بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف، حفظة الله تعالى .
سلام عليكم ورحمة وبركاته، أما بعد : فقد وصل إلينا من ناحيتكم مكاتيب، فيها إنكار وتغلظ عليّ، ولما قيل : إنك كنت معهم، وقع في الخاطر بعض الشيء، لأن الله سبحانه نشر لك من الذكر الجميل، وأنزل في قلوب عباده لك من المحبة ما لم يؤتيه كثيرا من الناس، لما يذكر عنك من مخالفة من قبلك من حكام السوء .
وأيضا : لما اعلم منك من محبة الله ورسوله، وحسن
(ص36) الفهم، واتباع الحق، ولو خالفك فيه كبار أئمتكم لأني اجتمعت بك من نحو عشرين، وتذاكرت أنا في شيءٍ من التفسير الحديث، وأخرجت لي كراريس من البخاري، كتبتها ونقلت على هوامشها من الشروح، وقلت في مسألة الإيمان، التي ذكر البخاري في أول الصحيح : هذا هو الحق الذي أدين الله به، فأعجبني هذا الكلام، لأنه خلاف مذهب أئمتكم المتكلمين .
وذاكرتني أيضا في بعض المسائل، فكنتُ أحكي لمن يتعلم منى ما من الله به عليك، من حسن الفهم، ومحبة الله والدار الآخرة ؛ فلأجل هذا لم أظن فيك المسارعة في هذا الأمر، لأن الذين قاموا فيه مخطئون على كل تقدير، لأن الحق : إن كان مع خصمهم فواضح ؛ وإن كان معهم : فينبغي للداعي إلى الله، أن يدعو بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، وقد أمر الله رسوليه، موسى وهارون : أن يقولا لفرعون قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى .
وينبغي للقاضي – أعزه الله بطاعته – لما ابتلاه الله بهذا المنصب : أن يتأدب بالآداب التي ذكرها الله في كتابه الذي أنزل، ليبين للناس ما اختلفوا فيه، وهدى ورحمة لقوم يوقنون ؛ ويتثبت عند سعايات الفساق والمنافقين، ولا يعجل، وقد وصف الله المنافقين في كتابه بأوصافهم، وذكر شعب النفاق لتجتنب، ويجتنب أهلها أيضاً ؛ فوصفهم بالفصاحة، والبيان، وحسن اللسان، بل
(ص37) وحسن الصورة في قوله : ( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم ) (المنافقون 4) ووصفهم بالمكر والكذب والاستهزاء بالمؤمنين في أول البقرة، ووصفهم بكلام ذي الوجهين، ووصفهم بالدخول في المخاصمات بين الناس بما لا يحب الله ورسوله في قوله : ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ) (المائدة 41) ووصفهم باستحقار المؤمنين والرضا بأفعالهم، ووصفهم بغير هذا في البقرة، وبراءة، وسورة القتال، وغير ذلك نصيحةً لعباده ليتجنبوا الأوصاف ومن تلبس بها .
ونهي الله نبيه عن طاعتهم في غير موضع، فكيف يجوز من مثلك أن يقبل من مثل هؤلاء ؟! وأعظم من ذلك : أن تعتقد أنهم من أهل العلم، وتزورهم في بيوتهم، وتعظمهم، وأنا لا أقول هذا في واحد بعينه، ولكن نصيحة، وتعريف بما في كتاب الله من سياسة الدين والدنيا، لأن أكثر الناس قد نبذه وراء ظهره .
وأما : ما ذكر لكم عني، فإني لم آته بجهالة، بل أقول – ولله الحمد والمنة وبه القوة – إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين، ولست – ولله الحمد – أدعو إلى مذهب صوفي، أو فقيه، أو متكلم، أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم، مثل ابن القيم، والذهبي، وابن كثير، أو غيرهم، بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأدعو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أول أمته وآخرهم، وأرجو أنّى لا أرد الحق إذا
(ص38) أتاني، بل أُشهد الله وملائكته وجميع خلقه : إن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلنّها علي الرأس والعين ؛ ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقول إلا الحق .
وصفةُ الأمر : غير خاف عليكم ما درج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون وأبتاعهم، والأئمة كالشافعي، وأحمد وأمثالهما ممن أجمع أهل الحق على هدايتهم ؛ وكذلك ما درج عليه من سبقت له من الله الحسنى من أتباعهم .
وغيرُ خاف عليكم : ما أحدث الناس في دينهم من الحوادث، وما خالفوا في طريق سلفهم، ووجدت المتأخرين أكثرهم قد غيرّ وبدّل، وسادتهم وأئمتهم وأعلمهم وأعبدهم، وأزهدهم، مثل : ابن القيم، والحافظ الذهبي، والحافظ العماد ابن كثير، والحافظ ابن رجب، وقد أشتد نكيرهم على أهل عصرهم، الذين هم خيرٌ من ابن حجر، وصاحب الإقناع، بالإجماع، فإذا استدل عليهم أهل زمانهم بكثرتهم والإطباق على طريقتهم، قالوا : هذا من أكبر الأدلة على أنه باطل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر : أن أمته تسلك مسالك اليهود، والنصارى حذوا القذة بالقذة ( حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه ).
وقد ذكر الله في كتابه : إنهم فرقوا دينهم وكانوا شيعاً
(ص39) وأنهم كتبوا الكتاب بأيديهم، وقالوا هذا من عند الله وأنهم تركوا كتاب الله والعمل به، وأقبلوا على ما أحدثه أسلافهم من الكتب، وأخبر أنه وصاهم بالاجتماع وأنهم لم يختلفوا لخفاء الدين بل اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم، ( فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحين ) (المؤمنون 35) [والزبر : الكتب ]
فإذا فهم المؤمن، قول الصادق المصدوق " لتتبعن سنن من كان قبلكم " وجعله قِبْلة قلبه، تَبين له أن هذه الآيات وأشباهها، ليست على ما ظن الجاهلون : أنها كانت في قوم كانوا فبانوا، بل يفهم ما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال في هذه الآيات : مضى القوم وما يعنى به غيركم .
وقد فرض الله على عباده في كل صلاة : أن يسألوه الهداية إلى الصراط المستقيم صراط الذين، أنعم عليهم الذين هم غير الغضوب عليهم، ولا الضالين، فمن عرف دين الإسلام، وما وقع الناس فيه من التغيير له، عرف مقدار هذا الدعاء، وحكمة الله فيه .
والحاصل : أن صورة المسألة، هل الواجب على كل مسلم أن يطلب علم ما أنزل الله على رسوله، ولا يُعذر أحد في تركه، البتة ؟ أم يجب عليه أن يتبع التحفة مثلا ؟ فاعلم المتأخرين وسادتهم منهم، كابن القيم : قد أنكروا هذا غاية
(ص40) الإنكار ؛ وأنه تغيير لدين الله ؛ واستدلوا على ذلك بما يطول وصفه، من كتاب الله الواضح، ومن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم البين، لمن نَور الله قلبه، والذين يجيزون ذلك، أو يوجبونه، يُدلون بشبهٍ واهية، لكن أكبر شبههم على الإطلاق : إنا لسنا من أهل ذلك، ولا نقدر عليه، ولا يقدر عليه إلا المجتهد ؛ وإنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون .
ولأهل العلم في إبطال هذه الشبهة ما يحتمل مجلداً، ومن أوضحه قول الله تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) (التوبة 31) وقد فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بهذا الذي أنتم عليه اليوم، في الأصول، والفروع، لا أعلمهم يزيدون عليكم مثقال حبة خردل، بل يُبين مصداق قوله : " حذو القذوة بالقذوة " الخ، وكذلك فسرها المفسرون، لا أعلم بينهم اختلافاً، ومن أحسنه : ما قاله أبو العالية، أما إنهم لم يعبدوهم، ولو أمروهم بذلك ما أطاعوهم، ولكنهم وجدوا كتاب الله، فقالوا : لا نسبق علماءنا بشيء، ما أمرونا به ائتمرنا، وما نهونا عنه انتهينا.
وهذه رسالة : لا تحتمل إقامة الدليل، ولا جواباً عما يُدلي به المخالف، لكن أعرض عليه من نفسي الإنصاف والانقياد للحق، فإن أردتم الرد على بعلم وعدل، فعندكم كتاب أعلام الموقعين، لابن القيم عند ابن فيروز في مشرفة .
(ص41) فقد بَسط الكلام فيه على هذا لأصل بسطاً كثيراً وسرد من شُبه أئمتكم ما لا تعرفون أنتم ولا آباؤكم، وأجاب عنها، واستدل لها بالدلايل الواضحة القاطعة، منها : أمر الله ورسوله عن أمركم هذا بعينه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وصفوه من قبل أن يقع، وحذروا الناس منه، وأخبروا أنه لا يسير على الدين إلا الواحد بعد الواحد، وأن الإسلام يصير غريباً كما بدأ .
وقد علمتم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأله عمرو بن عبسة في أول الإسلام : من معك على هذا ؟ قال : " حر وعبد " يعنى أبا بكر، وبلالاً، فإذا كان الإسلام يعود كما بدأ، فما أجهل من استدل بكثرة الناس، وأطباقهم، وأشباه هذه الشبهة، التي هي عظيمة عند أهلها، حقيرة عند الله، وعند أولي العلم من خلقه، كما قال تعالى : ( بل قالوا مثل ما قال الأولون ) [المؤمنون:81] فلا أعلم لكم حجة تحتجون بها، إلا وقد ذكر الله في كتابه : أن الكفار استدلوا بها على تكذيب الرسل، مثل أطباق الناس، وطاعة الكبراء، وغير ذلك .
فمن منَّ الله عليه بمعرفة دين الإسلام، الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف قدر هذه الآيات، والحجج، وحاجة الناس إليها، فإن زعمتم : أن ذكر هؤلاء الأئمة لهذا لمن كان من أهله فقد صرحوا بوجوبه على الأسود والأحمر، والذكر والأنثى، وأنه ما بعد الحق إلا الضلال، وأن قول من قال
(ص42) ذلك صعب مكيدة من الشيطان، كاد بها الناس عن سلوك الصراط المستقيم، الحنيفية ملة إبراهيم ؛ وإن بان لكم أنهم مخطئون، فبينوا لي الحق حتى أرجع إليه، وإنما كتبت لكم هذا معذرة من الله، ودعوة إلى الله، لأحصل ثواب الداعين إلى الله، وإلا أنا أظن أنكم لا تقبلونه، وأنه عندكم من أنكر المنكرات، من أن الذي يعيب هذا عندكم، مثل من يعيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
لكن أنت، من سبب ما أظن فيك من طاعة الله، لا أبعد أن يهديك الله إلى الصراط المستقيم، ويشرح قلبك للإسلام فإذا قرأته : فإن أنكره قلبك فلا عجب فإن العجب ممن تجنى كيف تجنى فإن أصغى إليه قلبك بعض الإصغاء، فعليك بكثرة التضرع إلى الله، والانطراح بين يديه، خصوصاً أوقات الإجابة، كآخر الليل، وأدبار الصلاة، وبعد الأذان .
وكذلك بالأدعية المأثورة، خصوصاً الذي ورد في الصحيح، أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول : " اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " فعليك بالإلحاح بهذا الدعاء، بين يدي من يجيب المضطر إذا دعاه، وبالذي هدى إبراهيم لمخالفة الناس كلهم، وقل : يا معلم إبراهيم علمني .
(ص43) وإن صعب عليك مخالفة الناس، ففكر في قول الله تعالى : ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون، إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً ) [الجاثية :18-19] (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ) [الأنعام :116]وتأمل قوله في الصحيح : " بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ" وقوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا يقبض العلم " إلى آخره وقوله :" عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " وقوله:"وإياكم ومحدثات الأمور، فان كل بدعة ضلالة " والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة أفردت بالتصنيف .
فإني أحبك، وقد دعوتك لك في صلاتى، واتمنى من قبل هذه المكاتيب أن يهديك الله لدينه القيم، ولا يمنعني من مكاتبتك إلا ظني أنك لاتقبل، وتسلك مسلك الأكثر، ولكن لا مانع لما أعطى الله، والله لا يتعاظم شيئأ أعطاه، وما أحسنك لو تكون في آخر هذا الزمان فاروقا لدين الله كعمر رضى الله عنة في أوله، فانك لو تكون معنا لانتصفنا ممن أغلظ علينا .
وأما هذا الخيال الشيطاني : الذي اصطاد به الناس، أن من سلك هذا المسلك، فقد نسب نفسه للاجتهاد، وترك الإقتداء بأهل العلم، وزخرفه بأنواع الزخارف، فليس هذا بكثير من الشيطان وزخارفه، كما قال تعالى " يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا " [الأنعام:112] فإن الذي
( ص44 ) أنا عليه، وأدعوكم إليه، هو في الحقيقة الإقتداء بأهل العلم، فإنهم قد وصوا الناس بذلك، ومن أشهرهم كلاما في ذلك، إمامكم الشافعي قال : لابد أن تجدوا عنى ما يخالف الحديث، فكل ما خالفه، فأشهدكم أنى قد رجعت عنه .
وايضا :أن في مخالفتى هذا العالم لم أخالفه وحدي فإذا اختلفت أنا وشافعي مثلاً في أبوال مأكول الحم وقلت القول بنجاسته يخالف حديث العرنيين، ويخالف حديث أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مرابض الغنم فقال هذا الجاهل الظالم: أنت أعلم بالحديث من الشافعي ؟ قلت : أنا لم أخالف الشافع من غير إمام اتبعته، بل اتبعت من هو مثل الشافعي، أو أعلم منه قد خالفه، واستدل بالأحاديث .
فإذا قال أنت أعلم من الشافعي قلت : أنت أعلم من مالك ؟ وأحمد، فقد عارضته بمثل ما عارضنى به، وسلم الدليل من المعارض واتبعت قول الله تعالى : " فان تنازعتم في شيء فردوه الله والرسول " [النساء:59] "واتبعت من اتبع الدليل في هذه المسألة من أهل العلم لم استدل بالقرآن، أو الحديث وحدي، حتى يتوجه على ما قيل، وهذا على التنزل، وإلا فمعلوم، إن اتباعكم لابن حجر في الحقيقة، ولا تعبؤون بمن خالفه من رسول، أو صاحب، أو تابع، حتى الشافعي نفسه ولا تعبؤون بكلامه إذا خالف نص
(ص45) ابن حجر، وكذلك غيركم : إنما اتباعهم لبعض المتأخرين لا للأئمة .
فهؤلاء الحنابلة : من أقل الناس بدعة ؛ وأكثر الإقناع، والمنتهى، مخالف لمذهب أحمد ونصه ؛ يعرف ذلك من عرفه ؛ ولا خلاف بيني وبينكم : أن أهل العلم إذا أجمعوا وجب اتباعهم ؛ وإنما الشأن إذا اختلفوا، هل يجب على أن أقبل الحق ممن جاء به، وأرد المسألة إلى الله والرسول، مقتدياً بأهل العلم ؟ أو انتحل بعضهم من غير حجة ؟ وأزعم أن الصواب في قوله ؟ فأنتم علي هذا الثاني، وهو الذي ذمه الله، وسماه شركاً، وهو اتخاذ العلماء أرباباً؟ وأنا علي الأول، أدعو إليه، وأناظر عليه، فإن كان عندكم حق رجعنا إليه، وقبلناه منكم .
وإن أردت النظر في أعلام الموقعين، فعليك بالمناظرة في أثنائه، عقدها بين مقلد وصاحب حجة، وإن ألقى في ذهنك : أن ابن القيم مبتدع، وأن الآيات التي استدل بها ليس هذا معناها ؛ فاضرع إلى الله واسأله أن يهديك لما اختلفوا فيه من الحق، وتجرد ناظراً، ومناظراً، واطلب كلام أهل العلم في زمانه، مثل الحافظ الذهبي، وابن كثير، وابن رجب، وغيرهم، ومما ينسب للذهبي رحمه الله :
العلم قال الله قال رسوله
. قال الصحابة ليس خلف فيه
.
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة
. بين الرسول وبين رأي فقيه
.
(ص46) فإن لم تتبع لهؤلاء، فانظر كلام الأئمة قبلهم، كالحافظ البيهقي في كتاب المدخل، والحافظ ابن عبد البر، والخطابي، وأمثالهم ؛ ومن قبلهم، كالشافعي، وابن جرير، وابن قتيبة، وأبى عبيد ؛ فهؤلاء إليهم المرجع في كلام الله، وكلام رسوله، وكلام السلف ؛ وإياك وتفاسير المحرفين للكلم عن مواضعه، وشروحهم، فإنها القاطعة عن الله، وعن دينه .
وتأمل : ما في كتاب الاعتصام للبخاري، وما قال أهل العلم في شرحه ؛ وهل يتصور شيء بما صرح مما صح عنه صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق علي أكثر من سبعين فرقة، أخبر أنهم كلهم في النار إلا واحدة، ثم وصف تلك الواحدة أنها التي على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنتم مقرون أنكم على غير طريقتهم، وتقولون ما نقدر عليها، ولا يقدر عليها إلا المجتهد، فجزمتم : أنه لا ينتفع بكلام الله، وكلام رسوله إلا المجتهد ؛ وتقولون : يحرم على غيره أن يطلب الهدى من كلام الله وكلام رسوله وكلام أصحابه ؛ فجزمتم وشهدتم : أنكم على غير طريقتهم، معترفين بالعجز عن ذلك .
وإذا كنتم مقرين : أن الواجب علي الأولين اتباع كتاب الله، وسنة رسوله، لا يجوز العدول عن ذلك، وأن هذه الكتب، والتي خير منها، لو تحدث في زمن عمر بن الخطاب لفعل بها، وبأهلها أشد الفعل، ولو تحدث في زمن الشافعي وأحمد، لاشتد نكيرهم لذلك، فليت شعري : متى حرم الله هذا الواجب، وأوجب هذا المحرم ؟!
(ص47) ولما حدث قليل من هذا، لا يشبه ما أنتم عليه في زمن الإمام أحمد، اشتد إنكاره لذلك ؛ ولما بلغه عن بعض أصحابه : أنه يروي عنه مسائل بخراسان، قال : أشهدكم أني قد رجعت عن ذلك، ولما رأى بعضهم يكتب كلامه : أنكر عليه ؛ وقال : تكتب رأياً لعلي أرجع عنه غداً، اطلب العلم مثل ما طلبنا . ولما سئل عن كتاب أبى ثور؟ قال : كل كتاب ابتدع، فهو بدعة ؛ ومعلوم : أن أبا ثور من كبار أهل العلم ؛ وكان أحمد يثني عليه وكان ينهى الناس عن النظر في كتب أهل العلم الذين يثني عليهم ويعظمهم.
ولما أخذ بعض أئمة الحديث كتب أبى حنيفة، هجره أحمد، وكتب إليه : إن تركت كتب أبى حنيفة أتيناك تسمعنا كتب ابن المبارك، ولما ذكر له بعض أصحابه : إن هذه الكتب فيها فائدة لمن لا يعرف الكتاب والسنة ؛ قال : إن عرفت الحديث لم تحتج إليها، وإن لم تعرفه لم يحل لك النظر فيها .
وقال : عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأى سفيان، والله يقول : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) [النور:63] قال : أتدرى ما الفتنة : الفتنة الشرك، ومعلوم : أن الثوري عنده غاية، وكان يسميه أمير المؤمنين ؛ فإذا كان هذا كلام أحمد في كتب نتمنى إلا ن أن نراها، فكيف بكتب قد أقر أهلها على أنفسهم أنهم ليسوا من أهل العلم ؟! وشهد عليهم بذلك ،
(ص48) ولعل بعضهم مات وهو لا يعرف ما دين الإسلام، الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ؟!
وشبهتكم التي ألقيت في قلوبكم : أنكم لا تقدرون على فهم كلام الله، ورسوله، والسلف الصالح، وقد قدمنا : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة " إلى آخره ؛ فتأمل هذه الشبهة، أعنى قولكم : لا نقدر على ذلك ؛ وتأمل ما حكى الله عن اليهود، في قوله : ( وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم ) [البقرة:88] وقوله : ( ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون ) [البقرة:99] (إنا جعلناه قرآنا عربياً لعلكم تعقلون ) [الزخرف:3]وقوله : ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) [القمر:17] .
واطلب تفاسير هذه الآيات من كتب أهل العلم ؛ واعرف من نزلت فيه ؛ وأعرف الأقوال والأفعال، التي كانت سبباً لنزول هذه الآيات، ثم اعرضها على قولهم : لا نقدر على فهم القرآن، والسنة، تجد مصداق قوله : " لتتبعن سنن من كان قبلكم " وما في معناه من الأحاديث الكثيرة، فلتكن قصة إسلام سلمان الفارسي منكم على بال .
ففيها : أنه لم يكن على دين الرسل إلا الواحد بعد الواحد، حتى إن آخرهم قال عند موته : لا أعلم وجه الأرض أحداً على ما نحن عليه، ولكن قد أظل زمان نبي ،
(ص49) واذكر مع هذا قول الله تعالى : ( فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم ) [هود:116].
فحقيق لمن نصح نفسه، وخاف عذاب الآخرة : أن يتأمل ما وصف الله به اليهود في كتابه، خصوصاً ما وصف به علماءهم، ورهبانهم من كتمان الحق، ولبس الحق بالباطل، والصد عن سبيل الله، وما وصفهم الله، أي : علماءهم، من الشرك، والإيمان بالجبت، والطاغوت ؛ وقولهم للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً، لأنه عرف أن كل ما فعلوا لابد أن تفعله هذه الأمة ، وقد فعلت .
وإن صعب عليك مخالفة الكبر، أولم يقبل ذهنك هذا الكلام، فأحضر بقلبك : أن كتاب الله أحسن الكتب، وأعظمها بياناً وشفاء لداء الجهل، وأعظمها فرقاً بين الحق والباطل، والله سبحانه قد عرف تفرق عباده، واختلافهم قبل أن يخلقهم، وقد ذكر في كتابه ( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة ) [النحل:64]وأحضر قلبك هذه الأصول وما يشابهها في ذهنك، واعرضها على قلبك، فإنه إن شاء الله يؤمن بها على سبيل الإجمال .
فتأمل قوله : ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ) [لقمان :21] وتكرير هذا الأصل في مواضع كثيرة، وكذلك قوله : ( أتجادلونني في أسماء
(ص50) سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان ) [الأعراف:71] فكل حجة تحتجون بها، تجدها مبسوطة في القرآن، وبعضها في مواضع كثيرة .
فأحضر بقلبك : أن الحكيم الذي أنزل كتابه شفاء من الجهل، فارقاً بين الحق والباطل، لا يليق منه أن يقرر هذه الحجج، ويكررها، مع عدم حاجة المسلمين إليها، ويترك الحجج التي يحتاجون إليها، ويعلم أن عباده يفترقون ؛ حاشا أحكم الحاكمين من ذلك .
ومما يهون عليك مخالفة من مخالف الحق، وإن كان من أعلم الناس وأذكاهم، وأعظمهم جاهاً، ولو اتبعه أكثر الناس : ما وقع في هذه الأمة من افتراقهم في أصول الدين، وصفات الله تعالى؛ وغالب من يدعى المعرفة ؛ وما عليه المتكلمون، وتسميتهم طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حشواً، وتشبيهاً، وتجسيماً، مع أنك إذا طالعت في كتاب من كتب الكلام – مع كونه يزعم أن هذا واجب على كل أحد، وهو أصل الدين – تجد الكتاب من أوله إلى آخره، لا يستدل على مسألة منه بآية من كتاب الله، ولا حديث عن رسول الله، اللهم إلا أن يذكره ليحرفه عن مواضعه .
وهم معترفون : أنهم لم يأخذوا أصولهم من الوحي، بل من عقولهم ؛ ومعترفون : أنهم مخالفون للسلف في ذلك، مثل ما ذكر في فتح الباري، في مسألة الإيمان، على قول
(ص51) البخاري : وهو قول وعمل، ويزيد وينقص ؛ فذكر إجماع السلف على ذلك، وذكر عن الشافعي : أنه نقل الإجماع على ذلك، وكذلك ذكر أن البخاري نقله، ثم بعد ذلك حكى كلام المتأخرين، ولم يرده .
فإن نظرت في كتاب التوحيد في آخر الصحيح : فتأمل تلك التراجم، وقرأت في كتب أهل العلم من السلف، ومن أتباعهم من الخلف، ونقلهم الإجماع على وجوب الإيمان بصفات الله تعالى، وتلقيها بالقبول ؛ وأن من جحد شيئاً منها، أو تأول شيئاً من النصوص، فقد افترى على الله، وخالف إجماع أهل العلم ؛ ونقلهم الإجماع : أن علم الكلام بدعة وضلالة، حتى قال أبو عمر بن عبد البر : أجمع أهل العلم في جميع الأعصار والأمصار، أن أهل الكلام أهل بدع، وضلالات، لا يعدون عند الجميع من طبقات العلماء ؛ والكلام في هذا يطول .
والحاصل : أنهم عمدوا إلى شيء أجمع المسلمون كلهم، بل وأجمع عليه أجهل الخلق بالله عبدة الأوثان، الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم فابتدع هؤلاء كلاماً من عند أنفسهم، كابروا به العقول أيضاً، حتى إنكم لا تقدرون تغيرون عوامكم عن فطرتهم، التي فطرهم الله عليها، ثم مع هذا كله تابعهم جمهور من يتكلم في علم هذا الأمر، إلا من سبقت لهم من الله الحسنى ؛ وهم : كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ،
(ص52) يبغضونهم الناس، ويرمونهم بالتجسيم .
هذا : وأهل الكلام واتباعهم، من أحذق الناس، وأفطنهم، حتى إن لهم من الذكاء والحفظ والفهم، ما يحير اللبيب، وهم وأتباعهم : مقرون أنهم مخالفون للسلف، حتى إن أئمة المتكلمين، لما ردوا على الفلاسفة في تأويلهم في آيات الأمر والنهي، مثل قولهم، المراد بالصيام : كتمان أسرارنا ؛ والمراد بالحج : زيارة مشائخنا ؛ والمراد بجبريل : العقل الفعال ؛ وغير ذلك من إفكهم ؛ ردوا عليهم الجواب : بأن هذا التفسير خلاف المعروف بالضرورة من دين الإسلام ؛ فقال لهم الفلاسفة : أنتم جحدتم علوا الله على خلقه، واستواءه على عرشه، مع أنه مذكور في الكتب، على ألسنة الرسل، وقد أجمع عليه المسلمون كلهم، وغيرهم من أهل الملل، فكيف يكون تأويلنا تحريفاً ؟! وتأويلكم صحيحاً ؟! فلم يقدر أحد من المتكلمين أن يجيب عن هذا الإيراد .
والمراد : أن مذهبهم مع كونه فاسداً في نفسه، مخالفاً للعقول، وهو أيضاً مخالف لدين الإسلام، والكتاب والرسول، وللسلف كلهم، ويذكرون في كتبهم أنهم مخالفون للسلف، ثم مع هذا : راجت بدعتهم على العالم والجاهل، حتى طبقت مشارق الأرض ومغاربها .
وأنا أدعوك إلى التفكير في هذه المسألة، وذلك : أن السلف قد كثر كلامهم، وتصانيفهم في أصول الدين، وإبطال
(ص53) كلام المتكلمين، وتفكيرهم، وممن ذكر هذا من متأخري الشافعية : البيهقي، والبغوي، وإسماعيل التيمي، ومن بعدهم، كالحافظ الذهبي ؛ وأما متقدموهم : كابن سريج، والدار قطني، وغيرهما، فكلهم على هذا الأمر، ففتش في كتب هؤلاء ؛ فإن أتيتني بكلمة واحدة : أن منهم رجلاً واحداً لم ينكر على المتكلمين، ولم يكفرهم، فلا تقبل منى شيئاً أبداً ؛ ومع هذا كله، وظهوره غاية الظهور، راج عليكم حتى ادعيتم أن أهل السنة هم المتكلمون ؛ والله المستعان .
ومن العجب : أنه يوجد في بلدكم من يفتى الرجل بقول إمام ؛ والثاني بقول آخر ؛ والثالث بخلاف القولين ؛ ويُعد فضيلة، وعلماً وذكاء، ويقال : هذا يفتي في مذهبين، أو أكثر ؛ ومعلوم عند الناس : أن مراده في هذا، العلو والرياء، وأكل أموال الناس بالباطل ؛ فإذا خالفت قول عالم لمن هو أعلم منه، أو مثله إذا كان معه الدليل، ولم آت بشيء من عند نفسي، تكلمتم بهذا الكلام الشديد، فإن سمعتم أني أفتيت بشيء خرجت فيه من إجماع أهل العلم، توجه علي القول .
وقد بلغني أنكم في هذا الأمر قمتم وقعدتم، فإن كنتم تزعمون أن هذا إنكار للمنكر، فيا ليت قيامكم كان في عظائم في بلدكم تضاد أصلي الإسلام : شهادة أن لا إلَه إلا ّ الله، وأن محمداً رسول الله .
منها – وهو أعظمها – عبادة الأصنام عندكم، من بشر،
(ص54) وحجر ؛ هذا يذبح له، وهذا ينذر له ؛ وهذا يطلب إجابة الدعوات وإغاثة اللهفان ؛ وهذا يدعوه المضطر في البر والبحر ؛ وهذا يزعمون أن من التجأ إليه ينفعه في الدنيا والآخرة – ولو عصى الله !
فإن كنتم تزعمون : أن هذا ليس هو عبادة الأصنام، والأوثان، المذكورة في القرآن، فهذا من العجب ؛ فإني لا أعلم أحداً من أهل العلم يختلف في ذلك، اللهم إلاّ أن يكون أحد وقع فيما وقع فيه اليهود، من إيمانهم بالجبت والطاغوت ؛ وإن ادعيتم : أنكم لا تقدرون على ذلك، فإن لم تقدروا على الكل، قدرتم على البعض ؛ كيف وبعد الذين أنكروا على هذا الأمر، وادعوا انهم من أهل العلم، ملتبسون بالشرك الأكبر، ويدعون إليه، ولو يسمعون إنساناً يجرد التوحيد، لرموه بالكفر والفسوق ؛ ولكن نعوذ بالله من رضى الناس بسخط الله .
ومنها : ما يفعله كثير من أتباع إبليس، أتباع المنجمين والسحرة والكهان، ممن ينتسب إلى الفقر، وكثير ممن ينتسب إلى العلم من هذه الخوارق التي يوهمون بها الناس، ويشبهون بمعجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء، ومرادهم أكل أموال الناس بالباطل ؛ والصد عن سبيل الله، حتى إن بعض أنواعها يعتقد فيه من يدعى العلم : أنه من العلم الموروث عن الأنبياء، من علم الأسماء، وهو من الجبت والطاغوت، ولكن هذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم : " لتتبعن سنن من كان قبلكم " .
(ص55) ومنها : هذه الحيلة الربوية، التي مثل حلية أصحاب السبت، أو أشد ؛ وأنا ادعوا من خالفني إلى أحد أربع ؛ إما إلى كتاب الله، وأما إلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأما إلى إجماع أهل العلم ؛فإن عاند : دعوته إلى المباهلة، كما دعا إليها ابن عباس في بعض مسائل الفرائض، وكما دعا إليها سفيان والأوزاعي، في مسألة رفع اليدين، وغيرهما من أهل العلم ؛ والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم
-المصدر : الدرر السّنية فى الأجوبة النجدية المجلد الأول - جمع العلّامة عبد الرّحمن بن محمد بن قاسم رحمه الله
new nike football boots 2012 2017 - 002 - Nike Air Max 270 ESS Ανδρικά Παπούτσια Γκρι / Λευκό DM2462 | nike cortez mens on feet women images 2017