من عبد العزيز بن عبد الله بن باز ، إلى حضرة الأخ المكرم
سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد : [1]
فأشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم : 3137 ، في 11/7/1408هـ ، الذي نصه :
لقد كنا في حلقة تفسير في مسجد بمنطقة الصليبية في الكويت ، وقد تعرض إمام المسجد إلى تفسير قوله - تعالى - : {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}[2] فقال : قيل معناها : منة الله عليهم ، وقيل : قوة الله معهم ، وقيل : الله عليم بحالهم ونياتهم .
فتكلم أحد الشباب من إخواننا في الله بعد الدرس ، وقال : تفسيرك هذا ليس من عقيدة أهل السنة والجماعة ، بل هو من كلام الأشاعرة ؛ فغضب الإمام وقال : إن هذا موجود في كتاب الماوردي وابن كثير ، فرد الشاب وقال : ليس هذا في ابن كثير وإنما هو عند الماوردي الأشعري .
فلما رأى العامة الشيخ غضبان غضبوا له ، ورمى بعضهم الشاب بكلمة أنت مسيحي أنت بوذي، وكادوا أن يضربوه لولا أن بعضهم حماه .
والله يعلم أن هذا الشاب لم يتكلم إلا غيرة على عقيدة المسلمين ، ومن باب أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فأشار الشاب أن يقضي فضيلتكم بينهم ، فوافق العوام على ذلك ، فأفيدونا ، ونحن بانتظار ردكم - وجزاكم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء - .
الجواب : وأفيدك أن ما نعتقده في إثبات صفة اليد لله - تبارك وتعالى - وغيرها في الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه العزيز ، أو وصفه بها رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة هو : إثباتها لله - تبارك وتعالى - إثباتاً حقيقياً على ما يليق بجلال الله - سبحانه - من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل ، ونؤمن بأن الله ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير .
فلا ننفي عنه ما وصف به نفسه ، ولا نحرف الكلم عن مواضعه ، ولا نكيف ولا نمثل صفاته بصفات خلقه ؛ لأنه - سبحانه - لا سميَّ له ، ولا كفؤ له ولا ند له ، ولا يقاس بخلقه - سبحانه وتعالى - .
فكما أن له - سبحانه - ذاتاً حقيقية لا تشبه ذوات خلقه ، فكذلك له صفات حقيقية لا تشبه صفات خلقه ، ولا يلزم من إثبات الصفة للخالق - سبحانه - مشابهتها لصفة المخلوق ، وهذا هو مذهب سلف الأمة من الصحابة والتابعين ، ومن سار على نهجهم في القرون الثلاثة المفضلة ، ومن سلك سبيلهم من الخلف إلى يومنا هذا .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : (حكى غير واحد إجماع السلف : أن صفات الباري - جل وعلا - تجري على ظاهرها ، مع نفي الكيفية والتشبيه عنه ، وذلك أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ، يحتذى حذوه ويتبع فيه مثاله ؛ فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية ، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية ، فنقول : إن لله - سبحانه - يداً وسمعاً ، ولا نقول : إن معنى اليد القدرة ، ومعنى السمع العلم ) .
ثم استدل – رحمه الله – على إثبات صفة اليد لله - سبحانه - من القرآن بقول الله - سبحانه - : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}[3] ، وقال - تعالى - لإبليس : {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}[4] ، وقال - سبحانه - : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}[5] ، وقال - تعالى - : {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[6] ، وقال - تعالى - : {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[7] .
ثم قال – رحمه الله - تعالى - : (فالمفهوم من هذا الكلام : أن لله - تعالى - يدين مختصتين به ، ذاتيتين له كما يليق بجلاله ، وأنه - سبحانه - خلق آدم بيده دون الملائكة وإبليس ، وأنه - سبحانه - يقبض الأرض ويطوي السماوات بيده اليمنى ، وأن يديه مبسوطتان ، ومعنى بسطهما : بذل الجود وسعة العطاء ؛ لأن الإعطاء والجود في الغالب يكون ببسط اليد ومدّها ، وتركه يكون ضماً لليد على العنق ، كما قال - تعالى - : {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً}[8] ، وصار من الحقائق العرفية أنه إذا قيل هو مبسوط اليد فهم منه يد حقيقية).
وقال – رحمه الله - تعالى - : (إن لفظ اليدين بصيغة التثنية لم يستعمل في النعمة ولا في القدرة ؛ لأن استعمال لفظ الواحد في الاثنين أو الاثنين في الواحد لا أصل له في لغة العرب التي نزل بها القرآن ، فقوله : {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}[9] ، لا يجوز أن يراد به القدرة؛ لأن القدرة صفة واحدة ، ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد ، ولا يجوز أن يراد به النعمة ؛ لأن نعم الله لا تحصى ، فلا يجوز أن يعبر عن النعم التي لا تحصى بصيغة التثنية).
ثم استدل – رحمه الله - تعالى - على إثبات صفة اليد لله - سبحانه - من السنة بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن ؛ وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلوا))[10] . رواه مسلم ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ؟ فإنه لم يغض ما في يمينه ، والقسط بيده الأخرى يرفع ويخفض إلى يوم القيامة))[11] . رواه مسلم .
وفي الصحيح - أيضاً - عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ((تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة ، يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفؤ أحدكم بيده خبزته في السفر))[12] .
وفي الصحيح - أيضاً - عن ابن عمر – رضي الله عنهما – يحكي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ((يأخذ الرب - عز وجل - سماواته وأرضه بيديه ، وجعل يقبض يديه ويبسطهما ، ويقول : (أنا الرحمن)[13] ، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك أسفل منه، حتى أني أقول : أساقط هو برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟!)) وفي رواية أنه قرأ هذه الآية على المنبر : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[14] قال : ((يقول الله : أنا الله . أنا الجبار))[15] ، وذكره ، وفي الصحيح أيضاً عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ، ثم يقول : أنا الملك . أين ملوك الأرض ؟!))[16] . وفي حديث صحيح : ((أن الله لمَّا خلق آدم قال له ، ويداه مقبوضتان : (اختر أيهما شئت)[17] ، قال اخترت يمين ربي - وكلتا يدي ربي يمين مباركة - ثم بسطها ، فإذا فيها آدم وذريته)). وفي الصحيح : ((إن الله كتب بيده على نفسه لما خلق الخلق : إن رحمتي تغلب غضبي))[18] . وفي الصحيح : أنه لما تحاجَّ آدم وموسى ، قال آدم : ((يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده))، وقد قال موسى : ((أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه))[19] . وفي حديث آخر : أنه قال - سبحانه - : ((وعزتي وجلالي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي ، كمن قلت له كن فكان))[20] . وفي حديث آخر في السنن : ((لما خلق الله آدم ومسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته، فقال : خلقت هؤلاء للجنة ، وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره بيده الأخرى ، فقال : خلقت هؤلاء للنار ، وبعمل أهل النار يعملون))[21] .
قال شيخ الإسلام – رحمه الله - : فهذه الأحاديث وغيرها نصوص قاطعة لا تقبل التأويل ، وقد تلقتها الأمة بالقبول والتصديق .
ثم قال – رحمه الله - تعالى - : (فهل يجوز أن يملأ الكتاب والسنة من ذكر اليد ، وأن الله - تعالى - خلق بيده ، وأن يديه مبسوطتان ، وأن الملك بيده ، وفي الحديث ما لا يحصى ، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأولي الأمر لا يبينون للناس إن هذا الكلام لا يراد به حقيقته ولا ظاهره ، حتى ينشأ جهم بن صفوان - بعد انقراض عهد الصحابة - فيبين للناس ما نزل إليهم على نبيهم ، ويتبعه عليه بشر بن غياث ، ومن سلكوا سبيلهم من كل مغموص عليه بالنفاق ؟
وكيف يجوز أن يعلمنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - كل شيء حتى الخرأة ، ويقول: ((ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وحدثتكم به ، تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك))[22] ، ثم يترك الكتاب المنزل عليه وسنته الغراء مملوءة مما يزعم الخصم أن ظاهره تشبيه وتجسيم ، وإن اعتقاده ظاهره ضلال ، وهو لا يبين ذلك ولا يوضحه ؟
وكيف يجوز للسلف أن يقولوا : أمروها كما جاءت ، مع أن معناها المجازي هو المراد ، وهو شيء لا يفهمه العرب ، حتى يكون أبناء الفرس والروم أعلم بلغة العرب من أبناء المهاجرين والأنصار ؟! . أ . هـ . باختصار من مجموع الفتاوى ، ج6 ، ص : 351 إلى 373 .
وبما ذكرنا ، يتضح للجميع أن ما ذكره الشاب هو الصواب .
ونسأل الله أن يهدي الجميع لإصابة الحق في القول والعمل ؛ إنه سميع مجيب . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
من موقع فضيلة الشيح العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله .
[1] صدرت من مكتب سماحته برقم : 2823 / 2 ، في 17/9/1408هـ .
[2] سورة الفتح ، الآية 10 .
[3] سورة المائدة ، الآية 64 .
[4] سورة ص ، الآية 75 .
[5] سورة الزمر ، الآية 67 .
[6] سورة الملك ، الآية 1 .
[7] سورة آل عمران ، الآية 26 .
[8] سورة الإسراء ، الآية 29 .
[9] سورة ص ، الآية 75 .
[10] أخرجه مسلم في كتاب الإمارة ، باب فضيلة الإمام العادل ، برقم : 3406 .
[11] أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب التوحيد ، باب قوله - تعالى - : لما خلقت بيدي ، برقم :6862 ، ومسلم في كتاب الزكاة ، باب : الحث على النفقة وتبشير المنفق ، برقم : 1659 .
[12] أخرجه البخاري في كتاب الرقاق ، باب يقبض الله الأرض ، برقم : 6039 ، ومسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار ، باب نزل أهل الجنة ، برقم : 5000 .
[13] أخرجه مسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار ، برقم : 4996 .
[14] سورة الزمر ، الآية 67 .
[15] أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة ، مسند عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – برقم : 5157 .
[16] أخرجه البخاري في كتاب الرقاق ، باب يقبض الله الأرض يوم القيامة ، برقم : 6038 ، ومسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار ، برقم : 4994 .
[17] أخرجه الترمذي في سننه ، كتاب تفسير القرآن ، باب ومن سورة المعوذتين ، برقم : 3290 .
[18] أخرجه البخاري في كتاب التوحيد ، برقم : 6855 ، ومسلم في كتاب التوبة ، في سعة رحمة الله - تعالى - ، برقم : 4939 .
[19] أخرجه الإمام مسلم في كتاب القدر ، باب حجاج آدم وموسى - عليهما السلام – ، برقم : 4795 .
[20] تفسير ابن كثير ، ج3 ، ص : 52 .
[21] أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن ، باب ومن سورة الأعراف ، برقم : 3001 .
[22] أخرجه ابن ماجة في سننه ، كتاب المقدمة ، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين ، برقم : 43 .