تنزيه الأصحاب عن تنقص أبي تراب
تأليف الفقير إلى الله تعالى حمود بن عبد الله التويجري غفر الله له ولوالديه
الحمد لله نحمده ونستعينه. ونستغفره ونتوب إليه. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له. ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمد عبده ورسوله وخيرته من خلقه. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير الأمة وأتقاها. وأعلمها وأهداها. وعلى أتباعهم الذين ورثوا علمهم وساروا على نهجهم القويم. وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد فقد رأيت مقالا لأبي تراب الظاهري تعرض فيه للغض من الصحابة عامة ومن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما خاصة. وهذا المقال السيئ منشور في جريدة عكاظ في عدد (3163) - السبت - 13محرم سنة 1395هـ.
والتعرض للصحابة رضي الله عنهم بالكلام الذي يقتضي التنقص لهم والغض منهم لا يصدر إلا من جاهل أو مبغض للصحابة.
وقد ورد الوعيد على ذلك. فروى الترمذي في جامعه عن عبد الله بن المغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يأخذه". وروى أبو نعيم في الحلية عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شرار أمتي أجرؤهم على صحابتي". وروى الطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكر أصحابي فأمسكوا". وقال محمد ابن سيرين: "ما أظن رجلا ينتقص أبا بكر وعمر يحب النبي صلى الله عليه وسلم" رواه الترمذي وقال هذا الحديث غريب حسن. وروى أبو نعيم في الحلية من حديث شعبة عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء أو عن زيد بن وهب أن سويد بن غفلة دخل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه في إمارته فقال: "يا أمير المؤمنين إني مررت بنفر يذكرون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بغير الذي هما أهل له من الإسلام" فنهض إلى المنبر وهو قابض على يدي فقال: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا يحبهما إلا مؤمن فاضل ولا يبغضهما ويخالفهما إلا شقي مارق فحبهما قربة وبغضهما مروق. ما بال أقوام يذكرون أخوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه وصاحبيه وسيدي قريش وأبوي المسلمين فأنا بريء ممن يذكرهما وله معاقب".
وإذا علم ما في هذه الأحاديث تحريم عيب الصحابة عامة وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما خاصة وتحريم أذيتهم والتعرض لما فيه تنقص لهم وغض من قدراتهم وعلم أيضاً أنه لا يتجرأ على الكلام في الصحابة إلا شرار هذه الأمة فليعلم أيضا أن الصحابة رضي الله عنهم أجل قدرا وأكثر علما وأقوى إيمانا ممن بعدهم إلى آخر الدهر فينبغي إجلالهم وتوقيرهم واحترامهم وتفضيلهم على من سواهم من سائر هذه الأمة. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "من كان مستنا فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم والله رب الكعبة" رواه أبو نعيم في الحلية.
وروى رزين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نحوه وإذا علم هذا ففي كلام أبي تراب خمسة مواضع زل فيها عن الحق والصواب وقد رأيت أن أنبه على زلاته لئلا يغتر بها من لم يعرف قدر الصحابة وفضلهم على سائر الصحابة وفضلهم على سائر الأمة.
الموضع الأول: زعم أبو تراب أن أمهات المؤمنين أفضل من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
والجواب أن يقال: هذا خطأ مخالف للأحاديث الكثيرة عن النبي صلى اله عليه وسلم ومخالف لإجماع الصحابة رضي الله عنهم على تفضيل أبي بكر ثم عمر على سائر الأمة.
فأما الأحاديث فالأول منها ما رواه الإمام أحمد والطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة بعد طلوع الشمس فقال: "رأيت قبيل الفجر كأني أعطيت المقاليد والموازين فأما المقاليد فهذه المفاتيح وأما الموازين فهذه التي يوزن بها فوضعت في كفة ووضعت أمتي فوزنت بهم فرجحت ثم جيء بأبي بكر فوزن بهم فرجح بهم ثم جيء بعمر فوزن بهم فرجح بهم ثم جيء بعثمان فوضع في كفة ووضعت أمتي في كفة فرجح بهم ثم رفعت" هذا لفظ الطبراني قال الهيثمي ورجاله ثقات.
وروى الإمام أحمد والطبراني أيضاً عن أبي إمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وروى الطبراني أيضاً عن معاذ بن جبل وعرفجة وأسامة بن شريك رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك أيضاً وفي هذه الأحاديث أوضح دليل على أن عمر رضي الله عنه أفضل من أمهات المؤمنين ومن سائر هذه الأمة سوى أبي بكر رضي الله عنه فإنه أفضل من عمر رضي الله عنه. وفيها أبلغ رد على أبي تراب حيث فضل أمهات المؤمنين على عمر رضي الله عنه بغير دليل بل بمجرد الظن المخالف للأدلة الصحيحة.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع أبو بكر وعمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين يا علي لا تخبرهما" رواه الترمذي وابن ماجة وعبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند وإسناده حسن وهذا لفظ الترمذي. ولفظ عبد الله قال: كنت عند النبي صلى الله عليه سلم فأقبل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فقال: "يا علي هؤلاء سيدا كهول أهل الجنة وشبابها بعد النبيين والمرسلين" قال الترمذي: وفي الباب عن أنس وابن عباس رضي الله عنهم.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: "هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين لا تخبرهما يا علي" رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب.
وعن أببي جحيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين" رواه ابن ماجة بإسناد حسن وابن حبان في صحيحه.
وروى البزار والطبراني عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وروى الطبراني أيضا عن ابن عمر وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك أيضاً.
وفي هذه الأحاديث أوضح دليل على أن أفضل هذه الأمة أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وفيها أبلغ رد على أبي تراب فيما شذ به من تفضيل أمهات المؤمنين على عمر رضي الله عنه.
وعن عبد الله بن حنطب رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقال: "هذان السمع والبصر" رواه الحاكم في مستدركه وقال صحيح الإسناد.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي إلا وله وزيران من أهل السماء ووزيران من أهل الأرض فأما وزيراي من أهل السماء فجبريل ومكائيل وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر" رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من تنشق عنه الأرض ثم أبو بكر ثم عمر ثم آتي أهل البقيع فيحشرون معي ثم أنتظر أهل مكة حتى أحشر بين الحرمين" رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه مختصرا وقال الترمذي هذا الحديث حسن غريب وقال الحاكم صحيح الإسناد.
وفي هذا الحديث والحديثين قبله أوضح دليل على أن أفضل هذه الأمة أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وفيها أبلغ رد على أبي تراب فيما شذ به من تفضيل أمهات المؤمنين على عمر رضي الله عنه.
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب" رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم في مستدركه وقال الترمذي حديث حسن غريب وقال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وفي هذا الحديث فضيلة ظاهرة لعمر رضي الله عنه، والأحاديث في فضل عمر رضي الله عنه كثيرة جدا وفيما ذكرته ههنا كفاية في الرد على أبي تراب وبيان خطئه وشذوذه حيث فضل أمهات المؤمنين على عمر رضي الله عنه.
وأما إجماع الصحابة رضي الله عنهم على تفضيل أبي بكر ثم عمر رضي الله عنهما على سائر الأمة فرواه البخاري في صحيحه وأبو داود والترمذي وعبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب السنة عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم". هذا لفظ البخاري في إحدى الروايتين وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب. وفي الرواية الأخرى عند البخاري قال: "كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم". ورواه أبو داود بهذه الزيادة. وعند عبد الله بن الإمام أحمد: "ثم لا نفاضل أحدا على أحد". وفي رواية له: "يبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره علينا". وفي رواية له ولأبي داود عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: "كنا نقول - ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي - أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان". وروى الإمام أحمد في مسنده وابنه عبد الله في كتاب السنة من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا نعد -ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي وأصحابه متوافرون - أبو بكر وعمر وعثمان ثم نسكت". وروى عبد الله أيضاً في كتاب السنة من حديث عمر بن أسيد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا نقول في زمن النبي صلى الله عليه وسلم: رسول الله خير الناس ثم أبو بكر ثم عمر". وروى عبد الله أيضا في كتاب السنة عن أبي هريرة قال: "كنا نعد - وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون - خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر". ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده ولفظه قال: "كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن متوافرون نقول أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نسكت". وروى البخاري في صحيحه وأبو داود في سننه وعبد الله الإمام أحمد في كتاب السنة عن محمد بن الحنفية قال: "قلت لأبي أيُّ الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أبو بكر..قلت ثم من ؟ قال: ثم عمر..و خشيت أن يقول عثمان قلت ثم أنت قال ما أنا إلا رجل من المسلمين". وروى الإمام أحمد وابنه عبد الله في زوائد المسند وفي كتاب السنة من طرق الكثير وابن ماجة عن علي رضي الله عنه أنه قال: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر" وفي بعض الروايات عند الإمام أحمد وابنه عبد الله عن أبي جحيفة وعبد خير عن علي رضي الله عنه أنه قال: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وخيرها بعد أبي بكر عمر ولو شئت سميت الثالث". وروى أبو نعيم في الحلية من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه قال: "خطبنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه على منبر الكوفة فقال: ألا إن خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ولو شئت أن أخبركم بالثالث لأخبرتكم ثم نزل من المنبر وهو يقول عثمان عثمان".
وروى أبو نعيم أيضاً من حديث سويد مولى آل عمر وابن حريث قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول على المنبر: "إن أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان". وروى الإمام أحمد في مسنده وابنه عبد الله في كتاب السنة والحاكم في مستدركه عن علي رضي الله عنه قال: "سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى أبو بكر وثلث عمر ثم خبطتنا فتنة ويعفو الله عمن يشاء". قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
قال الجوهري: "المصلي تالي السابق". قال أبو عبيد: "وأصل هذا في الخيل فالسابق الأول والمصلي الثاني قيل له مصل لأنه يكون عند صلا الأول وصلاه جانبا ذنبه عن يمينه وشماله ثم يتلو الثالث". انتهى.
وعن عمار بن ياسر رضي الله عنهما أنه قال: "من فضل على أبي بكر وعمر أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أزرى على المهاجرين والأنصار واثني عشر ألفا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم" ورواه الطبراني في الأوسط. قال الهيثمي: وفيه حازم بن جبلة ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب الزهد حدثني أبو معمر حدثنا ابن أبي حازم قال: "جاء رجل إلى علي بن الحسين فقال: "ما كان منزلة أبي بكر وعمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "كمنزلتهما منه الساعة". وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه عبد الله وابن أبي حازم لم أعرفه وشيخ عبد الله ثقة.
وقال مسروق: "حب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ومعرفة فضلهما من السنة". ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب.
وقال القرطبي في المفهم: "المقطوع به بين أهل السنة أفضلية أبي بكر ثم عمر".
وإذا علم ما ذكرنا من إجماع الصحابة رضي الله عنهم على تفضيل أبي بكر ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم على سائر الأمة وأنهم لم يستثنوا في إجماعهم خصلة من خصال الفضل لا العلم ولا غيره. وعلم أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبلغه قول أصحابه في تفضيل أبي بكر ثم عمر ثم عثمان فلا ينكره. وعلم أيضاً ما حكاه القرطبي عن أهل السنة من تفضيل أبي بكر ثم عمر. فليعلم أيضاً أنه لم يخالف إجماع الصحابة وأهل السنة من بعدهم سوى الروافض الذين يفضلون عليا وأهل بيته على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقد سلك أبو تراب طريقة تشبه طريقة الروافض في تفضيله أمهات المؤمنين على عمر رضي الله عنه فخالف السنة والإجماع وشذ عن طريق أهل السنة والجماعة وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} الآية.
وممن خرق الإجماع أيضاً أبو محمد ابن حزم، قال الحافظ الذهبي في ترجمة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في كتاب تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والأعلام: "ومن عجيب ما ورد أن أبا محمد ابن حزم مع كونه أعلم أهل زمانه ذهب إلى أن عائشة أفضل من أبيها. وهذا مما خرق به الإجماع" انتهى.
الموضع الثاني: زعم أبو تراب أن أبا هريرة رضي الله عنه غلب الصحابة كلهم بعلمه وغزارة حفظه لحديث المصطفى. قال: "وهذا معاذ بن جبل وابن مسعود وعلى بن أبى طالب كانوا أفقه من عمر وهو يشهد بذلك ولكنهم لم يكونوا أفضل منه".
والجواب أن يقال لاشك أن أبا هريرة رضى الله عنه كان من علماء الصحابة وحفاظهم وقد حفظ عن النبي عليه الصلاة والسلام علما كثيرا. وكذلك على بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وابن مسعود رضي الله عنهم ولكنهم مع ذلك لم يكونوا مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في العلم فقد كانا يفوقان غيرهما من الصحابة في العلم وفي جميع الفضائل. وسيأتي ذكر ما لهما من المزايا في كلام شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية إن شاء الله تعالى.
وقد شهد حبر الأمة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه بغزارة العلم وشهد له بذلك أيضا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وسعيد ابن المسيب وعمر وبن ميمون وإبراهيم النخعي. وسيأتي ذكر أقوالهم إن شاء الله تعالى.
وقد امتاز عمر رضي الله عنه بخصال لم تكن لمن بعده من الصحابة فضلا عن غيرهم. وهي من أوضح الأدلة على غزارة علمه وأن عليا ومعاذ وابن مسعود وابن عمر وأبا هريرة رضي الله عنهم لا يقاسون به في العلم فضلا عن أن يكونوا أعلم منه... منها أنه وافق ربه أو وافقه ربه في عدة مواضع مذكورة في الصحاح وغيرها وسيأتي حديث ابن عمر رضي الله عنهما وفيه قال ابن عمر رضي الله عنهما: "ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال فيه عمر إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر".
ومنها أنه استنبط الأمر الذي أشكل على أصحاب النبي صلى الله وسلم وخفي عليهم وذلك حين حلف رسول الله عليه وسلم أن لا يدخل على نسائه شهرا فقال الناس طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه, فاستأذن عمر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له أطلقت نساءك؟ فقال:"لا" فقام عمر رضي الله عنه على باب المسجد ونادى بأعلى صوته لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ونزلت الآية: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} قال عمر رضي الله عنه: "فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر". والحديث بذالك في صحيح مسلم.
وفي هذه القصة فضيلة ظاهرة لعمر رضي الله عنه ودليل على أنه من أكبر أولي الأمر الذين نوَّه الله بهم في هذه الآية الكريمة.
ومنها أن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه وقد جاء في ذلك عدة أحاديث. الأول منها عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل جعل الحق على لسان عمر وقلبه" قال وقال ابن عمر رضي الله عنهما: "ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال فيه عمر إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر". رواه الإمام أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب. قال وفي الباب عن الفضل بن عباس وأبي ذر وأبي هريرة رضي الله عنهم. وفي رواية لابن حبان: "إن الله جعل الحق على لسان عمر يقول به".
الحديث الثاني عن أبي ذر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به" رواه ابن ماجة.
وقد رواه الحاكم في مستدركه ولفظه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقال الذهبي في تلخيصه على شرط مسلم.
الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعل الحق على لسان عمرو قلبه" رواه الإمام أحمد والبزار والطبراني في الأوسط قال الهيثمي ورجال البزار رجال الصحيح غير الجهم بن أبي الجهم وهو ثقة.
الحديث الرابع عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله وضع الحق على لسان عمر وقلبه يقول به" رواه الطبراني في الأوسط قال الهيثمي وفيه علي بن سعيد العكامري ولم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح.
الحديث الخامس عن بلال رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" رواه الطبراني.
الحديث السادس عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" رواه الطبراني. وهذا الحديث والذي قبله ضعيفان وما قبلهما من الأحاديث يشهد لهما ويقويهما.
وفي هذه الأحاديث أوضح دليل على أنه لم يكن في الصحابة بعد أبي بكر أعلم من عمر لأن الله تعالى جعل الحق على لسانه وقلبه يقول به ومن كان كذلك فلا بد أن يكون أعلم ممن لم يجعل الله الحق على لسانه وقلبه. وفيها أبلغ رد على أبي تراب حيث زعم أن أبا هريرة رضي الله عنه قد غلب الصحابة كلهم بعلمه ومنهم عمر رضي الله عنه وأن عليا ومعاذ وابن مسعود رضي الله عنهم كانوا أفقه من عمر رضي الله عنه.
ومنها ما في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر" وفي رواية: "لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يكن من أمتي منهم أحد فعمر". وفي صحيح مسلم وجامع الترمذي عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم" قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وقال مسلم قال ابن وهب تفسير محدثون ملهمون. وقال الترمذي أخبرني بعض أصحاب بن عيينة عن سفيان عن ابن عيينة قال محدثون يعني مفهمون. وقد رواه الطبراني في الأوسط ولفظه قال: "ما كان من نبي إلا في أمته معلم أو معلمان وإن يكن في أمتي منهم أحد فهو عمر بن الخطاب إن الحق على لسان عمر وقلبه". وعن علي رضي الله عنه قال: "إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر ما كنا نبعد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إن السكينة تنطق على لسان عمر". رواه الطبراني في الأوسط قال الهيثمي وإسناده حسن.
وقد رواه مسدد وأحمد بن منيع عن الشعبي أن عليا رضي الله عنه قال: "كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا نشك أن السكينة تنطق على لسان عمر". وروى عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة من طريق الشعبي عن وهب السوائي رضي الله عنه قال: خطبنا علي رضي الله عنه فقال: "من خير هذه الأمة بعد نبيها فقلت أنت يا أمير المؤمنين قال: لا. خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر وما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر". وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر" رواه الطبراني قال الهيثمي وإسناده حسن. وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه قال: "كنا نتحدث أن السكينة تنزل على لسان عمر" رواه الطبراني وقال الهيثمي ورجاله ثقات.
وفي هذه الأحاديث دليل على أنه لم يكن في الصحابة بعد الصديق رضي الله عنه أعلم من عمر رضي الله عنه. وفيها أبلغ رد على أبي تراب حيث فضل عليا وأبا هريرة ومعاذا وابن مسعود رضي الله عنهم على عمر رضي الله عنه بالعلم والفقه...ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإقتداء بأبي بكر وعمر خاصة كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده وابنه عبد الله في كتاب السنة والترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إني لا أرى مقامي فيكم إلا قليلا فاقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي عمار وما حدثكم ابن مسعود فاقبلوه".
هذا لفظ ابن حبان ورواية الترمذي وابن ماجة مختصرة وقال الترمذي هذا حديث حسن. قال وفي الباب عن ابن مسعود. وفي رواية الإمام أحمد: "وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه" ورواه الحاكم بنحوه. وقال هذا حديث من أجل ما روي في فضائل الشيخين وصحح هذا الحديث ووافقه الذهبي على تصحيحه ثم روى الحاكم حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي أشار إليه الترمذي وصححه وإسناده ضعيف.
وحديث حذيفة رضي الله عنه من أوضح الأدلة على أنه لم يكن في الصحابة رضي الله عنهم أعلم من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليأمر علماء الصحابة بالإقتداء بمن هو دونهم في العلم وإنما يأمرهم بالاقتداء بمن هو أعلم منهم. وفيه أبلغ رد على أبي تراب حيث فضَّل أبي هريرة على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في العلم وفضَّل عليا ومعاذا وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم على عمر رضي الله عنه في العلم والفقه.
ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عمر رضي الله عنه فضل اللبن الذي شرب منه في منامه وأوَّل ذلك بالعلم كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول صلى الله عليه وسلم يحدث قال: "بينا أنا نائم رأيتني أتيت بقدح لبن فشربت منه حتى أني أرى الري يخرج في أطرافي - وفي رواية: من أظفاري - ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب". فقالوا: فما أوَّلت ذلك يا رسول الله. قال: "العلم" قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب. وقد رواه الطبراني ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت في النوم أني أعطيت عسًّاعسا مملوءا لبنا فشربت منه حتى تملأت حتى رأيته يجري في عروقي بين الجلد واللحم ففضلت فضلة فأعطيتها عمر بن الخطاب". فأولوها قالوا: يا نبي الله هذا علم أعطاكه الله فملأك منه ففضلت فضلة فأعطيتها عمر بن الخطاب. فقال: "أصبتم" قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح وقد رواه الحاكم في مستدركه بنحوه وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وهذا الحديث من أوضح الأدلة على غزارة علم عمر رضي الله عنه وأنه لم يكن في الصحابة بعد أبي بكر رضي الله عنه أحد يماثل عمر رضي الله عنه في العلم أو يقاربه. وفيه أبلغ رد على أبي تراب فيما شذ به على تفضيل علي وأبي هريرة ومعاذ وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم على عمر رضي الله عنه بالعلم والفقه.
وقد شهد حبر الأمة عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم لعمر رضي الله عنه بغزارة العلم وهما أعلم الصحابة بمراتب الصحابة في العلم. وشهد له بذلك أيضاً سعيد بن المسيب وهو من أعلم التابعين بمراتب الصحابة في العلم. وشهد له بذلك أيضا عمرو بن ميمون وإبراهيم النخعي وكل منهما عالم بمراتب الصحابة في العلم. قال أبو وائل قال عبد الله - يعني ابن مسعود رضي الله عنه -: "لو أن علم عمر وضع في كفة ميزان وعلم أهل الأرض في كفة لرجح علمه بعلمهم".
قال وكيع قال الأعمش: "فأنكرت ذلك فأتيت إبراهيم فذكرته له فقال: وما أنكرت من ذلك فوالله لقد قال عبد الله أفضل من ذلك قال: إني لأحسب تسع أعشار العلم ذهب يوم ذهب عمر" رواه الطبراني بأسانيد قال الهيثمي ورجال هذا رجال الصحيح غير أسد بن موسى وهو ثقة. وقد رواه الحاكم في مستدركه من طريق الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنه قال: "لو وضع علم عمر في كفة ميزان ووضع علم الناس في كفة لرجح علم عمر" قال الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه. وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب قال ابن مسعود رضي الله عنه: "لو وضع علم أحياء العرب في كفة ميزان ووضع علم عمر في كفة لرجح علم عمر ولقد كانوا يرون أنه ذهب بتسعة أعشار العلم، ولمجلس كنت أجلسه مع عمر أوثق من علم سنة". وقال محمد بن سعد في الطبقات أخبرنا معاوية الضرير أخبرنا الأعمش عن شقيق قال: قال عبد الله - يعني بن مسعود رضي الله عنه -: "لو وضع علم أحياء العرب في كفة وعلم عمر في كفة لرجح بهم علم عمر" قال أبو معاوية فقال الأعمش: "فحدثت بهذا الحديث إبراهيم فقال: قال عبد الله: إن كنا لنحسب عمر قد ذهب بتسعة أعشار العلم" إسناده صحيح على شرط الشيخين. وعن زيد بن وهب قال: قال عبد الله: - يعني بن مسعود رضي الله عنه -: "إن عمر كان أعلمنا بالله وأقرأنا لكتاب الله وأفقهنا في دين الله وكان إذا سلك طريقا وجدناه سهلا فإذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر" رواه الطبراني بأسانيد قال الهيثمي ورجال أحدها رجال الصحيح. وقد رواه الحاكم في مستدركه مختصرا ولفظه عن زيد بن وهب عن ابن مسعود رضي الله عنه: "كان عمر أتقانا للرب وأقرأنا لكتاب الله" وفي رواية عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر إن إسلام عمر كان نصرا وإن إماراته كانت فتحا وأيم الله إني لأحسب بين عينيه ملكا يسدده" رواه الطبراني.
وقال حذيفة رضي الله عنه: "كأن علم الناس كلهم قد دس في جحر مع علم عمر" ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب وقد رواه بن سعد في الطبقات فقال أخبرنا معاوية الضرير عن الأعمش عن شمر قال: قال حذيفة رضي الله عنه: "لكأن علم الناس كان مدسوسا في جحر مع عمر" رجاله كلهم ثقات. وعن حذيفة أيضاً أنه قال: "إنما يفتي الناس ثلاثة رجل إمام أو وال ورجل يعلم ناسخ القرآن من المنسوخ. قالوا: يا حذيفة ومن ذاك؟ قال: عمر بن الخطاب أو أحمق متكلف" رواه الدارمي في سننه وعن سعيد بن المسيب أنه قال: "ما أعلم أحدا من الناس كان أعلم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمر بن الخطاب" رواه إسحاق بن راهويه وذكره الحافظ ابن حجر في المطالب العالية. وعن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال: "ذهب عمر بثلثي العلم". فذكر لإبراهيم فقال: "ذهب عمر بتسعة أعشار العلم" رواه الدارمي في سننه..
وقال محمد بن سعد في الطبقات أخبرنا محمد بن عبيد الطنافسي حدثني هارون البربري عن رجل من أهل المدينة قال: "دفعت إلى عمر بن الخطاب فإذا الفقهاء عنده مثل الصبيان قد استعلى عليهم في فقهه وعلمه". وروى ابن سعد أيضاً في الطبقات عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل من كان يفتي الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أبو بكر وعمر ما أعلم غيرهما".
وقد تقدم قريباً حديث حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وما حدثكم بن مسعود فاقبلوه فقبلوه" وفي رواية: "فصدقوه.." وروى الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وما حدثكم حذيفة فصدقوه" قال الترمذي هذا حديث حسن. فنحن نصدق بن مسعود وحذيفة رضي الله عنهما فيما حدثا به عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من غزارة العلم ورجحانه على علم غيره من الناس ونكذب أبا تراب ومن سلك مسلكه الفاسد وقال بقوله الباطل في الغض من قدر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتفضيل بعض الصحابة عليه في العلم.
وأما قول أبي تراب: "إن معاذ بن جبل وابن مسعود وعلي بن أبي طالب كانوا أفقه من عمر وهو نفسه يشهد بذلك". فجوابه أن يقال: هذه دعوى مجردة لا دليل عليها. وقد ذكرت من الأدلة الكثيرة ما يشهد بكذب هذه الدعوى ويشهد برجحان علم عمر رضي الله عنه على علم غيره من الصحابة رضي الله عنهم سوى أبي بكر رضي الله عنه. ويكفي في ردها ما تقدم عن ابن مسعود وحذيفة وسعيد بن المسيب وعمرو بن ميمون وإبراهيم النخعي أنهم شهدوا لعمر رضي الله عنه بغزارة العلم ورجحانه على سائر الناس سوى الصديق رضي الله عنه.
قال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى في منهاج السنة: "قد أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم - أي عن عمر رضي الله عنه - من العلم والدين والإلهام بما لم يخبر بمثله لا في حق عثمان ولا علي ولا طلحة ولا الزبير".
وسئل شيخ الإسلام أبو العباس أيضا عن: رجلين اختلفا فقال: أحدهما أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما أعلم وأفقه من علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال الآخر: بل علي بن أبي طالب أعلم وأفقه من أبي بكر وعمر. فأي القولين أصوب؟. وإذا ادعى مدع أن إجماع المسلمين على أن عليا رضي الله عنه أعلم وأفقه من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما يكون محقاً أو مخطئا؟.
فأجاب رحمه الله تعالى: "لم يقل أحد من علماء المسلمين المعتبرين أن عليا أعلم وأفقه من أبي بكر وعمر بل ولا من أبي بكر وحده. ومدعي الإجماع على ذلك من أجهل الناس وأكذبهم. بل ذكر غير واحد من العلماء إجماع العلماء على أن أبا بكر الصديق أعلم من علي منهم الإمام المنصور بن عبد الجبار السمعاني المروزي أحد الأئمة الستة من أصحاب الشافعي ما ذكر في كتابه تقويم الأدلة إجماع علماء السنة على أن أبا بكر أعلم من علي. وما علمت أحدا من الأئمة المشهورين ينازع في ذلك وكيف وأبو بكر الصديق كان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم يفتي ويأمر وينهى ويقضي ويخطب كما كان يفعل ذلك إذا خرج هو وأبو بكر يدعو الناس إلى الإسلام ولما هاجرا جميعا ويوم حنين وغير ذلك من المشاهد. والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت يقره على ذلك ويرضي بما يقول ولم تكن هذه المرتبة لغيره.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في مشاورته لأهل العلم والفقه والرأي من أصحابه يقدم في الشورى أبا بكر وعمر فهما اللذان يتقدمان في الكلام والعلم بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم على سائر أصحابه. وقد روي في الحديث أنه قال لهما: "إذا اتفقتما على أمر لم أخالفكما". وفي السنن عنه أنه قال: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" ولم يجل هذا لغيرهما. بل ثبت عنه أنه قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة". فأمر باتباع سنة الخلفاء وهذا يتناول الأئمة الأربعة وخص أبا بكر وعمر بالإقتداء بهما ومرتبة المقتدى به في أفعاله وفيما سنه للمسلمين فوق مرتبة المتبع فيما سنه فقط. وفي صحيح مسلم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا معه في سفر فقال: "إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا". وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يفتي عن كتاب الله فإن لم يجد فبما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يجد أفتى بقول أبي بكر وعمر. ولم يكن يفعل ذلك بعثمان وعلي. وابن عباس حبر الأمة وأعلم الصحابة وأفقههم في زمانه وهو يفتي بقول أبي بكر وعمر مقدما لقولهما على قول غيرهما من الصحابة. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".
وأيضا فأبو بكر وعمر رضي الله عنهما كان اختصاصهما بالنبي صلى الله عليه وسلم فوق اختصاص غيرهما. وأبو بكر رضي الله عنه كان أكثر اختصاصا فإنه كان يسمر عنده عامة الليل يحدثه في العلم والدين ومصالح المسلمين - إلى أن قال - وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "وضع عمر رضي الله عنه على سريره فتكنفه الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه قبل أن يرفع وأنا فيهم فلم يرعني إلا رجل قد أخذ بمنكبي من ورائي فالتفت فإذا هو علي رضي الله عنه فترحم على عمر رضي الله عنه وقال: ما خلفت أحد أحب إلي أن ألقى الله عز وجل بعلمه منك وأيم الله إن كنت لا أظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وذلك أني كنت كثيرا ما أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "جئت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر" فإن كنت لأرجوا أو أظن أن يجعلك الله معهما". وفي الصحيحين وغيرهما أنه لما كان يوم أحد قال أبو سفيان لما أصيب المسلمون: أفي القوم محمد؟ أفي القوم محمد؟ أفي القوم محمد؟؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجيبوه" فقال أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجيبوه" فقال أفي القوم ابن الخطاب؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجيبوه" فقال لأصحابه أما هؤلاء فقد كفيتموهم فلم يملك عمر نفسه أن قال: كذبت يا عدو الله إن الذين أعددت أحياء وقد بقي لك ما يسوءك" وذكر الحديث. فهذا أمير الكفار في تلك الحال إنما سأل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما دون غيرهم لعلمه بأنهم رؤوس المسلمين. النبي ووزيراه. ولهذا سأل الرشيد مالك بن أنس عن منزلتهما من النبي صلى الله عليه وسلم في حياته فقال: "منزلتهما في حياته كمنزلتهما منه بعد مماته". قلت: وقد تقدم عن علي بن الحسين أنه أجاب بنحو هذا الجواب". وقد ذكر شيخ الإسلام أبو العباس رحمه الله تعالى في جواب آخر أن الرشيد قال لمالك لما أجابه بهذا الجواب: "شفيتني يا مالك". قال شيخ الإسلام رحمه الله تعال:ى: " وكثرة الاختصاص والصحبة مع كمال المودة والائتلاف والمحبة والمشاركة في العلم والدين تقتضي أنهما أحق بذلك من غيرهما وهذا ظاهر بيِّن لمن له خبرة بأحوال القوم. أما الصديق فإنه مع قيامه بأمور من العلم والفقه عجز عنها غيره حتى بيَّنها لهم لم يحفظ له قول يخالف نصا وهذا يدل على غاية البراعة.
وأيضا فالصحابة في زمن أبي بكر رضي الله عنه لم يكونوا يتنازعون في مسألة إلا فصلها بينهم أبو بكر وارتفع النزاع بينهم فلا يعرف بينهم في زمانه مسألة واحدة تنازعوا فيها إلا ارتفاع النزاع بينهم بسببه كتنازعهم في وفاته صلى الله عليه وسلم ومدفنه وفي ميراثه وفي تجهيز جيش أسامة وقتال مانعي الزكاة وغير ذلك من المسائل الكبار. بل كان خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم يعلمهم ويقوِّمهم ويبيِّن لهم ما تزول معه الشبهة فلم يكونوا معه يختلفون. وهذا يدل على غاية العلم. وقام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام الإسلام فلم يُخِل بشيء منه بل دخل الناس من الباب الذي خرجوا منه مع كثرة المخالفين من المرتدين وغيرهم وكثرة الخاذلين فكمل به من علمهم ودينهم ما لا يقاومه فيه أحد حتى قام الدين كما كان - إلى أن قال - وأيضا فعلي بن أبي طالب تعلم من أبي بكر بعض المسائل بخلاف أبي بكر فإنه لم يتعلم من علي بن أبي طالب كما في الحديث المشهور الذي في السنن حديث صلاة التوبة عن علي رضي الله عنه قال: "كنت إذا سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم حديثا ينفعني الله منه بما شاء أن ينفعني فإذا حدثني غيره استحلفته فإذا حلف لي صدقته وحدثني أبي بكر وصدق أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من مسلم يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويحسن الوضوء ويصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر له".
ومما يبين هذا أن أئمة علماء الكوفة الذين صحبوا عمر وعليا رضي الله عنهما كعلقمة والأسود وشريح القاضي وغيرهم كانوا يرجحون قول عمر على قول علي. وأما تابعوا أهل المدينة ومكة والبصرة فهذا عندهم أظهر وأشهر من أن يذكر وإنما الكوفة ظهر فيها فقه علي وعلمه بحسب مقامه فيها مدة خلافته، وكل شيعة علي الذين صحبوه لا يعرف عن أحد منهم أنه قدمه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لا في فقه ولا علم ولا غيرهما بل كل شيعته الذين قاتلوا معه عدوه كانوا مع سائر المسلمين يقدمون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما إلا من كان علي رضي الله عنه ينكر عليه ويذمه مع قتلهم في عهد علي وخمولهم وكانوا ثلاث طوائف طائفة غلت فيه كالتي ادعت فيه الإلهية وهؤلاء حرقهم علي رضي الله عنه بالنار. وطائفة كانت تسب أبا بكر وكان رأسهم عبد الله بن سبأ فلما بلغ عليا ذلك طلب قتله فهرب. وطائفة كانت تفضله على أبي بكر وعمر قال: "لا يبلغني عن أحد منكم أنه فضلني على أبا بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري". وقد روي عن علي رضي الله عنه من نحو ثمانين وجها وأكثر أنه قال على منبر الكوفة: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر" - إلى أن قال - ورأس الفضائل العلم وكل من كان أفضل من غيره من الأنبياء والصحابة وغيرهم فإنه أعلم منه قال تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}.
والدلائل على ذلك كثيرة وكلام العلماء في ذلك كثير".
ثم قرر الشيخ رحمه الله تعالى أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما أعلم من علي ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما إلى أن قال: "ولم يختص علي رضي الله عنه بتبليغ شيء من العلم إلا وقد اختص غيره بما هو أكثر منه فالتبليغ العام الحاصل بالولاية حصل لأبي بكر وعمر وعثمان منه أكثر مما حصل لعلي. وأما الخاص فابن عباس رضي الله عنهما كان أكثر فتيا منه وأبو هريرة رضي الله عنه أكثر رواية منه وعلي رضي الله عنه أعلم منهما كما أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أعلم منهما أيضاً فإن الخلفاء الراشدين قاموا من تبليغ العلم العام بما كان الناس أحوج إليه مما بلغه من بلغ بعض العلم الخاص - إلى أن قال - وما يذكر أنه كان عنده - أي عند علي رضي الله عنه - علم باطن امتاز به عن أبي بكر وعمر وغيرهما فهذا من مقالات الملاحدة الباطنية ونحوهم الذين فيهم من الكفر ما ليس في اليهود والنصارى" انتهى المقصود من كلامه ملخصا. وفيه أبلغ رد على أبي تراب فيما شذ به من تفضيل بعض الصحابة في العلم والفقه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وهذه جراءة سيئة من أبي تراب حاصلها الغض من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى أيضاً في منهاج السنة: "أهل السنة يقولون ما اتفق عليه علماؤهم إن أعلم الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وقد ذكر غير واحد الإجماع على أن أبا بكر أعلم الصحابة كلهم" انتهى.
وقد خرق أبو تراب الإجماع وخالف أهل السنة حيث فضَّل أبا هريرة والبخاري على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بالعلم. وفضَّل عليا ومعاذا وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم على عمر رضي الله عنه بالعلم والفقه.
وأما قوله: "وهو نفسه يشهد بذلك".
فجوابه أن يقال لم يثبت ذلك عن عمر رضي الله عنه وعلى تقدير ثبوته فإنما ذلك من باب التواضع..ومن هذا الباب قصته مع المرأة حين قال وهو على المنبر: يا أيها الناس لا تغلوا في صداق النساء. ونهاهم أن يزيدوا على أربعمائة درهم. فقامت امرأة فقالت: إن الله يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً من ذهب} - وهي هكذا في قراءة بن مسعود رضي الله عنه - فرجع عمر رضي الله عنه عن قوله وقال: "كل الناس أفقه من عمر". فهذا من باب التواضع وليس معناه أن تلك المرأة أو غيرها أفقه من عمر رضي الله عنه على الإطلاق كما قد يفهمه بعض الجهلة الأغبياء. وتواضع عمر رضي الله عنه مع المرأة وغيرها يعد من المناقب لا من المعايب.
أما قوله: "ولكنهم لم يكونوا أفضل منه". فجوابه أن يقال: لو كان علي ومعاذ وابن مسعود رضي الله عنهم أفقه من عمر رضي الله عنه لكانوا أفضل منه لأن العلم رأس الفضائل وأكملها وأشرفها ولكنه رضي الله عنه قد فاقهم كلهم في العلم والفقه وفي غير ذلك من الخصال الحميدة فلذلك كان أفضل منهم.
وأما قوله: "وليس لإنسان أن يقرن الفضل بالعلم". فالجواب أن يقال: بل ليس لإنسان أن يفرق بين الفضل وبين العلم لأن العلم خصلة من خصال الفضائل وهو رأسها وأكملها وأشرفها ولا يكون الإنسان فاضلا إلا بالعلم وإذا لم يتصف بالعلم فإنه لا يكون فاضلا وإنما يكون ناقصا وكفى بالعلم شرفا وفضيلة وكفى بالجهل نقصا ووضيعة..
وههنا أمر ينبغي التنبيه عليه وهو أن العلم لا يكون فضيلة في حق كل أحد وإنما يكون فضيلة في حق من يعمل بعلمه فيخشى ربه ويسارع إلى ما يرضيه من الأقوال والأعمال ويجتنب ما يسخطه منها. وأما الذي يكون معه علم وهو لا يخشى ربه ولا يلتمس رضاه ولا يجتنب نهيه فهذا جاهل في الحقيقة وعلمه لا يكون فضيلة في حقه وإنما يكون حجة عليه ووبالا يوم القيامة.
وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار جهلا" رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب الزهد. وروى عبد الله أيضاً في كتاب الزهد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "ليس العلم بكثرة الرواية ولكن العلم الخشية". وروى الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه: "أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لا ينفعه علمه". وما أكثر هذا الضرب الرديء في زماننا لا أكثرهم الله.
الموضع الثالث: زعم أبو تراب أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ماتا ولم يحفظا القرآن كله وقد حفظ أبو بكر من الأحاديث مائة واثنين وأربعين.. وعمر خمسمائة حديث وسبعة وثلاثين.. ولكن ابنه كان أعلم منه فقد حفظ ألفي حديث وستمائة وثلاثين. وغلب الجميع أبو هريرة فله خمسة آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة أحاديث فهل نقول أن أبا هريرة كان أفضل من أبي بكر. كلا.. فالفضل غير العلم والفقه والاجتهاد والحفظ.
والجواب أن يقال: لا يخفى ما في هذا الكلام من الجرأة والتهجم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وما يدري أبا تراب أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ماتا ولم يحفظا القرآن كله. إنا نطالبه بإقامة الدليل على ذلك.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة" رواه مسلم وغيره من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه..
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم من عدة أوجه في الصحيحين وغيرهما أنه أمر أبا بكر رضي الله عنه أن يصلي بالناس في مرضه الذي مات فيه. وقد ترجم البخاري على ذلك بقوله: ((باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة)). وفي الصحيحين وغيرهما من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم فحانت الصلاة فتقدم أبو بكر رضي الله عنه يصلي بالناس. الحديث. وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على فعله ورضي بما صنع. وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره" رواه الترمذي فعلم من هذا أن أبا بكر رضي الله عنه كان أعلم الصحابة بالسنة وأقرأهم لكتاب الله تعالى.
وقد ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب عن عبد خير قال سمعت عليا رضي الله عنه يقول: "رحم الله أبا بكر كان أول من جمع ما بين اللوحين".
وقال ابن كثير في البداية والنهاية: "والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر الصديق رضي الله عنه إماما للصحابة كلهم في الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام العملية . قال الشيخ أبو الحسن الأشعري: "وتقديمه أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام".
قال: "وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم لما ثبت في الخبر المتفق على صحته بين العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يؤم الناس أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأكبرهم سنا فإن كانوا في السن سواء فأقدمهم إسلاما" قال ابن كثير: "وهذا من كلام الأشعري رحمه الله مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق رضي الله عنه وأرضاه" انتهى.
وقد تقدم قول ابن مسعود رضي الله عنه: "إن عمر كان أعلمنا بالله وأقرأنا لكتاب الله وأفقهنا في دين الله" وفي هذا أبلغ رد على أبي تراب في قوله إن أبا بكر وعمر ماتا ولم يحفظا القرآن كله.. وأما قوله وقد حفظ أبو بكر من الأحاديث مائة واثنين وأربعين وعمر خمسمائة حديث وسبعة وثلاثين.
فجوابه أن يقال: وما يُدري أبا تراب أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم يحفظا من الأحاديث سوى ما ذكره. لقد أخطأ أبو تراب وأبعد عن الصواب في هذا القول الذي لم يتثبت فيه. ولو كان الأمر على ما زعمه لكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما من أقل الصحابة علما وهذا معلوم البطلان بالضرورة.
ويقال أيضا: من المعلوم أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان ملازما للنبي صلى الله عليه وسلم منذ بعثه الله تعالى إلى أن توفاه وكان لا يفارقه في حضر ولا سفر. وكذلك عمر رضي عنه قد كان ملازما للنبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلم إلى أن توفي الله نبيه صلى الله عليه وسلم وكان لهما من الاختصاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ما ليس لغيرهما فيبعد كل البعد أن تكون روايتهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أقل من رواية من لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا مدة يسيرة ولم يكن لهم من الاختصاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ما كان لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. فالذي لا يشك فيه أن أبا وعمر رضي الله عنهما قد حفظا عن النبي صلى الله عليه وسلم علما كثيرا.. ولا يبعد أن يكون ما حفظاه من الحديث أكثر مما حفظه بعض المكثرين من الرواية. ومما يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر رضي الله عنه أن يصلي بالناس في مرضه الذي مات فيه وأنه صلى الله عليه وسلم أقره على الصلاة بالناس لما ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة" فدل على أن أبا بكر رضي الله عنه أعلم بالسنة من جميع الصحابة رضي الله عنهم. وعلمه بالسنة إنما تكون بكثرة الرواية والحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والفهم لأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم والعلم بأفعاله وسيرته وهديه. وكان رضي الله عنه يفتي ويأمر وينهى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن يفعل من ذلك شيئا إلا بما علمه من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وكان الصحابة رضي الله عنهم في زمن ولاية أبي بكر رضي الله عنه يرجعون إليه في المسائل التي يتنازعون فيها فيفصل بينهم ويرتفع النزاع بينهم بسببه ولم يكن يرجع إليهم إلا في القليل النادر. وهذا يدل على غزارة علمه وكثرة روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان أكثر الصحابة أو من أكثرهم حفظا لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله. وقد تقدم ما رواه ابن سعد في الطبقات عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل من كان يفتي الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر وعمر ما أعلم غيرهما.
وأما قلة الرواية عن أبي بكر رضي الله عنه فلها أسباب كثيرة. منها قصر مدته بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث لم يتمكن الناس من إكثار الرواية عنه.
ومنها أن كبار الصحابة رضي الله عنهم كانوا متوافرين في زمن الصديق رضي الله عنه فكان الناس يكتفون بسؤالهم وأخذ الحديث عنهم عن الرجوع إلى الصديق رضي الله عنه لأنه كان مشغولا بالنظر في أمور الرعية عن الجلوس للتحديث.
ومنها أن المسلمين نفروا في زمانه إلى قتال المرتدين ثم إلى قتال الفرس والروم ولم يبق من المسلمين في المدينة إلا القليل فكان المسلمون في تلك الأقطار النائية عن المدينة يكتفون بسؤال من عندهم من الصحابة ويأخذون عنهم الحديث ولا يذهبون إلى الصديق ومن كان معه من الصحابة في المدينة.
ومنها أن المكثرين من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم من صغار الصحابة إنما كان جل روايتهم بواسطة كبار الصحابة كالصديق وعمر وغيرهما من كبار الصحابة وكانوا يكتفون بنسبة الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يذكرون الواسطة بينهم وبينه إلا قليلا لثقتهم بصحة ما نقل إليهم عنه صلى الله عليه وسلم ولهذا تجدهم يقولون في أكثر رواياتهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يذكرون السماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الرؤية لأفعاله إلا قليلا.
وقد ذكر الحافظ بن حجر في كتاب الإصابة في ترجمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه روى عنه عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عمرو وابن عباس وحذيفة وزيد بن ثابت وعقبة بن عامر ومعقل بن يسار وأنس وأبو هريرة وأبو أمامة وأبو برزة وأبو موسى وابنتاه عائشة وأسماء وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.
وروى عنه من كبار التابعين الصنابحي ومرة بن شراحبيل الطبيب وواسط البجلي وقيس بن أبي حازم وسويد بن غفلة وآخرون انتهى.
ويستفاد مما ذكره الحافظ ابن حجر من رواية هؤلاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قد حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة جدا رواها عنه كثير من علماء الصحابة وكبار التابعين ولكن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يكتفون بذكر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يذكرون الواسطة بينهم وبينه لأنهم كلهم أهل صدق وعدالة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب ((الوابل الصيب)): "وهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن مقدار ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغ نحو العشرين حديثا الذي يقول فيه سمعت ورأيت. وسمع الكثير من الصحابة وبورك له في فهمه والاستنباط منه حتى ملأ الدنيا علما وفقها" انتهى..
وقد روى البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما فتحت المدائن أقبل الناس على الدنيا وأقبلت على عمر" فكان عامة حديثه عن عمر قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح". وروى الطبراني في الكبير عن حميد قال: "كنا مع أنس بن مالك رضي الله عنه فقال: "والله ما كل ما نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه منه ولكن لم يكن يكذب بعضنا بعضا". قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح". وروى الإمام أحمد عن البراء رضي الله عنه قال: "ما كل الحديث سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدثنا أصحابه عنه كانت تشغلنا عنه رعية الإبل".
قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح"..
وأما عمر رضي الله عنه فإنه كان أعلم الأمة بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقد تقدم ذكر ما وصفه به ابن مسعود وحذيفة وسعيد بن المسيب وعمرو بن وإبراهيم النخعي من غزارة العلم. وهذا العلم الغزير الذي امتاز به عمر رضي الله عنه على سائر الصحابة إنما كان بالفهم في كتاب الله تعالى وكثرة الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والفهم لأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم والعلم بأفعاله.
والأسباب في قلة الرواية عن عمر رضي الله عنه هي نفس الأسباب المذكورة في قلة الرواية عن أبي بكر رضي الله عنه. وتزيد عليها بسبب آخر وهو أن عمر رضي الله عنه كان يحث الناس على قراءة القرآن وحفظه والتفهم لما فيه وينهاهم عن الإكثار من الرواية خوفا من التزيد في الأحاديث والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد كان الناس يهابونه أشد الهيبة فلا يخالفون أمره ولا يرتكبون نهيه ولا يتجاسرون على سؤاله عما عنده من الأحاديث كما يتجاسرون على سؤال غيره من الصحابة فلهذا كان المروي عنه من الأحاديث قليلا بالنسبة لما يروى عن المكثرين من الحديث.
وقد قال محمد بن سعد في الطبقات: "قال محمد بن عمر الأسلمي - يعني الواقدي - إنما قلَّت الرواية عن الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم هلكوا قبل أن يحتاج إليهم وإنما كثرت عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب لأنهما وليا فسئلا وقضيا بين الناس. وكل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أئمة يقتدى بهم ويحفظ عليهم ما كانوا يفعلون ويستفتون فيفتون وسمعوا أحاديث فأدوها فكان الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل حديثا عنه من غيرهم مثل أبي بكر وعثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة بن الجراح وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبيّ بن كعب وسعد بن عبادة وعبادة بن الصامت وأسيد بن الحضير ومعاذ بن جبل ونظرائهم فلم يأت عنهم من كثرة الحديث مثل ما جاء من الأحاديث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن العباس ورافع بن خديج وأنس بن مالك والبراء بن عازب ونظرائهم. وكل هؤلاء كان يعد من فقهاء الأصحاب رسول الله صلى اله عليه وسلم وكانوا يلازمون النبي صلى الله عليه وسلم مع غيرهم من نظرائهم وأحدث منهم مثل عقبة بن عامر الجهني وزيد بن خالد الجهني وعمران بن الحصين والنعمان بن بشير ومعاوية بن أبي سفيان وسهل بن سعد الساعدي وعبد الله بن يزيد الخطمي ومسلمة بن مخلد الزرقي وربيعة بن كعب الأسلمي وهند وأسماء ابني جارية الأسلميين وكانا يخدمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلازمانه فكان أكثر الرواية والعلم في هؤلاء ونظرائهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم بقوا وطالت أعمارهم واحتاج الناس إليهم ومضى كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبله وبعده بعلمه لم يؤثر عنه بشيء ولم يحتج إليه لكثرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .." انتهى..
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في ((إعلام الموقعين)): "إن ما انفردوا به من العلم عنا أكثر من أن يحاط به فلم يرو كل منهم كل ما سمع. وأين ما سمعه الصديق والفاروق وغيرهما من كبار الصحابة رضي الله عنهم إلى ما رووه فلم يرو عن صديق الأمة مائة حديث وهو لم يغب عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من مشاهده بل صحبه من حين بعث إلى أن توفيَ وكان أعلم الأمة به صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله وهديه وسيرته.. وكذلك أجلة الصحابة روايتهم قليلة جدا بالنسبة إلى ما سمعوه من نبيهم وشاهدوه. ولو رووا كل ما سمعوه وشاهدوه لزاد على رواية أبي هريرة أضعافا مضاعفة فإنه إنما صحبه نحو أربع سنين وقد روى عنه الكثير - إلى أن قال - إنهم كانوا يهابون الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعظمونها ويقللونها خوف الزيادة والنقص ويحدثون بالشيء الذي سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم مرارا ولا يصرحون بالسماع ولا يقولون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم". انتهى.