌ لسخط الله، متوعَّد من أقدم عليها بالنار وحرمان الجنة والعياذ بالله، يقول الله جل وعلا: إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَأَيْمَـٰنِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَـئِكَ لاَ خَلَـٰقَ لَهُمْ فِى ٱلآخِرَةِ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77]. أيها المسلم، إذا أردتَ أن تحلفَ فتأكَّد من يمينك، احذر أن تكون يمينُك يمينَ غموس، يمينَ كذبٍ وفجور، يمينَ باطل. إن اليمينَ تعظيمٌ لله، وهل يليق بك أن تعظِّم الله جل وعلا على أمر لا حقيقة له؟! على أمر كذب وافتراء وباطل؟! هذا غير لائق بك ـ أيها المسلم ـ وأنت تعظِّم الله جل وعلا في قلبك، فلا تعظّم الله وأنت فاجر في يمينك، اتق الله في هذه اليمين، لا تستحلَّ بها مالَ امرئ مسلم، لا تنكِر بها حقاً، ولا تؤيِّد بها باطلاً، ولا تنتصر فيها لهوى، وإنما اجعل اليمينَ بالله على الصدق والوضوح، وابتعد عن الكذب والباطل. والنبي عدَّ اليمينَ الغموس من كبائر الذنوب، فيقول لما سئل عن الكبائر قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس))[3]، فقرنها بالشرك وعقوق الوالدين، مما يدعو المسلم إلى النفرة عن هذه اليمين الباطلة، وأن تكون يمينه يميناً صادقة. النبي يقول في اليمين أيضاً: ((من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان))، وتلا النبي هذه الآية: إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَأَيْمَـٰنِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَـئِكَ لاَ خَلَـٰقَ لَهُمْ فِى ٱلآخِرَةِ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[آل عمران:77] ، هكذا حدث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. دخل الأشعث بن قيس على عبد الله وأصحابه قال: ماذا حدثكم عبد الله؟ فأخبروه فقال: صدق عبد الله، كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فقال النبي : ((شاهداك أو يمينه))، قلت: إذًا ـ يا رسول الله ـ يحلف ولا يبالي، قال: ((من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان))[4]. وقال في أحد أيام منى وهو بين الجمرتين: ((من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين هو فيها فاجر فقد أوجب الله له النار)) أو قال: ((فليتبوأ مقعده من النار))، وفي لفظ أنه قال: ((من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق أوجب الله عليه النار وحرم عليه الجنة))، قالوا: يا رسول الله، ولو يسيراً؟! قال: ((ولو قضيباً من أراك))[5]. أيها المسلم، يضعف إيمانُ بعض الناسِ أمام هذه اليمين الفاجرة، فيقدم عليها طمعاً في دنيا، وانتصاراً لموقف، ودفاعاً عن إنسان أو قريب أو صديق، يقدم على هذه الأيمان الفاجرة فيظلم نفسه، ويظلم ذلك المسلم، وفوق هذا كذبٌ وافتراء على الله. أيها المسلم، لا تخدعنَّك الدنيا فتأتي باليمين الفاجرة، فإن النبي يقول: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنان، ورجلٌ جعل اللهَ بضاعتَه لا يبيع إلا بيمينه ولا يشتري إلا بيمينه))[6]، بمعنى أنه يحلف على السلعة وهو كاذب: إنَّ قيمتها كذا، هذا إن باع، وإن اشترى حلف أن قيمتَها ليست كذلك، يعني يحلف البائع على قيمة سلعةٍ هو فيها كاذب، ويحلف المشتري أحياناً ضدَّ البائع بيمين هو [فيها] فاجر، فكلٌ منهما إذا حلف على يمين كذباً وزوراً فإنه داخل في الثلاثة الذين لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. أيها المسلم، اتق الله في اليمين، وإياك أن يضعف إيمانُك أمام هذه اليمين فتطلقها بلا حق وأنت تعلم كذبَ نفسك، لتنصر نفسَك في أي موقف من المواقف. هبْ أنك نلت هذا الأمر وظفرت بهذا الأمر، ولكن من ينجيك من عذاب الله؟! من يخلصك من عذاب الله! يَعْلَمُ خَائِنَةَ ٱلأعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ٱلصُّدُورُ [غافر:19]، الخلق يمكن أن يروج عليهم باطلُك، ويخدعهم كذبُك، ويظنون فيك الصدقَ فيما تحلف، ولكن من ينجيك ممن يعلم سرَّك وعلانيتك، ولا يخفى عليه شيء من أمرك؟! فأين الخلاص وربك عالم بكل شيء؟! قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَا فِى ٱلأرْضِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ [آل عمران:29]. إن الأيمان الفاجرة منفقةٌ للسلعة ممحَقَة للبركة، إنها تضعف الإيمان، إنها سببٌ لحلول العقوبات والنقمات من رب العالمين، فالكاذب الفاجر في يمينه وإن فاز بها وقتاً فلا بد أن تدركه العقوبة وأن يحلَّ به من المصائب ما الله به عليم. فلنتق الله في أيماننا، ولنحافظ عليها، ولا نجعل الله عرضةً لأيماننا، بأن نمتنع عن خير وفعل خير، بل يجب أن نتقي الله، ونعظم هذه اليمين التعظيم اللائق بها، فإنها تعظيمٌ لله. إذا قلت: والله العظيم إن هذا غير واقع، والله العظيم كذا وكذا، وأنت كاذب في يمينك، تعظِّم الله وأنت كاذب فاجر، تعلم من نفسك كذبك وبهتانك وباطلك، فاتق الله، وتخلص في هذه الدنيا قبل أن تلقى الله بالتبعات يوم القيامة، وتتمنى الخلاص ولا ينفعك ذلك. أيها المسلم، كن صادقاً في يمينك، وابتعد عن الكذب فيها مهما كانت الأحوال، فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة، ومن لزم الصدق جعل الله له من كل همٍّ فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ويسَّر أمورَه، ومن لزم الكذب محق الكذبُ بركةَ رزقه وعمره وعمله، وصار عند الله من الكذابين يوم القيامة. أيها المسلمون، اتقوا الله في أيمانكم، وحافظوا عليها رحمكم الله، ولا تستخفوا بالأيمان بالله، فالمستخفّ بها [استخفافه] دليل على نقص إيمانه، ضعف إيمانه ورقة ديانته؛ إذ لو كان خوفه من الله حقاً لما أقدم على يمين كاذبة فاجرة. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، يقول الله جل وعلا: لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱلَّلغْوِ فِى أَيْمَـٰنِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة:225]. أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد في القول والعمل، إنه على كل شيء قدير. [1] أخرجه البخاري في الأيمان، باب: قول الله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم (6623)، ومسلم في الأيمان، باب: ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها (1649) من حديث أبي موسى رضي الله عنه. [2] أخرجه ابن ماجه في الكفارات، باب: من حلف له بالله فليرض (2101) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: ((فليس من الله)). قال البوصيري: "رجال إسناده ثقات"، وحسنه الحافظ في الفتح (11/536)، والألباني في صحيح الترغيب (2951). [3] أخرجه البخاري في الأيمان، باب: اليمين الغموس (6675)، وفي استتابة المرتدين، باب: إثم من أشرك بالله وعقوبته في الدنيا والآخرة من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. [4] أخرجه البخاري في الأيمان، باب: قول الله: إن الذين يشترون بعهد الله(6676)، ومسلم في الإيمان (138) بنحوه. [5] أخرجه مسلم في الإيمان (137) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه بنحوه، وليس فيه أن ذلك كان في أيام منى. [6] أخرجه مسلم في الإيمان (106) من حديث أبي ذر رضي الله عنه بلفظ: ((والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)). | |||
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى. عباد الله، إن الله جل وعلا أخبرنا عن المنافقين أن أيمانهم أيمانٌ كاذبة، جعلوا أيمانهم جُنةً تقي أموالهم ودماءَهم، فيحلفون بالله على الكذب وهم يعلمون، قال تعالى: ٱتَّخَذْواْ أَيْمَـٰنَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [المجادلة:16]، وقال: إِذَا جَاءكَ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لَكَـٰذِبُونَ ٱتَّخَذُواْ أَيْمَـٰنَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [المنافقون:1، 2]. فأيمان المنافقين أيمانُ كذب وباطل، يعلم الله ذلك من قلوبهم، ومحمد يجريهم على الظاهر، فإذا حلفوا له بالله قبِل ظاهرَهم، ووكل سرائرَهم إلى الله، والله جل وعلا قد أطلعه على مخبَّآت نفوسهم، وأن أيمانهم أيمانُ كذبٍ وباطل. فليحذر المسلم من التشبه بالمنافقين والضالين، وليكن ملازماً للصدق، وإذا طُلب منك يمين في القضاء وغيره فاتق الله وحاسب نفسك قبل أن تحلف، إن كنت على يقين وصدق جازم فاليمين من وسائل إثبات الحق، البينة على المدعي واليمين على من أنكر، ولكن إن كنت شاكاً في الأمر، متردداً لست على يقين جازم، فإن دينك أغلى عندك من الدنيا وما عليها، فواتُ شيء من الدنيا أهون من أن تكذب في يمينك. اتق الله، وحاسب نفسك، واعلم أن هذه اليمين إذا نطقتَ بها وأنت كاذب فيوشك أن يعجِّل الله لك عقوبة في الدنيا مع ما يدَّخر لك في الآخرة من العذاب الأليم. في الحديث: ((ما من ذنب أحرى أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم))[1]، وأيّ بغي أعظم من بغي من يحلف بالله كاذبًا لينتصر في قضيته وفي مدافعته، فيحلف بالله وهو يعلم كذبَه وباطله؟! يندم ولا ينفع الندم، أما أيمان تستحلُّ بها أموال المسلمين وتجحد بها حقوقَهم وتقلب الحقيقة على القضاء، وهذا أمر غير لائق بك ـ أيها المسلم ـ وأنت تخاف الله وترجوه، كن خائفاً من الله في يمينك. كان سلفنا الصالح يتورَّعون عن اليمين، كانوا يتقون اليمين بكلِّ ما أوتوا خوفاً من الزلل في اليمين، فاتق الله في اليمين، قال تعالى: وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ [القلم:10-12]، وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ أي: كثير الحلف، الذي لا يبالي بحلفه، ولا يتقي الله في حلفه، ولا يتورَّع عن الكذب. فاتق الله أيها المسلم، وكن بعيداً عن هذه الترهات، كن ملازماً للصدق؛ ففي الصدق الخير والنجاة في الدنيا والآخر. واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار. وصلوا ـ رحمكم الله ـ على نبيكم محمد طاعة لربكم وتنفيذاً لأمره، قال تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]. اللهم صل وسلم بارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي... [1] أخرجه أحمد (5/36)، وأبو داود في الأدب (4902)، والترمذي في صفة القيامة (2511)، وابن ماجه في الزهد (4211) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (455، 456)، والحاكم (2/356)، ووافقه الذهبي، وهو في السلسلة الصحيحة (918). (المصدر : خطبة لسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله ال الشيخ مفتى عام المملكة العربية السعودية حفظه الله ألقاها فى جامع الامام تركى بن عبد الله بالرياض بتاريخ 19/3/1423) |