سلك القرآن الكريم في الاستدلال على وجود الله
للدكتور علي بن محمد بن ناصر الفقيهي
عميد شئون المكتبات بالجامعة الاسلامية
ظاهرة الحياة:
يقول تعالى: {إِنَّ الله فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ الله فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} الأنعام آية 95.
من الدلائل على وجود الله تعالى ووحدانيته أفعاله تعالى التي لا يشاركه فيها أحد من القادرين، ومن تلك الأفعال الإحياء والإماتة، فإن الخلق عاجزون عنها، ذلك أن الله وحده هو القادر على ذلك دون سواه، يقول تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاة..} الملك آية 1،2.
ولم يدّع أحد من البشر أنه يستطيع ذلك، ولا عبرة بدعوى أبله بليد لا يعرف معنى الإحياء والإماتة، أو معاند مكابر يسلك سبل المغالطة لقومه، فيفسر لهم معنى الإحياء والإماتةّ بقتل أحد الرجلين وإطلاق سراح الآَخر، كما يذكر المفسرون ذلك عن نمرود إبراهيم عليه السلام الذي حاجه في ربه.
يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَالله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} البقرة آية258.
فحين ادعى ذلك المكابر تلك الدعوى التي يعلم إبراهيم عليه السلام كذبه فيها، عدل به إلى أَمر مشاهد للناس جميعاً، فطلب منه أن يتصرف فيه بغير المألوف والمعهود للناس، إن كانت لديه القدرة الكاملة كما يدعي، ذلك الأمر هو أن يأتي بالشمس من المغرب، إذ أن رب إبراهيم يأتي بها من المشرق، فبهت الكافر، ولم يحر جوابا، والله غالب على أمره، ومظهر دينه وناصر رسله، وقد عنى القرآن الكريم عناية خاصة بظاهرة الحياة فجعلها من الأدلة التي تنبه المخاطب الغافل عن التفكر في سر هذا الأمر العجيب الذي جعل سبباً في وجوده، ذلك أن الإنسان كان معدوماً ثم أَصبح إنساناً حياً يسير على هذه الأرض متمتعا بما أوجده له خالقه من نعم كثيرة على ظهرها، يشاهد نوع الحياة التي تدب فيه من أين جاءت وكيف سببها.
يقول الفخر الرازي: (ودليل الإحياء والإماتة دليل متين قوي، ذكره الله سبحانه في مواضع من كتابه كقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ}، وقوله:{لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}.
ويقول سيد قطب في تفسير الآَية: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّت.. الخ}: إنها المعجزة التي لا يدري سرها أحد، فضلا على أن يملك صنعها أحد،... وتقف البشرية بعد كل ما رأت من ظواهر الحياة وأشكالها، وبعد كل ما درست من خصائصها وأدوارها.. تقف أَمام السر المغيب كما وقف الإنسان الأول، تدرك الوظيفة والمظهر. وتجهل المصدر والجوهر، والحياة ماضية في طريقها... لقد عجزت كل محاولة لتفسير ظاهرة الحياة، على غير أساس أَنها من خلق الله... ومنذ أن شرد الناس من الكنيسة في أوربا.. {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} وهم يحاولون تفسير نشأة الكون وتفسير نشأة الحياة، بدون التجاء إلى الاعتراف بوجود الله.. ولكن هذه المحاولات كلها فشلت جميعا.. ولم تبق منها في القرن العشرين إلا مماحكات تدل على العناد، ولا تدل على الإخلاص، وأقوال بعض (علمائهم) الذين عجزوا عن تفسير وجود الحياة إلا بالاعتراف بالله، تصور حقيقة موقف (علمهم) نفسه من هذه القضية، ونحن نسوقها لمن لايزالون عندنا يقتاتون على فتات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من موائد الأوربيين، عازفين عن هذا الدين، لأنه يثبت ((الغيب)) وهم ((علميون))[1] لا ((غيبيون)).
والمؤمنون الصادقون في إيمانهم، الذين يؤمنون بالله يكفيهم في ذلك ما قاله خالقهم عن خلق هذه الحياة، وما شاهدوه في الواقع أمامهم، من تكرر خلق الحياة كل لحظة، لأن عقولهم الفطرية لم تلوث بشكوك المرتابين وأباطيلهم.
وأما أولئك الذين أصابتهم لوثة الشك، فلا يؤمنون إلا (بالعلم) فمن المناسب أن ينقل لهم بعض أقوال هؤلاء العلماء الذين عجزوا عن تفسير الحياة إلا أن تكون من صنع خالق قادر هو (الله) سبحانه وتعالى.
وفي ذلك يقول: (ايرفنج وليام نوبلوس) أخصائي الحياة البرية في الولايات المتحدة، وأَستاذ العلوم الطبيعية في جامعة ميشجان، تحت عنوان -المـادة وحدها لا تكفي- (إن العلوم لا تستطيع أن تفسر لنا كيف نشأت تلك الدقائق الصغيرة المتناهية في صغرها، والتي لا يحصيها عد، وهي التي تتكون منها جميع المواد، كما لا تستطيع العلوم أن تفسر لنا بالاعتماد على فكرة المصادفة وحدها كيف تتجمع هذه الدقائق الصغيرة لكي تكون الحياة. ولا شك أن النظرية التي تدعي أن جميع صور الحياة الراقية قد وصلت إلى حالتها الراهنة من الرقي بسبب حدوث بعض الطفرات العشوائية والتجمعات والهجائن نقول إن هذه النظرية لا يمكن الأخذ بها إلا عن طريق التسليم، فهي لا تقوم على أساس المنطق والإقناع)[2].
ويقول مؤلف كتاب (مصير البشرية) (ليكونت ديونوي): (... نكرر القول هنا بأنه لا توجد حقيقة واحدة في يومنا هذا تقدم تفسيرا قاطعاً لمولد الحياة وتطور الطبيعة، ولقد درسنا مسألة أصل الحياة، وسواء أردنا أَم لم نرد، فإننا مضطرون إلى أَن نقبل فكرة تدخل قوة سامية يدعوها العلماء أيضا (الله) (عكس الصدفة) أو أن نعترف ببساطة بأننا لا نعلم شيئاً عن هذه الأمور سوى بعض الآَيات، وهذه ليست مسألة اعتقاد فحسب، ولكنها حقيقة علمية لا نزاع فيها، ولسنا من أولئك المـاديين العريقين الذين يتمسكون بآرائهم واعتقاداتهم رغم كونها سلبية بدون أي برهان)[3].
وقد أورد الشيخ نديم الجسر في كتابه (قصة الإيمان) بعض آيات من كتاب الله، تحدثت عن خلق الحياة وتكونها من - الطين اللازب والماء- ثم أورد بعض ما قاله العلماء حول تكون الحياة، ونحن بدورنا نقتطف بعضاً من ذلك:
-الآيات- قوله تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} وقوله تعالى: {وَالله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ..}
وقوله تعالى- {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} هذا بعض ما جاء في القرآن الكريم عن تكون خلق الحياة وأنه بقدرة الله تكون من الماء والطين[4].
والعلماء قالوا كما جاء في القرآن بتكون الحياة من الماء والطين. ثم وقفوا على عتبة باب الخفاء من سرها حائرينْ، وقد عرفوا الشيء الكثير من فروعها وأصولها، وعناصرها وطبائعها.. وعلموا أن جميع الأحياء تتألف من خلايا وأن الخلية تتكون من النطفة الأولى (بروتوبلاسما) وعلموا أن هذه النطفة الأولى مكونة من الكربون والأكسجين، والهيدروجين والنتروجين ... وجربوا أن يخلقوا الحياة في شيء فعجزوا.... ثم اعترفوا كما ذكر القرآن باستحالة خلق ذبابة.ْ
يقول (توماس اكيوناس)-: (ما من عالم عرف حتى اليوم حقيقة ذبابة..).
ويقول (روجر باكون)-: (إنه لا يوجد عالم من علماء الطبيعة يستطيع أن يعرف كل شيء عن طبيعة ذبابة واحدة) ويقول: (بخنز)-:(إن الكرية ذاتها على بساطتها ذات بناء وتركيب يمنع معه صدورها من الجماد مباشرة بل إن ظهورها من الجماد ليعد في نظر العلم معجزة ليست أقل بعدا عن العقل من ظهور الأحياء العلياء من الجماد مباشرة).
وفي القرآن يقول الله للناس: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ..} الحج آية 73.
إن العقول السليمة تتلاقى على الحق، وكلما ازدادت علما كـان تلاقيها على الحق أيسر وأقرب. ومن أجل هذا رأينا العلماء بعد ذلك الإنتكاس المـادي الذي اعترى بعضهم في أواخر القرن التاسع عشر يرجعون إلى التلاقي على الحق ويكادون يجمعون اليوم إجماعا بلسان أكابرهم على أن هذه القوانين والنواميس، التي نشأت على أساسها الحياة وتطورت تنطوي على وحدة القصد، والإرادة والعناية والحـكمة يستحيل معها العقل السليم المفكر أن يؤمن بأن هذه الحياة خلقت وتطورت بالمصادفة العمياء.
فهذا اللورد كلفن العالم الإنجليزي يعلن هذا الإيمان على الناس، ويسخر من القائلين بالمصادفة في خلق هذه الحياة ويعجب من إغضاء بعض العلماء عما في آثار الحكمة والنظام من حجة دامغة وبرهان قاطع على وجود الله ووحدانيته، حيث يقول: "يتعذر على الإنسان أن يتصور بداية الحياة واستمرارها دون أن تكَون هنالك قوة خالقة مسيطرة وإني أعتقد من صميم نفسي أن بعض العلماء في أبحاثهم الفلسفية عن الحيوان، قد أغضوا إغضاء عظيما مفرطـا عما في نظام هذا الكون من حجة دامغة. فإن لدينا فيما حولنا براهين قوية قاطعة على وجود نظام مدبر وخير، وهي براهين تدلنا بواسطة الطبيعة على ما فيها من أثر إرادة حرة، وتعلمنا أن جميع الأشياء (الحية) تعتمد على خـالق واحد أحدي أبدي".
ويقول- انشتين- "إن جوهر الشعور الديني. في صميمه. هو أن نعلم بأن ذلك الذي لاسبيل لمعرفة كنه ذاته موجود حـقا، ويتجلى بأسمى آيات الحكمة، وأبهى أنوار الجمال ...وإنني لا أستطيع أن أتصور عالمـا حقا لا يدرك أن المبادئ الصحيحة لعالم الوجود مبنية على حكمة تجعلها مفهومة عند العقل، فالعلم بلا إيمان يمشي مشية الأعرج، والإيمان بلا علم يتلمس تلمس الأعمى"أ.5 هـ[5].
المبحث الثاني: ((دليل العناية)):
المتأمل في هذا العالم المترابط الأجزاء يجد فيه الدلالة الواضحة على قدرة خالقه، وكمال علمه وحكمته وحسن لطفه وعنايته بالعالم كله إذ الرعاية شاملة لكل أفراده، والعلم محيط بَكـل جزئياته.
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} الأنعام آية 59.
{...وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ..} فـاطر آية 11.
فالناظر بعين البصيرة في هذا العالم كله: علويه، وسفليه. كبيره، وصغيره، يـجد فيه العناية التامة به أولا، وبمن خلق الله له هذه الموجودات وسخرها له ثانيا، فالسماوات وأفلاكها والأرض ومحتويـاتها، خلقت بـالحق، وبه حفظت، كما قـال تعالى: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ} الأحقاف آية 3 .
وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} الأنبياء آية 16.
فإذا تأمل الإنسان بفكره وعقله في بعض جزئيات هذا العالم المسخر لمصالحه والتي عليها استقرار حياته، كفاه ذلك دليلاً واضحا. وحجة بينة على أن هذا العالم مخلوق لخالق، حكيم قدير عليم قد قدر هذا العالم، فأحسن تقديره. ونظمه فأتقن تنظيمه.
فمن تلك الجزئيات، الشمس، وما تضمنته من مصالح عليها قوام حياة الناس وأحوالهم، وحياة المخلوقات جميعا، من حيوان ونبات، فإن الناظر فيها يلمس كمال العناية. واللطف من الله تعالى والرحمة بهذا الإنسان.
تعاقب الليل والنهار: وأول ما ينتج عن طلوع الشمس وغروبها، تعاقب الليل والنهار، واللذان هما من أعجب آيات الله، و بدائع مصنوعاته، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لله الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} سورة فصلت آية 37.
فلولا تسخير العليم القدير لها لتعطل أمر العالم، إذ كيف يتصرف الناس، ويسعون لكسب معاشهم، وطلب أرزاقهم، إذا لم يكن هناك ضياء يبصرون به، ثم كيف يكون لهم قرار وهدوء تستريح به أبدانهم. ويستعيدون فيه قواهم، إذا لم يكن هناك ليل يسكنون فيه. فنعمة الليل والنهار الناتجين عن طلوع الشمس وغروبها من أعظم آيات اللطيف الخبير، الذي جعل تلك الشمس المشرقة للناس بمنزلة السراج يرفع لأهل البيت، زمناً لقضاء حوائجهم، ثم يغيب عنهم مثل ذلك الزمن، ليهدءوا ويستريحوا تماما كما هدي الإنسان لإيقاد مصباحه عند الحاجة إليه، وإطفائه بعد قضائها. وقد نبه الله عباده إلى تلك العناية والرحمة به، في جعله الليل والنهار متعاقبين، ليتمكنوا من طب المعاش والسعي في تحصيل الرزق في النهار المبصر، والهدوء والراحة في لباس الليل الهادئ. وبين أن ذلك التصريف الحكيم حاصل بأمره وتقديره، ومشيئته وإرادته. يقول تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ}.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ}.
{وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} القصص آية 71_73.
أي لعلكم تشكرون نعمة الله وإحسانه إليكم، ولطفه وعنايته بكم، في جعله الليل والنهار متعاقبين، على الدوام والاستمرار؛ وقد خص آية الليل بحاسة السمع لقوة سلطانها في هدوء الليل، إذ تسكن فيه الحركات، كما خص آية النهار بالبصر لشدة إدراكه المبصرات فيه، هذه المخلوقات التي هي السماوات وأفلاكها، والأرض ومحتوياتها جميعها مسخرة بأمر خـالقها محفوظة بعنايته المستمرة في كـل لحظة فهو الخالق لكل شيء، الآمر له بما أراد، القائم بحفظه، كما قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ} الأعراف آية 54 وقال تعالى: {الله لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} البقرة آية 255.
فهو قيوم السماوات والأرضين، فلا قيام لهما ولا استقرار إلا به سبحانه وتعالى – كما قال تعالى: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} فاطر آية 41.
الإنسان:
ومع أن رعاية الله وعنايته، سبحانه وتعالى، شاملة للعالم كله، والإنسان جزء من هذا العالم. إلا أنه قد خصه الله بمزيد من تلك العناية والرعاية، فقد هيأ له كل احتياجاته الروحية منها، والجسمية:
فمن الناحية الروحية:
تعهده بإرسال رسله، وإنزال كتبه، المشتملة على الهدى والنور، ففيها طمأنينة قلبه، وإشباع روحه، وهدوء نفسه. حيث تضعه في الخط المستقيم الواضح، الذي يصـله بربه وخالقه، كما بينت له السبل المتفرقة المضلة التي تؤدي به إلى ما يمزق كيانه، ويشتت أمره، بحيث تجعله كـالعبد المملوك لشركاء يتشاكسون فيه، يجره أحدهم ذات اليمين، والآخر ذات الشمال، أو كالحيران الذي استهوته الشياطين، فأضلته عن سبيل الهدى حتى لا يدري إلى أين يسير، يقول تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ الله مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} الأنعام آية 71.
وذلك كله من كمال رحمته بعباده فإن رحمته جل شأنه تمنع إهمال عباده وعدم تعريفهم ما ينالون به غاية كمالهم، واسمه الرحمن متضمن لإرسال الرسل، وإنزال الكتب. أعظم من تضمنه، إنزال الغيث، وإنبات الكلأ، وإخراج الحب.
فاقتضاء الرحمة لمـا تحصل به حياة القلوب والأرواح، أعظم من اقتضائها لمـا تحصل به حياة الأبدان والأشباح[6].
أما من الناحية الجسمية:
فقد خلق له مـا في الأرض جميعاً، وسخر له ما في السماوات والأرض، وكان من عنايته أن أوجده في المكـان الموافق لحياته[7]، فالأرض التي وجد عليها، وهي المكان الذي اختاره الله ليكون مقرا لهذا الإنسان، قد زودها بكل مستلزمات الحياة، من ماء وهواء، وتربة صالحة للزرع والبناء وغير ذلك. فهي المهاد، والفراش، والمسكن الذي أعده الله بكل احتياجات البشر الضرورية، منها وغير الضرورية، ففيها الغذاء والدواء، والمشرب، والملبس، والمركب، يقول تعالى في معرض الامتنان على عباده بما أسداه إليهم من النعم التي لا تحصى: {الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ الله لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} إبراهيم الآية 33_34.
الحر والبرد:
اقتضت الحكمة الإلهية والعناية الربانية، تعاقب الحر والبرد، لما في ذلك من مصالح للبلاد والعباد، وقد ربط السميع العليم ذلك بتصريف الشمس وتقدير مطالعها في منازلها المختلفة منزلة بعد أخرى، وبسبب ذلك التنقل الذي قدره الله تحدث تلك الفصول المتعاقبة فيظهر البرد، وبظهوره تختفي الحرارة، وتبرد الظواهر، فيكون ذلك سبباً لاستكشاف الهواء، فيحصل السحاب والمطر الذي به حياة الأرض ومن عليها، ويعقب نزول المطر إخراج النبات من الأرض رزقـا للعباد، كما قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ، رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} سورة ق آية 9_11.
فمن عنايته بعباده ورحمته بهم إخراج تلك الأقوات والثمار، والحبوب، والفواكه متعاقبة متلاحقة شيئاً بعد شيء، ولم يخلقها سبحانه وتعالى جملة واحدة، فإنها لو خلقت كذلك، على وجه الأرض لفاتت المصالح التي رتبت على تلاحقها.
ومن كمال عنايته ورحمته دخول فصل الحر الذي به يحصل نضج تلك الثمار واستواؤها ولولا تقديره سبحانه وتعالى لذلك وتيسيره لبقيت فجة غير صالحة لأكل ولا ادخار؛ كل ذلك حاصل بتقدير من الحكيم العليم الذي عاقب بها تلك الفصول، التي يقتضي كل فصل منها من الفواكه، والنبات مالا يقتضيه الفصل الآخر، فهذا حار، وهذا بارد، وهذا معتدل، وكل نوع في فصل موافق للمصلحة التي خلق من أجلها؛ كما أن من رحمته أن جعل في دخول أحدهما -الحر والبرد- على الآخر بتدرج، إذ جعل سبحانه بين الحر الشديد، والبرد القارس، برزخا ينتقل فيه الحيوان، على ترتيب وتمهل، لطفا به، ورحمة لضعفه لأنه لو انتقل دفعة واحدة، من الحر الشديد، إلى البرد القارس، لعظم ضرره، وأشتد أذاه؛
وفي ذلك حكمة بالغة، وآية باهرة، ولولا العناية الإلهية، والحكمة الربانية، والرحمة والإحسان لمـا كان ذلك؛ وهل يمكن أن يقال: إن هذا التقدير والتدبير حادث بالاتفاق والمصادفة؟ أو أنه صادر من فاعل مختار قدر ذلك وأراده؟ فلو قال قائل إن السبب في ذلك التدرج والمهلة، إنما كان لإبطاء سير الشمس في ارتفاعها إلى مستوى خط الاستواء مثلا ثم انخفاضها عنه.
قيل له فما السبب في ذلك الانخفاض والارتفاع؟ ولو قال إن السبب في ذلك هو بعد المسافة بين مشارقها ومغاربها. لتوجه السؤال أيضا عن السبب في بعد المسافة؟.
ولا تزال الأسئلة متوجهة. كلما عين سبباً حتى تفضي به إلى أحد أمرين:
- إما مكابرة ظاهرة ودعوى أن ذلك حاصل بالاتفاق من غير مدبر ولا صانع.
- وإما الاعتراف برب العالمين، والإقرار بقيوم السماوات والأرضين، وأنه الفاعل المختار المقدر لذلك: إذ ليس بين الأمرين واسطة، إلا هوس الشياطين وخيالات المبطلين، التي إذا طلع الفجر عليها فجر الهدى كانت في أول المنهزمين والله متم نوره ولو كره الكافرون[8].
معرفة الحساب:
ولما كانت حاجة الناس إلى معرفة الحساب من الأمور الضرورية التي لا غناء لهم عن معرفتها، فبالحساب يعرفون مواقيت الديون المؤجلة، والإِجارات، وعقود المعاملات على اختلاف أنواعها، كما أن به تعرف العدد، وتحدد مواعيد المعاهدات، والعبادات، وغير ذلك لأن معرفة هذه الأمور ضرورية لحياة الناس ومعاملاتهم، وهي قائمة على معرفة الحساب. الذي ربطه السميع العليم بهذين القمرين النيرين:
الشمس والقمر، قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} البقرة آية 189.
فخلق الله تعالى للقمر من عجائب آياته الدالة على عنايته بعباده، إذ يًُبديه الله تعالى كالخيط دقيقاً، ثم يتزايد نوره شيئاً فشيئاً كل ليلة إلى أن يصير بدراً، ثم يأخذ الاستدارة في النقصان حتى يعود[9] كالعرجون القديم، كما قال تعالى:{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} يس آية 39.
فيتميز بذلك عدد الأشهر والسنين، ويقوم حساب العالم، فبالشمس تعرف الأيام وبسير القمر في منازله تعرف الشهور والأعوام، لأنه لو كان الزمن نسقاً واحداً متساوياً سرمداً، لمـا عرف شيء من ذلك، وقد نبه الله عباده إلى ذلك حيث يقول: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ الله ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} يونس آية ه.
ويقول: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} الإسراء آية 12.
المبحث الثالث- دليل النظام:
النظام، والإتقان والتقدير في هذا العالم، شامل لجميع مخلوقات الله كلها، ذلك أن الكون منظم ومنسق، وانتظامه مرتبط بإرادة الله وقدرته، كما أن استمراره على هذه الحال منوط باختيار الله تعالى ومشيئته.
قال تعالى: {صُنْعَ الله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء}النمل آية 88.
وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} الفرقان آية 2.
وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} القمر آية 49.
فلا عبث إذن ولا فوضى، وإنما هو نظام وإتقان وتقدير وتدبير، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} ص آية 27.
وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} المؤمنون آية 115
تعالى الله عن ظن الكافرين علواً كبيرا.
وقد بين الله في القرآن الكريم دقة هذا النظام الكوني، الذي جعله خالقه أية من آياته الدالة على وجوده، وقدرته، وعلى علمه وحكمته، وإتقان مصنوعاته، فقال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} يس الآية 37-40.
ودليل النظام يعتمد على دليل الخلق، غير أنه يزيد عليه التوضيح والبيان لما في ذلك الخلق من إبداع، واختراع، وتنظيم، وإتقان، وما تدل عليه، هذه المخلوقات من قصد في إيجادها وحكمة في تسييرها وتدبيرها.
ودليل النظام من الأدلة التي يدركها العقل الإنساني ويرضاها بيسر وسهولة لأنه لا يحتاج في إدراك مدلوله إلى كد ذهن وإعمال فكر، وغوص في لجج الاستدلالات المنطقية الجافة، لأنه خطاب موجه ممن يعلم طبائع النفوس البشرية، فاقتضت حكمته الإلهية، أن يخاطب الناس كافة، بالدليل الأيسر، والأسهل والأوضح، والذي يزداد على مر الأيام وضوحاً، وكلما تقدمت وسائل العلم، وانكشفت أسرار النواميس الدالة على النظام[10] والإتقان، مصداقاً لقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَق} فصلت آية 53.
فلو نظر الإنسان في عالم الأفلاك والكواكب، لرأى عجائب الخلق متجلية، ودلائل النظام والإتقان واضحة، فهي تسير على نظام ثابت لا يختل، كل كوكب منها يسير في مدار لا يتعداه، وانتظام دورته في زمن معين لا يتجاوزه، واختصاص كل كوكب بوظيفة خاصة يؤديها حسب ما قدر له، كل ذلك بحساب دقيق مقدر لا يزيد ولا ينقص فحركتها دائبة من غير فتور ولا خلل وذلك بتقدير من العزيز العليم.
إن ذلك كله ينبئ عن دقة في الصنع، وإحكام في النظام، وتحديد للهدف المقصود. وقد أشارت الآية الكريمة إلى تلك الدقة المتناهية، حيث تقول: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، فسير الشمس والقمر بحساب دقيق جعل أحدهما لا ينبغي له أن يدرك الآخر، ولا يسبقه، لأنهما لم يوجدا بالاتفاق والمصادفة، وإنما وجدا بالقصد والإرادة والاختيار، وكان سيرهما وحركتهما بتقد ير العليم الحكيم.
يقول سيد قطب في تفسير الآية- {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ ِْ...} الخ
... ومشهد قدوم الليل، والنور يختفي، والظلمة تغشى .... مشهد مكرر يراه الناس في كل طبقة من خلال أربع وعشرين ساعة (فيما عدا بعض المواقع التي يدوم فيها النهار، كما يدوم فيها الليل أسابيع وأشهرا قرب القطبين في الشمال والجنوب، وهو مع تكراره اليومي عجيبة تدعوا إلى الأمل والتفكر، والشمس تجري لمستقر لها)..
وحين نتصور أن حجم هذه الشمس يبلغ نحو مليون ضعف لحجم أرضنا هذه، وأن هذه الكتلة الهائلة، تتحرك وتجري في الفضاء، لا يسندها شيء، تدرك طرفاً من صفة القدرة التي تصرف هذا الوجود، عن قوة وعن علم... ذلك تقدير العزيز العليم... إلى أن يقول... وأخيرا يقرر القرآن دقة النظام الكوني الذي يحكم هذه الأجرام الهائلة ويرتب الظواهر الناشئة عن نظامها الموحد الدقيق {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}.
ولكل نجم أو كوكب فلك أو مدار، لا يتجاوزه في جريانه، أو دورانه، والمسافات بين النجوم والكواكب مسافات هائلة، وقد قدر خالق هذا الكون الهائل أن تقوم هذه المسافات الهائلة بين مدارات النجوم والكواكب ووضع (تصميم)- تنظيم الكون على هذا النحو ليحفظه بمعرفته من التصادم والتصدع،- حتى يأتي الأجل المعلوم- فالشمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل يسبق النهار ولا يزحمه في طريقه لأن الدورة التي تجيء بالليل والنهار لا تختل أبداً فلا يسبق أحدهما الآخر في الجريان- {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ})[11].
ودورة الشمس والقمر والكواكب، ليست مضبوطة بالساعة، أو الدقيقة، وإنما هي مضبوطة بسرعة الضوء أو الشعاع، الذي قدرت سرعته بقطع، (168) ألف ميل في الثانية تقريباً[12] يؤيد ذلك ما نقله ابن القيم وأقره، من اتفاق أرباب الهيئة وعلمائها، من أن الشمس بقدر الأرض مائة[13] ونيفاً وستين مرة، والكواكب التي نراها كثير منها أصغرها بقدر الأرض قال: وبهذا يعرف ارتفاعا، وبعدها، وأنت ترى الكوكب كأنه لا يسير، وهو من أول جزء من طلوعه إلى تمام طلوعه يكون فلكة قد طَلعَ بقدر مسافة الأرض مائة مرة مثلا، وهكذا يسير على الدوام، والعبد غافل عنه وعن آياته[14].
المبحث الرابع- ((مسلك المتكلمين، والفلاسفة في إثبات وجود الله تعالى)):
بعد أن عرضنا مسلك القرآن الكريم في إثبات وجود الله تعالى، وهو الأصل في هذا البحث، ذلك أن معرفة الله تعالى، المعرفة الحقة وإثبات وحدانيته هما المطلب الأول، رأينا أن نذكر فكرة موجزة عن المسالك الأخرى في إثبات وجود الله تعالى، حتى يطلع القارئ على الفرق بين المسلكين، وسأتبع في ذلك مسلك الإيجاز، وسيكون كلامي هنا مختصراً لا إطناب فيه، إذ المقصود هو التمايز بين منهج القرآن الكريم وغيره من المناهج، لقول القائل: فبضدها تتميز الأشياء، فيدرك الفرق بينهما، ويتضح مسلك القرآن اتضاحاً كاملا، ويمتاز امتيازاً تاماً، ولأنه قد قيل أيضاً:
إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
ألم تر أن السيف ينقص قـدره
أولا- مسلك المتكلمين: يذهب جمهور المتكلمين[15] إلى إثبات وجود الله تعالى، عن طريق حدوث العالم، ذلك أن الحدوث عندهم هو العلة المحوجة إلى المؤثر، فإذا ثبت أن العالم حادث فلا بد له من محدث، يبرزه من حيز العدم إلى حيز الوجود، وهذه قضية بدهية عندهم، فمن رأى بيتاً مبنياً منسقاً علم أنْ له بانياً ضرورة، إلا أن بعض مشايخ المعتزلة يرون أن هذه القضية استدلالية، وليست بدهية[16] والواقع خلاف ما قالوا.
ولا شك أن القرآن الكريم، قد أشار في مسلك إثبات وجود الله تعالى إلى مسلك حدوث العالم أيضاً بالإِضافة إلى المسالك الأخرى التي أرشد إليها، ولكن الفرق بين المسلكين، مسلك المتكلمين، ومسلك القرآن هو في الطريق إلى معرفة كيفية إثبات هذا الحدوث. فبينما نجد القرآن الكريم يسلك بالمخاطبين سبيل الحس والمشاهدة، لإِدراك حدوث العالم، عن طريق حدوث أعيان الأشياء وتغييرها، كحدوث السحاب المسخر بين السماء والأرض، وكإنزال الماء من السماء، وإحياء الأرض بالنبات، {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} وكخلق السماء والأرض، والإبل، والإنسان نفسه، كما في هذه الآيات. التي يقول الله تعالى فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ الله مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} البقرة آية 164.
فقد جعل الله تعالى هذه الأعيان الحادثة، التي يدركها الإنسان إدراكاً مباشرا آيات ودلائل على وجود خالق ومحدث لها، حيث يقول جل شأنه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} كما أنها أشارت إلى حدوث الأعراض أيضا، فالرياح أعيان، وتصريفها وحركتها أعراض[17] لها، وكلاهما يدرك بالحس.
وقوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ} الغاشية آية 17.
وقوله: {فَلْيَنْظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ خُلِق،َ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} الطارق آية 5_6.
وقوله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} الطور آية 35.
فهذه المذكورات في هذه الآيات أَعيان حدثت بعد أن لم تكن، فدل وجودها بعد عدمها على أن لها موجداً، إذ لو كانت واجبة الوجود بنفسها لامتنع عليها العدم، هكذا يثبت القرآن الكريم حدوث العالم، ويبين تغيره المستمر، الذي لا يختص بمعرفته شخص دون آخر، إلى غير ذلك من الآيات التي تخاطب الناس بما يشاهدونه ويلمسونه في حياتهم اليومية، بل وفي أنفسهم.
ولهذا يقول أبو الحسن الأشعري: "إن الإنسان إذا فكر في خلقه من أي شيء ابتدأ، وكيف دار في أطوار الخلقة طوراً بعد طور، حتى وصل إلى كمال الخلقة، وعرف يقيناً أنه بذاته لم يكن ليدبر خلقته، وينقله من درجة إلى درجة، ويرقيه من نقص إلى كمال، علم بالضرورة، أن له صانعاَ قادراً عالماً مريداً، إذ لا يتصور حدوث هذه الأفعال المحكمة من طبع، لظهور آثار الاختيار في الفطرة، وتبين آثار الإحكام والإتقان في الخلقة، فله تعالى صفات دلت أفعاله عليها لا يمكن جحدها"[18].
ويؤكد ابن تيمية أن أَحسن استدلال وأوضحه على وجود الله تعالى، هو الاستدلال بخلق الإنسان نفسه، كما كرره القرآن، إذ هو الدليل وهو المستدل {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} الذاريات آية 21. ثم بما يحدثه الله في هذا العالم من آثار[19].
بينما نجد القرآن الكريم يسلك هذا المسلك، إذا بالمتكلمين يسلكون لإِثبات حدوث العالم طريقاً صعب المنال حتى على المتخصصين، فضَلاً عن الجمهور، وذلك لاصطلاحاتهم التي بنوا عليها حدوث العالم، فهم يقولون مثلاً: العالم جواهر وأعراض، وقد يستدل على إثبات الصانع بكل واحد منهما، إما بحدوثه أَو بإمكانه، والأعراض بعضها حادث بالمشاهدة، كالضوء بعد الظلمة والوجود بعد العدم والحركة بعد السكون، وبعضها بالدليل، وهذه الأعراض تقوم بالجواهر، فدل حدوثها على حدوث الجواهر.
فهذه المقدمات يصعب فهمها على الإِنسان.
فما الجوهر؟ وما العرض؟ مثلا. لقد اختلف المفكرون في تحديد كل منهما اختلافا بيناً.
فهل يمكن أن يدْرَك كل واحد منهما بالحس إدراكاً مباشراً، كما يدرك الإنسان حدوث أعيان السحاب والماء؟ وأعراض تصريف الرياح؟؟.
أو أنه يحتاج إلى الاستدلال على وجود الجواهر، وعلى تعلق الأعراض بها، إذ أنها لا تنفك عنها في نظرهم، ثم يقيم الدليل على حدوث الأعراض، ثم على حدوث الجواهر، لقيام الأعراض بها، ويثبت كل ذلك أولاً، فإذا ثبت له ذلك استدل على أن لها محدثاً ثانياً.
الواقع أنهم يذكرون هذه المقدمات، ليستدلوا بها على إثبات حدوث الجواهر، والجَوْهر المقصود به الذاتْ المتحيزة، مبني على نظرية الجواهر الفردة، وهو التي تقول: إن العالم مكون من ذرات، أَي من أجزاء لا تتجزأ، ثم من اجتماع تلك الذرات تتكون الأجسام، فالذي يحدث في الأجسام هو تجمعها[20]، والتجمع عرض.
أما حدوث الجواهر فيعلم بالاستدلال بحدوث تلك الأعراض، لا بمشاهدة حدوث الأعيان ذاتها، وذلك لأن الجواهر التي تكونت منها هذه الأجسام قبلت الاجتماع والافتراق، وما كانت صفته كذلك فهو حادث، على قولهم ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث.
ولكن هذه النتيجة غير مسلمة، بل يعترض عليها من يثبت الله تعالى صفات الأفعال الاختيارية الواردة في النصوص الشرعية من الكتاب والسنة فهي قضية مطعون فيها.
فكأن المستدل على وجود الله تعالى بحدوث العالم عن هذا الطريق يحتاج إلى ما يأتي:
أولاً: إلى إثبات الجواهر الفردة.
ثانياَ: إلى إثبات حدوثها.
ثالثاً: ثم الاستدلال بعد ذلك على أن لها محدثا.
وهكذا نرى أن طريقة المتكلمين في إثبات وجود الله تعالى، شاقة، وصعبة المنال حتى على المتخصصين فضلا عن الجمهور، مع الاعتراضات الموجهة إليها، والواردة عليها، ثم بطلان نظرية الجوهر الفرد علميا الآن، فالجوهر الفرد عندهم هو الجزء الذي لا يتجزأ، وقد أثبت العلم الحديث تجزأه، فدل ذلك على فساد النظرية، ثم إن هذه النظرية مأخوذة عن الماديين الطبيعيين، من فلاسفة اليونان ذلك أَن الواضع لنظرية (الجوهر الفرد) هو (ديمقريطي[21] 470 ق. م) الفيلسوف الذي قرر أن هذا العالم يتركب من جزئيات غاية في الصغر، وأنها لا نهاية لها، وهي (الجواهر الفردة)، ورأَى أن هذه الجواهر تتجمع، وتتفرق من تلقاء نفسها، وبواسطة حركة ذاتية فيها، فيتكون من اجتماعها الأجسام ومن تفرقها عدم الأجسام، وهذه الحركة لم تستمدها الجواهر من أية قوة أَخرى أو أصل آخر، وإنما من طبيعتها)[22]. وهذه نظرية من لا يؤمن بخالق لهذا الكون ومن فيه.
وقد أثبت العلم بطلان هذه النظرية، كما أثبت الشرع أن كل حركة لابد لها من محرك.
ثانياً- مسلك الفلاسفة:
أما الفلاسفة الإلهيون فلم يسلكوا في الاستدلال على وجود الله تعالى مسلك المتكلمين، وهو الاستدلال بالحادث على المحدث، أو بالصنعة على الصانع، وإنما سلكوا مسلكاً آخر، هو ما يسمى في عرف العلماء بدليل الإمكان، كي يثبتوا به الواجب.
فقد قالوا: إن الموجود لا يخلو من أن يكون واجبا أو ممكناً، والواجب ما كان وجوده من ذاته، والممكن ما كان وجوده من غيره، أي أنّ الممكن مالا يكون وجوده أولى من عدمه بحسب ذاته، وحينئذ فلا بد له من مؤثر يرجح جانب الوجود على جانب العدم، هذا المؤثر إما أن يكون واجب الوجود بذاته، أَو ممكن الوجود، فإن كان واجب الوجود بذاته ثبت وجود الواجب وهو المطلوب.
وإن كان ممكن الوجود احتاج إلى علة ترجح وجوده على عدمه، وتسلسل الممكنات إلى غير نهاية ممتنع، إذ لابد من الانتهاء إلى علة غير محتاجة إلى علة أخرى توجدها، هذه العلة عندهم هي (واجب الوجود) أي الله تعالى.
وفي ذلك يقول ابن سينا في كتابه: النجاة:
"لا شك أن هنا وجوداً، وكل وجود فإما واجب أَو ممكن، فإن كان واجباً فقد صح وجود الواجب وهو المطلوب.
وإن كان ممكناً فإنا نوضح أَن الممكن ينتهي وجوده إلى واجب الوجود... ثم ينهى ابن سينا سلسلة الممكنات إلى علة واجبة الوجود، إذ ليس لكل ممكن علة ممكنة بلا نهاية"[23].
ويقول في كتابه: الإشارات والتنبيهات، مشير إلى هذا المعنى:
"كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره فإما أن يكون بحيث يجب له الوجود في نفسه، أو لا يكون، فإن وجب فهو الحق بذاته الواجب الوجود من ذاته، وهو القيوم.
وإن لم يجب لم يجز أن يقال إنه ممتنع بذاته بعد ما فرض موجوداً، أي في قولنا كل موجود بل إن قرن باعتبار ذاته شرط مثل شرط عدم علته صار ممتنعاً، أو مثل وجود علته صار واجباً وإن لم يقرن بها شرط، لا حصول علة ولا عدمها بقي له في ذاته الأمر الثالث وهو الإمكان: فيكون باعتبار ذاته الشيء الذي لا يجب ولا يمتنع.
فكل موجود إما واجب الوجود بذاته.
أو ممكن الوجود بحسب ذاته"[24].
وعلى ذلك فالممكن في نظر الفلاسفة ليس وجوده من ذاته بل من غيره، فإن من الممكن في حد ذاته ليس وجوده بأولى من عدمه، فإذا وجد فلا بد أن يكون ذلك بمؤثر خارج عن ذاته، وفي ذلك يقول ابن سينا:
"ما حقه في نفسه الإمكان فليس يصير موجوداً من ذاته، فإنه ليس وجوده أولى من عدمه، من حيث هو ممكن، فإن صار أحدهما أولى فلحضور شيء أو غيبته"[25].
ولكن قد يقال: هذا الواجب بذاته الذي أَثبته ابنا سينا، والفارابي[26] من قبله، هل هو الله الخالق للعالم بقدرته ومشيئته واختياره، كما قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ الله وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} القصص آية 68.
وكما قال تعالى: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} الزمر آيـة 62.
الواقع أن فلاسفة الإسلام لم يثبتوا للعالم خالقا ومدبراً أوجد العالم بمشيئته واختياره، وإنما أثبتوا واجب وجود بذاته، هو- (الله) وجعلوه علة تامة، صدر عنها معلولها من غير اختيار ولا مشيئة، كصدور شعاع الشمس عنها.
أما خلق العالم وتدبيره، فقد أحالوه على العقول والأفلاك التي انفصلت عنه تعالى، عند تعقله لذاته، بدون اختياره ومشيئته، وبواسطة تلك العقول كان الخلق والتدبير، والإيجاد والإعدام.
أما الله -واجب الوجود-عندهم-، فلا صلة له بالعالم، لا من ناحية الخلق، فالخلق والتأثير إنما هو للعقول والأفلاك الناشئة عنه بطريق العلية، ولا من ناحية العلم فهو لا يعلم الجزئيات الكائنة في العالم، بل يعلم النظام العام للكون، ذلك لأن الجزئيات ناقصة، والله كامل، وعلم الكامل بالناقص ينقصه في نظرهم.
وبعد: فهذه نبذة عن بعض أراء الفلاسفة في إثبات وجود الله سبحانه وتعالى، وبعض صفاته.
والمتأمل فيها، مع ما سبق عرضه من كتاب الله تعالى في إثبات وجود الله سبحانه وتعالى، يدرك أن –الإله- الذي أَثبته الفلاسفة، هو غير -الإله- الذي جاء وصفه في كتاب الله تعالى-القرآن الكريم- من أنه الخالق، القادر، المدبر، الحافظ لهذا العالم بمشيئته واختياره، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، والقائل مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم:
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} البقرة آية 186.
وهو الذي علم عباده المؤمنين به أن يدعوه في السراء والضراء.
أما إله الفلاسفْة، فلا يعلم عن العالم شيئاًَ، لأنه لم يخلقه باختياره، ولذلك فهو لا يفكر فيه وإنما تفكيره في ذاته فلا يعقل سواها.
لأن واجب الوجود بذاته عندهم، عقل، وعاقل، ومعقول[27].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سيد قطب (في ظلال القرآن جـ 3/ص 311 و312 الطبعة الثانية سنة 1961 م دار إحياء التراث العربي بيروت -لبنان-.
[2] من كتاب اللّه يتجلى في عصر العلم ص 52، تأليف نخبة من العلماء الأمريكيين بمناسبة السنة الدولية لطبـيعيات الأرض ترجمة الدكتور الدمرداش عبد المجيد سرحان، الطبعة الثالثة سنة 1968 م الناشر مؤسسـة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع القاهرة.
[3] ليكونت ديونوي: مصير البشرية ص 130 ترجمة الأستاذ أحمد عزت طه، وعصام أحمد طه، مطابع فتى العرب شارع الفردوس-دمشق التاريخ بدون.
[4] الحياة في لغة المتكلمين عرض، والماء والطين جوهر، والعرض لا يقوم بنفسه واللّه القادر خلق آدم من طين. ثم نفخ فيه من روحه، فدبت فيه الحياة، وكذلك جعل نسله من ماء مهين، ثم يأخذ ذلك الماء أطوره التي تحدث عنها القرآن، وبينت السنة وقت وكيفية نفخ الروح في ذلك الجنين فندب فيه الحياة، وكلام الشيخ نديم الجسر عن الحياة هو كلام عن الخلق، والخلق أعم من الحياة، ولكنهما متلازمان إذ الحياة لا تقوم بنفسها، وإنما تقوم في ذلك المخلوق المكون من المـاء والطـين، وهذا الذكر يريده الشيخ لكلامه، واللّه أعلم.
[5] الشيخ نديم الجسر (قصة الإيمان ص 423_425) بتصرف الطبعة الثالثة سنة 1389 هـ 1969 م منشورات المكتب الإسلامي، بيروت.
[6]ابن القيم، مدارج السالكين جـ 1 ص 8 تحقيق محمد حامد فقي، الناشر دار الكتاب العربي بيروت لبنان، مطبعة السنة المحمدية سنة 1375 هـ 1956 هـ.
[7]ابن رشد الكف عن مناهج الأدلة ص 109_110 الطبعة الثالثة سنة 1388 هـ - 1368 م.
[8]ابن القيم مفتاح درا السعادة ج 1-1980-215 بتصرف.
[9]ابن القيم، مفتاح دار السعادة ج 1 ص 198 وابن كثير، التفسير ج 2 ص 407.
[10]الشيخ نديم الجسر، قصة الإيمان ص 281 بتصرف.
[11]سيد قطب، في ضلال القرآن ج 7 ص 25-26.
[12]الشيخ نديم الجسر، قصة الإيمان ص 304 ومحمد قطب منج التربية الإسلامية ص 94.
[13]قلت هذا التقدير حسب وسائلهم التي توصلوا بها إلى هذا التقدير وإلا فالعلماء اليوم يقدرون الحجم أكبر بكثير من ذلك، كما ذكر السيد قطب في النص الذي نقلناه عنه.
[14]ابن القيم مفتاح دار السعادة جـ 1 ص 198.
[15]وإنما قلت جمهور المتكلمين، لأن منهم من يستدل على وجود الله بإمكان العالم كالفلاسفة.
[16]الايجي، شرح المواقف ج 8 ص 3.
[17]ابن تيمية، النبوات ص 50.
[18] الشهرستاني، الملل والنحل جـ 1 ص94 طبعة دار الاتحاد العربي للطباعة سنة 1387 هـ - 1968 م الناشر مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع – القاهرة.
[19]ابن تيمية جـ 16 ص 262 الطبعة الأولى سنة 1382 هـ مطابع الرياض.
[20] ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان ص 79 ، 80.
[21] فيلسوف يوناني، وجد في القرن الخامس الميلادي، الدكتور محمد السيد نعيم والدكتور عوض اللّه جاد حجازي، في الفلسفة الإسلامية وصلاتها بالفلسفة اليونانية ص 31 الطبعة الثانية سنة 1379 هـ- 1959 م.
[22]أ.س رابويرت، مبادئ الفلسفة، ترجمة أحمد أمين ص 252، الناشر، دار الكتاب العربي بيروت سنة 1969 م.
[23]ابن سينا، النجاة ص 235 الطبعة الثانية سنة 1357 هـ - 1938 م.
[24] ابن سينا، الإشارات والتنبيهات ص 447 حـ 3، القسمان الثالث والرابع تحقيق د. سليمان دنيا، مطبعة دار المعارف بمصر سنة 1957 م.
[25]ابن سينا، الإشارات والتنبيهات ص 448 جـ 3.
[26]الدكتور محمد السيد نعيم، والدكتور عوض الله حجازي في الفلسفة الإسلامية، وصلاتها بالفلسفة اليونانية ص 220، الطبعة الثانية سنة 1389 هـ - 1959 م دار الطباعة المحمدية بالأزهر بالقاهرة.
[27]ابن سينا – النجاة ص 243.
nike shox mens australia women soccer players - White - DA8301 - 101 - Nike Air Force 1 '07 LX Women's Shoe | Nike Air Max 90 - Heren Schoenen - nike shox sneaker nz eu uk travel - DC2525 - 300