دفاع عن الحديث النبوي و السيرة
و الرد على جهالات الدكتور البوطي في فقه السيرة
تأليف الشيخ المحدّث العلامة
محمد ناصر الدين الألباني –رحمه الله-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، و لا عدوان إلا على الظالمين، و الصلاة و السلام على نبينا محمد و آله و صحبه أجمعين، و التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فبين يديك أيها القارئ الكريم بحوث علمية حديثية، في نقد كتاب ((فقه السيرة)) للدكتور محمد سعيد البوطي الأستاذ في كلية الشريعة في جامعة دمشق، كان وضعه لطلاب السنة الثانية في الكلية، و كنت نشرت هذا النقد في مجلة التمدن الإسلامي الغراء بحوثاً متتابعة، رجوت منها أن يجد الطلاب و غيرهم فيها ((نموذجا صالحاً للنقد العلمي النزيه، القائم على البحث و الالتزام للقواعد العلمية الصحيحة، عسى أن يزيدهم ذلك عناية بدراسة الحديث الشريف دراسة علمية، و بذلك يحيون ما كاد يندرس من هذا العلم العظيم، بسبب اقتصار المدرسين و الأساتذة على تدريسه دراسة نظرية محضة، و إصدارهم على أساسها تأليفاتـهم التي يؤلفونَها لطلابهم أو لغيرهم، غير مراعين فيها أبسط تلك القواعد العلمية، من اختيار النصوص الصحيحة، و الأحاديث الثابتة، من المصادر الموثوقة و المراجع المعتمدة، مع العزو إليها، و تخريجها تخريجاً علمياً دقيقاً، فترى أحدهم – و هو أستاذ هذه المادة: الحديث – يورد حديثاً نبوياً، أو خبراً متعلقاً بسيرته عليه الصلاة و السلام أو أخلاقه؛ يقول في تخريجه: ((رواه أبو داود)) أو ((رواه ابن هشام في (السيرة)))!! و هو يظن أنه بذلك قد أدى الأمانة العلمية المطوقة في عنقه، و أنه نصح لطلابه! هيهات هيهات! فإن التزام المنهج العلمي المشار إليه في الدراسة الحديثية يوجب عليه قبل هذا التخريج المقتضب أن يدرس إسناد ذلك الحديث أو الخبر، و يتتبع رجاله، و يتعرف علله، و أقوال أهل الاختصاص فيه ثم يحكم عليه بما تقتضيه هذه الدراسة من صحة أو ضعف، ثم يقدم خلاصتها إلى طلابه مع التخريج المذكور، و إلا فمثل هذا التخريج المبتور الذي جرى عليه الأستاذ المشار إليه؛ مما لا يعجز عنه أحد من الطلاب أنفسهم إن شاء الله تعالى)).
ذلك ما كنت كتبته في مقدمة رسالتي ((نقد نصوص حديثية في الثقافة العامة))(1) للشيخ محمد منتصر الكتاني، و هو ينطبق على الدكتور البوطي تمام الانطباق بل إن هذا زاد على الشيخ فادعى لكتابه ((فقه السيرة)) من الصحة ما ليس له كما كنت أشرت إلى ذلك في التعليق على المقدمة المذكورة فقلت ما نصه: ((ثم وقفت على كتاب ((فقه السيرة)) للأستاذ الفاضل الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، فرأيته نحا فيه نحو الأستاذ الكتاني، فأورد فيه كثيرا من الأحاديث الضعيفة و المنكرة، بل و ما لا أصل له البتة، و لكنه زاد عليه فنص في المقدمة أنه اعتمد فيه على ما صح من الأحاديث و الأخبار! و لكن دراستي للكتاب بينت أنـها دعوى مجردة، و أن جل اعتماده كان على كتاب فضيلة الشيخ محمد الغزالي: ((فقه السيرة)) الذي لم يقتصر الدكتور على أن يأخذ اسمه فقط، بل زاد عليه فاستفاد منه كثيرا من بحوثه و نصوصه، بل و عناوينه! كما استفاد من تخريجي إياه المطبوع معه، مع اختصار له مخل، ليستر بذلك ما قد فعل، و قد انتقدني في ثلاث مواطن منه تمنيت – يشهد الله – أن يكون مصيباً و لو في واحد منها، و لكنه على العكس من ذلك، فقد كشف بذلك كله أن هذه الشهادات العالية، و ما يسمونه بـ (الدكتوراه) لا تعطي لصاحبها علماً و تحقيقاً و أدباً، و إني لأرجو أن تتاح لي الفرصة، لأتمكن من بيان هذا الإجمال و الله المستعان.
ثم أتيحت لي الفرصة، فبينت الإجمال المشار إليه في هذه الرسالة، التي يعود الفضل الأول في نشرها للسادة القائمين على مجلة التمدن الإسلامي الغراء، و بخاصة منهم الأستاذ أحمد مظهر العظمة شفاه الله و قواه، فقد نشرت فيها تباعاً في مقالات متسلسلة من العدد (7 – مجلد 42 – 2 – مجلد 44)، ثم أفردتـها في هذه الرسالة ليعم النفع بـها، و يطلع عليها من لم يتمكن من متابعتها في المجلة الغراء.
هذا و قد نمي إلي أن بعض الأساتذة رأى في ردي هذا على الدكتور شيئاً من الشدة و القسوة في بعض الأحيان، مما لا يعهدون مثله في سائر كتاباتي و ردودي العلمية، و تمنوا أنه لو كان رداً علمياً محضاً.
فأقول: إنني أعتقد اعتقاداً جازماً أنني لم أفعل إلا ما يجوز لي شرعاً، و أنه لا سبيل لمنصف إلى انتقادنا، كيف و الله عز و جل يقول في كتابه الكريم في وصف عباده المؤمنين: {و الذين إذا أصابـهم البغي هم ينتصرون * و جزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا و أصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين * و لمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل * إنما السبيل على الذين يظلمون الناس و يبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم * و لمن صبر و غفر إن ذلك من عزم الأمور}، فإن كل من يتتبع ما يكتبه الدكتور البوطي في كتبه و رسائله و يتحدث به في خطبه و مجالسه يجده لا يفتأ يتهجم فيها على السلفيين عامة، و علي من دونـهم خاصة، و يشهر بـهم بين العامة و الغوغاء، و يرميهم بالجهل و الضلال، و بالتبله و الجنون، و يلقبهم بـ (السلفيين)(2) و (السخفيين)!! و ليس هذا فقط، بل هو يحاول أن يثير الحكام ضدهم برميه إياهم بأنـهم عملاء للاستعمار. إلى غير ذلك من الأكاذيب و الترهات التي سجلها عليه الأستاذ محمد عيد عباسي في كتابه القيم ((بدعة التعصب المذهبي)) (ص 274 – 300) و غيرها، داعماً ذلك بذكر الكتاب و الصفحة التي جاءت فيها هذه الأكاذيب.
و من طاماته و افتراءاته قوله في ((فقه السيرة)) (ص 354 – الطبعة الثالثة) بعد أن نبزهم بلقب الوهابية: ((ضل أقوام لم تشعر أفئدتـهم بمحبة رسول الله صلى الله عليه و سلم و راحوا يستنكرون التوسل بذاته صلى الله عليه و سلم بعد وفاته)). و هذا كأنه اجترار من الدكتور لفرية ذلك المتعصب الجائر: ((إن هؤلاء الوهابيين تتقزز نفوسهم أو تشمئز حينما يذكر اسم محمد صلى الله عليه و سلم))(3).
و الدكتور حين يلفظ هذه الفرية يتذكر أن الواقع - الذي هو على علم به – يكذبـها فإن السلفيين و أمثالهم بفضل الله تعالى – من بين المسلمين جميعاً – شعارهم اتباعهم للنبي صلى الله عليه و سلم وحده دون سواه؛ و هو الدليل القاطع على حبهم الخالص له الذي لازمه حبهم لله عز و جل، كما قال: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}. و لعلم الدكتور بـهذا الفضل الإلهي على السلفيين حمله حقده عليهم أن يحاول إبطال دلالة الآية المذكورة على ما سلف، بل و على تضليل السلفيين مجدداً لفهمهم إياها هذا الفهم الواضح و أنـها تعني أن الاتباع دليل المحبة و أنـها لا تنفك عنه فقال (ص 195 – الطبعة الثالثة): ((و لقد ضل قوم حسبوا أن محبة رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس لها معنى إلا الاتباع و الاقتداء، و فاتـهم أن الاقتداء لا يأتي إلا بوازع و دافع، و لن تجد من وازع يحمل على الاتباع إلا المحبة القلبية …)).
و أقول: إن الذي ضل إنما هو الذي يناقض نفسه بنفسه من جهة، فأول كلامه ينقض آخره لأنه إذا كان لا يحمل على الاتباع إلا المحبة القلبية، و هو كذلك و هو الذي نعتقده و نعمل به فكيف يتفق هذا مع أول كلامه الصريح في أن المحبة لها معنى غير الاتباع؟! و لو كان الأمر كذلك و ثبت الدكتور عليه لأبطل دلالة الآية و العياذ بالله تعالى.
و من جهة أخرى فقد افترى علينا بقوله: ((و فاتـهم أن الاقتداء …)) الخ.
فلم يفتنا ذلك مطلقاً بحمد الله بل نعلم علم اليقين أنه كلما ازداد المسلم اتباعاً للنبي صلى الله عليه و سلم ازداد حباً له، و أنه كلما ازداد حباً له ازداد اتباعاً له صلى الله عليه و سلم، فهما أمران متلازمان كالإيمان و العمل الصالح تماماً.
فهذا الحب الصادق المقرون بالاتباع الخالص للنبي صلى الله عليه و سلم، هو الذي أراد الدكتور أن ينفيه عن السلفيين بفريته السابقة، فالله تعالى حسيبه، {و كفى بالله حسيبا}.
ذلك قليل من كثير من افتراءات الدكتور البوطي و ترهاته، الذي أشفق عليه ذلك البعض، أن قسونا عليه أحياناً في الرد، و لعله قد تبين لهم أننا كنا معذورين في ذلك، و أننا لم نستوف حقنا منه بعد،{و جزاء سيئة سيئة مثلها} و لكن لن نستطيع الاستيفاء، لأن الافتراء لا يجوز مقابلته بمثله؛ و كل الذي صنعته أنني بينت جهله في هذا العلم و تطفله عليه و مخالفته للعلماء، و افتراءه عليهم و على الأبرياء، بصورة رهيبة لا تكاد تصدق، فمن شاء أن يأخذ فكرة سريعة عن ذلك، فليرجع إلى فهرس الرسالة هذه ير العجب العجاب.
هذا، و هناك سبب أقوى استوجب القسوة المذكورة في الرد ينبغي على ذلك البعض المشفق على الدكتور أن يدركه، ألا و هو جلالة الموضوع و خطورته الذي خاض فيه الدكتور بغير علم، مع التبجح و الادعاء الفارغ الذي لم يسبق إليه، فصحح أحاديث و أخباراً كثيرة لم يقل بصحتها أحد، و ضعف أحاديث أخرى تعصباً للمذهب، و هي ثابتة عند أهل العلم بـهذا الفن و المشرب، مع جهله التام بمصطلح الحديث و تراجم رواته، و إعراضه عن الاستفادة من أهل العلم العارفين به، ففتح بذلك بابا خطيراً أمام الجهال و أهل الأهواء أن يصححوا من الأحاديث ما شاءوا، و يضعفوا ما أرادوا، ((و من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها و وزر من عمل بـها إلى يوم القيامة)).
و سبحان الله العظيم، إن الدكتور ما يفتأ يتهم السلفيين في جملة ما يتهمهم به بأنـهم يجتهدون في الفقه و إن لم يكونوا أهلا لذلك، فإذا به يقع فيما هو شر مما اتـهمهم به تحقيقاً منه للأثر السائر: ((من حفر بئراً لأخيه وقع فيه))! أم أن الدكتور يرى أن الاجتهاد في علم الحديث من غير المجتهد بل من جاهل يجوز، و إن كان هذا العلم يقوم عليه الفقه كله أو جله!!.
من أجل ذلك فإني أرى من الواجب على أولئك المشفقين على الدكتور أن ينصحوه (و الدين النصيحة) بأن يتراجع عن كل جهالاته و افتراءاته، و أن يمسك قلمه و لسانه عن الخوض في مثلها مرة أخرى، عملا بقول نبينا محمد صلى الله عليه و سلم: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً قيل: كيف أنصره ظالماً؟ قال: تحجزه عن الظلم فإن ذلك نصره)). أخرجه البخاري من حديث أنس، و مسلم من حديث جابر، و هو مخرج في ((الإرواء)) (2515).
فإن استجاب الدكتور فذلك ما نرجو، و (عفا الله عما سلف)، و إن كانت الأخرى فلا يلومن إلا نفسه، و العاقبة للمتقين، و صدق الله العظيم إذ يقول: {إنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتـهم و لهم اللعنة و لهم سوء الدار}.
و صلى الله على محمد النبي الأمي و على آله و صحبه و سلم.
دمشق في 27 جمادى الآخرة سنة 1397 هـ
محمد ناصر الدين الألباني
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد:
فهذه تعليقات سريعة على أحاديث كتاب ((فقه السيرة)) تأليف الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في جزأين، طبع دار الفكر الحديث في لبنان. قال في المقدمة: ((و بعد فهذه أبحاث في فقه السيرة النبوية، كنت ألقيتها محاضرات على طلاب السنة الأولى – و الثانية – بكلية الشريعة في جامعة دمشق)).
أقول: لقد كان من أقوى الحوافز على دراسة هذا الكتاب – مع ضيق الوقت -، و ضعف الرغبة في قراءة مؤلفات المعاصرين – أنني رأيت مؤلفه الفاضل يقول في مقدمة الجزء الثاني منه (ص 3): ((و لقد سلكت فيه الطريقة التي سلكتها في الجزء الأول فأفردت أبحاث السيرة على شكل نصوص، اعتمدت فيها أولاً على صحاح السنة، ثانياً على ما صح من أخبار السيرة في كتبها، و أهم ما اعتمدت عليه من ذلك سيرة ابن هشام، و طبقات ابن سعد)).
فلما قرأت هذا استبشرت خيراً، و قلت في نفسي: إذا صدق الخبرُ الخَبرَ فلا شك أن الدكتور بكتابه هذا يكون قد طرق باباً جديداً من التأليف في سيرة النبي صلى الله عليه و سلم، و هو اختيار الروايات التي صحت فيها من كتب الحديث و السيرة، و لازمه الإعراض عن ذكر ما لم يصح منها على طريقة علماء الحديث و نقاده.
و هذا أمر هام جداً، فإن ما ألف في السيرة النبوية الكريمة حتى الآن يعد بالألوف كما قال العلامة السيد سليمان الندوي في كتابه القيم ((الرسالة المحمدية))(4) (ص 65) و مع ذلك، فإنـي لا أعلم في كل ما ألف من ذلك، من نحا هذا المنحى من الاختيار الذي ذكر فضيلة الدكتور أنه سلكه في هذا الكتاب، و لطالما راودتني نفسي أن أسلك هذا السبيل فأضع كتاباً جامعاً تحت عنوان ((صحيح السيرة النبوية)) على نحو ما جريت عليه في ((صحيح سنن أبي داود)) و غيره مما أنا في سبيله الآن، و لكن الفرصة لم تسنح لي حتى هذه الساعة للقيام بمثل هذا الواجب، فلما قرأت عبارة الدكتور السابقة ظننت أنه قد قام بالواجب و تحقق الرجاء.
و كيف لا يكون ذلك واجباً، و سيرته صلى الله عليه و سلم إنما هي ((صورة للمثل الأعلى في كل شأن من شؤون الحياة الفاضلة، كي يجعل منها دستوراً يتمسك به و يسير عليه، و لا ريب أنه مهما بحث عن مثل أعلى في ناحية من نواحي الحياة، فإنه واجد كله في حياة رسول الله r على أعظم ما يكون الوضوح و الكمال.
و لذا جعله الله قدوة للإنسانية كلها فقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} - الأحزاب 21)) كما قال الدكتور في مقدمة كتابه (ص 7 – 8).
و لكن هل استطاع الدكتور أن يحقق الرجاء، أو على الأقل أن يحصر اعتماده فيما نقله من النصوص على ما صح منها في كتب السيرة، و دواوين السنة التي سماها ((صحاح السنة))؟ ذلك ما أريد بسط الكلام فيه الآن في هذه العجالة، راجياً المولى سبحانه و تعالى أن يسدد خطانا، و يلهمنا الصواب و الإخلاص في أقوالنا و أفعالنا.
1- لقد استرعى انتباهي قوله تحت عنوان ((مصادر السيرة النبوية)) (1/11):
((2- السنة النبوية الصحيحة:
و هي ما تضمنتها كتب أئمة الحديث المعروفين بصدقهم و أمانتهم، كالكتب الستة و موطأ الإمام مالك و مسند الإمام أحمد(5))).
فأقول: إن ما تضمنته الكتب المذكورة و غيرها – باستثناء الصحيحين – ليس كل ما فيها من الحديث صحيحاً. بل منه الصحيح، و الحسن و الضعيف، و في بعضها الموضوع أيضاً، كما هو معلوم عند أهل العلم بالحديث الشريف، و يأتـي قريباً ذكر بعض النصوص المؤيدة لذلك مما ذكروه في ((علم مصطلح الحديث)) و على ذلك فقول الدكتور في السنة الصحيحة: ((هي ما تضمنته كتب أئمة الحديث)) تعميم غير صحيح، و لقد وددت أن أقول لعله سبق قلم منه، و أنه لم يرد هذا العموم الظاهر منه، و المعروف بطلانه بداهة وددت ذلك، و لكني لم أجد في كلماته الأخرى، و في المنهج الذي جرى عليه عمليا، ما يساعدنـي على ذلك، فقد سبق قوله و هو يتحدث عن طريقته في الكتاب: ((اعتمدت فيها على صحاح السنة)) فقوله ((صحاح)) بصيغة الجمع بدل ((الصحيحين و السنن الأربعة)) – كما هو التعبير العلمي الصحيح – مما يشعر الباحث بأن الكتب التي تجمع الأحاديث الصحيحة فقط ليست محصورة عنده بـ ((الصحيحين)) من بين كتب السنة. و لا يقال أيضاً: ((لعله سبق قلم منه))، لأنني رأيته أعاد هذا القول ((صحاح السنة)) في مكان آخر من كتابه (ج1 ص 15)، و هو يعني بذلك الكتب الستة بل لعله يعني معها ((الموطأ)) و ((المسند))، فقد قرنـهما معها في هذه الكلمة التي نحن في صدد نقدها، و مما يؤيد ذلك قوله المتقدم: ((اعتمدت)) فيها أولاً على صحاح السنة، ثانياً على ما صح من أخبار السيرة. فهذا نص منه فيما ذكر لأنه صرح بأن أخبار السيرة فيها ما لا يصح، فاعتمد هو – بزعمه – على ما صح منها.
و لو كانت كتب السنة عنده مثل كتب السيرة في احتوائها على ما صح و ما لم يصح ما كان به حاجة إلى هذا التقسيم و التفريق: ((… صحاح السنة)) ((… ما صح من أخبار السيرة))! و لقال مثلاً: ((اعتمدت فيها على ما صح من كتب السنة و السيرة))، فهذا التفريق منه دليل قاطع على أنه يعني ما ذكرنا من أن السنة الصحيحة ليست مختصة بـ ((الصحيحين)) فقط! بل السنن الأربعة من صحاح السنة أيضا بزعمه! فهل الأمر كذلك؟ ذلك ما سأبينه قريباً، و لكني بياناً للحقيقة أقول: إن الدكتور ليس هو أول من أتـى بمثل هذا الإطلاق، بل هو مسبوق إليه فهذا هو العلامة سليمان الندوي يقول في كتابه ((الرسالة المحمدية)) ص 63: ((و من الكتب المصنفة في الحديث الكتب الستة الصحاح!)) و هذا الإطلاق شائع في الهند جداً، و سمعته كثيراً من بعض طلابـها في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة و من غيرهم أيضاً، ثم تبعهم على ذلك فضيلة الدكتور، و بنى كتابه على هذا الإطلاق فهل هو صحيح؟! و الجواب: لا، و هاك البيان:
إن هذا الإطلاق خطأ محض، ذلك لأنه يخالف الواقع في هذه الكتب ما عدا الصحيحين كما قرره العلماء بـهذا العلم في كتبهم، و لقد كان له آثار خطيرة في صرف المؤلفين المحدثين عن نقد الأحاديث الواردة فيها بزعم أنـها من الصحاح! و هذا ما وقع فيه الدكتور نفسه، فنجده يكتفي بعزو الحديث إلى بعض السنن، فلا فرق عنده بين حديث رواه البخاري أو مسلم، و بين آخر رواه أبو داود أو غيره من أصحاب السنن! مع أن الواجب النظر في أحاديث السنن لورود الأحاديث الضعيفة فيها، قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في ((التقريب)): ((و أما تقسيم البغوي أحاديث المصابيح إلى حسان و صحاح مريداً بـ ((الصحاح)) ما في الصحيحين و بـ ((الحسان)) ما في السنن فليس بصواب، لأن في السنن الصحيح و الحسن و الضعيف و المنكر)).
و قال السيوطي في شرحه: ((و من أطلق عليها الصحيح كقول السِّلفي في الكتب الخمسة (يعني الستة ما عدا ابن ماجة): ((اتفق على صحتها علماء المشرق و المغرب))، و كإطلاق الحاكم على الترمذي ((الجامع الصحيح)) و إطلاق الخطيب عليه و على النسائي اسم ((الصحيح)) فقد تساهل)) قال في ((ألفيته)):
يروي أبو داود أقوى ما وجد و النسئي من لم يكونوا اتفقوا
بالخمسة ابن ماجة، قيل: و من تساهل الذي عليها أطلقا
و دونـها مساند، و المعتلي ثم الضعيف حيث غيره فقد
تركاً له، و الآخرين ألحقوا ماز بـهم فإن فيهمو وهن
صحيحة، و الدارمي و المنتقى منها الذي لأحمد و الحنظلي
قلت: و لا أدل على بطلان هذا التقسيم و الإطلاق من كون الترمذي نفسه قد صرح في سننه بتضعيف عشرات بل مئات الأحاديث، و كشف عن عللها، فكيف يصح أن يوصف كتابه بـ ((الجامع الصحيح))، أو يحكم على كل حديث فيه بأنه حسن؟! و نحو هذا يقال في سنن أبي داود و سنن النسائـي، فإنـهما يتكلمان على بعض الأحاديث أحياناً، و يضعفانـها، و أما ما ضعفه العلماء من أحاديث الكتابين فحدث و لا حرج، و الأمثلة على ذلك كثيرة جداً، و من شاء الوقوف على طائفة منها فليراجع كتبنا: ((سلسلة الأحاديث الضعيفة و الموضوعة)) و ((تخريج مشكاة المصابيح)) و أخيراً كتابنا: ((نقد نصوص حديثية للشيخ منتصر الكتانـي)).
و أما ((الموطأ)) للإمام مالك، فهو مع جلالته، لا يخلو من كثير من الأحاديث المرسلة و المعضلة، و بعضها مما لم يوجد له أصل أصلاً كحديث ((إنـي لا أنسى و لكن أنسى))(6) و بعضها وجد له أصل عند بعض المحدثين و فيه الصحيح و الضعيف، فلا بد من التحري، و لذلك قال السيوطي في ((التدريب ص 54)): ((صرح الخطيب و غيره بأن الموطأ مقدم على كل كتاب من الجوامع و المسانيد فعلى هذا هو بعد ((صحيح الحاكم)) …و أحصيت ما في ((موطأ مالك)) و ما في ((حديث سفيان بن عيينة))، فوجدت في كل واحد منهما من المسند خمسمائة و نيف مسنداً، و ثلاثمائة مرسلاً و نيفاً، و فيه نيف و سبعون حديثاً، قد ترك مالك نفسه العمل بـها، و فيها أحاديث ضعيفة، وهَّاها جمهور العلماء)).
قلت: و هذا هو الصواب الذي يشهد به كل عارف بـهذا العلم، درس أحاديث الموطأ دراسة علمية عن كثب، و كل ما قد يقال على خلافه فهو مردود بشهادة الواقع و النقد العلمي الصحيح.
و أما مسند الإمام أحمد، فهو لغزارة مادته تكثر فيه الأحاديث الضعيفة، و هذا مما لا خلاف فيه عند أهل العلم. قال الحافظ العراقي: ((و أما وجود الضعيف فيه فهو محقق، بل فيه أحاديث موضوعة جمعتها في جزء))، ذكره السيوطي في كتابه (ص 100) ثم نقل عن الحافظ ابن حجر أنه رد في كتابه ((القول المسدد في الذب عن المسند)) قول من قال بأن في المسند أحاديث موضوعة.
قلت: فهذا موضع خلاف و بحث، و لشيخ الإسلام ابن تيمية فيه رأي وسط لا داعي لذكره الآن، و القصد بيان أن وجود الأحاديث الضعيفة في المسند أمر متفق عليه بين حفاظ الحديث، و قد كشف عن ذلك كشفاً عملياً دقيقاً العلامة أحمد شاكر فيما علقه على المسند الجديد في طبعته، رحمه الله تعالى و جزاه خيراً.
2- قوله: ((اعتمدت فيها أولاً على صحاح السنة)).
أقول: سبق بيان خطأ هذا الإطلاق ((صحاح السنة)) على الكتب الستة و الموطأ و المسند التي اعتمد عليها فضيلة الدكتور.
فأريد أن أبين الآن حقيقة أخرى ظهرت لي من تتبعي لأحاديث الكتاب و هي:
إن مجموع أحاديث الكتاب بجزأيه ما عدا أحاديث ((الصحيحين)) أحد عشر حديثاً! اثنان منهما في الجزء الأول، و البقية في الجزء الآخر، لمالك منها حديث واحد فقط لا غير مع أنه عزاه للبخاري فهذا يغنيه عن عزوه إليه في مثل كتابه! و لأحمد ثلاثة! اثنان منها ضعيفان أحدهما لا وجود له عنده في مسنده مع ضعفه! و البقية لأصحاب السنن منها اثنان ضعيفان، أحدهما للترمذي، و الآخر لأبي داود فهذا العدد الضئيل بالنسبة لحجم الكتاب، مع أن ثلثه ضعيف، هل يستحق التقدمة له بـهذا القول: ((اعتمدت فيها على صحاح السنة))؟!.
فإن كل من يقرأ هذا في المقدمة يتوهم أن الكتاب غني المادة من أحاديث هذه الكتب، و عند التحقيق لا يجد فيها إلا هذا العدد المحدود!
و أما الأحاديث الضعيفة الأربعة فهي:
الأول: قال ص 216: ((و قال له بعض الصحابة: يا رسول الله ادع الله على ثقيف، فقال اللهم اهد ثقيفاً و أت بـهم. رواه ابن سعد في ((الطبقات))، و أخرجه الترمذي في سننه، و قد رواه ابن سعد عن عاصم الكنانـي عن الأشهب عن الحسن))
و علة الحديث عنعنة أبي الزبير عند الترمذي، و قد كنت خرجته في تخريج ((فقه السيرة)) للغزالي (ص 432 الطبعة الرابعة) فلا أعيد القول في تخريجه.
و نأخذ على الدكتور في تخريجه لهذا الحديث أموراً:
أولاً: عزوه لابن سعد بعد الترمذي يوهم أنه لم يخرجه من هو أعلى طبقة منه، و ممن اعتمدهم في كتابه، و ليس كذلك، فقد أخرجه أحمد و لكن إسناده منقطع، كما بينته في المصدر السابق.
ثانياً: كان ينبغي أن يذكر في تخريجه إياه قول الترمذي في ((حسن صحيح))، لأنه أقوى لتخريجه، و لعله لم يذكر ذلك اعتماداً منه على أن مجرد العزو للترمذي كاف لتصحيحه لكونه من ((الصحاح)) عنده! نقول هذا تنبيها على الطريقة الفضلى في التخريج و إن كنت لا أوافق الترمذي على قوله هذا للعلة السابقة الذكر في إسناده.
ثالثاً: قوله: ((رواه ابن سعد في الطبقات … و قد رواه ابن سعد …)) تكرار مخل في التصنيف، لا سيما و هو في التعليق الذي لا يحتمل التطويل فضلا عن التكرير!
رابعاً: قوله: ((و قد رواه ابن سعد عن عاصم الكلابي عن الأشهب عن الحسن)). خطأ صوابه كما في أول ((غزوة رسول الله صلى الله عليه و سلم للطائف)) من ((طبقات ابن سعد)) (2/159 – طبع بيروت): و عن عمرو بن عاصم الكلابي أخبرنا أبو الأشهب، أخبرنا الحسن)).
خامساً: إن هذا الإسناد عند ابن سعد ليس لهذا اللفظ من الحديث بل هو بلفظ: ((إن الله لم يأذن في ثقيف)). و أما لفظ الترجمة فهو عنده قبيل هذا بدون إسناد، فلا فائدة حينئذ من العزو إليه.
سادساً: هو باللفظ الآخر ضعيف أيضاً، لأنه مرسل، و المرسل من قسم الضعيف عند أهل الحديث، لا سيما إذا كان من مراسيل الحسن و هو البصري، فقد قال فيها بعض الأئمة: ((مرسلات الحسن البصري كالريح!)).
الحديث الثاني: قال (ص 232): ((روى الإمام أحمد و غيره أن الرجلين و الثلاثة كانوا يتعاقبون على بعير واحد، و أصابـهم عطش شديد، حتى جعلوا ينحرون إبلهم لينفضوا أكراشها و يشربوا ماءها. رواه ابن سعد في طبقاته 3/220)).
قلت: فيه أولاً: أن إطلاق العزو لأحمد يفيد اصطلاحاً ((مسنده)) و هذا الحديث ليس فيه، و لذلك لم يورده الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) و لو كان فيه لأورده لأنه على شرطه، و قال الحافظ السيوطي في ((الدر المنثور)) (3/286): ((و أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و البيهقي في ((الدلائل)) عن عبد الله بن محمد بن عقيل(7) بن أبي طالب في قوله: {الذين اتبعوه ساعة العسرة} قال …)) فذكره، فلو كان الحديث في ((مسند أحمد)) لم يدع العزو إليه، إلى عزوه إلى هؤلاء الذين هم دونه، و إن مما يبعد كونه عنده أنه مرسل، فإن ابن عقيل هذا تابعي على ضعف فيه، قال الحافظ في ((التقريب)): ((صدوق، في حديثه لين، و يقال تغير بآخره من الرابعة))، و ((المسند)) خاص بالموصول من الحديث كما هو معلوم.
و الدكتور قلد في هذا الإطلاق فضيلة الشيخ محمد الغزالي، فهو سلفه فيه في كتابه ((فقه السيرة)) (ص 440)، الذي لم يتورع فضيلة الدكتور من أن يطلق هذا الاسم على كتابه أيضاً، و قد استفاد من تخريجنا إياه، دون أن يشير إلى ذلك كله أدنى إشارة!! و قد كنت بيضت لهذا الحديث حين خرجت كتاب الغزالي، لأني لم أجده في ((المسند))، و أقول الآن:
إن الحديث أورده الحافظ ابن كثير في ((البداية)) فقال (5/9): ((قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر أخبرنا عبد الله بن محمد بن عقيل في قوله: {الذين اتبعوه ساعة العسرة} قال:)) فذكره، و رواه ابن سعد (172 – طبع بيروت) من طريق أخرى عن معمر به.
و لا يقال: فما بال الحافظ ابن كثير قد أطلق العزو أيضاً؟ لأننا نقول: لما ساق الحافظ الحديث بإسناده و هو مرسل، كان ذلك قرينة على أنه لا يعني ((مسنده)) لما سبق بيانه.
ثم ساق الحافظ من طريق سعيد بن أبي هلال عن عتبة بن أبي عتبة عن نافع بن جبير عن عبد الله بن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب حدثنا عن ساعة العسرة، فقال عمر: فذكره بنحوه دون الآية. و قال ((إسناده جيد)).
قلت: و فيه عندي نظر، لأن عتبة هذا أورده الحافظ في ((اللسان)) و قال: ((له عن عكرمة و لا يتابع عليه قاله العقيلي))، و وافقه الحافظ على ذلك. لكن لعله قد وثقه ابن حبان أو توبع عليه فقد قال الهيثمي في هذا الحديث (6/195):
((رواه البزار و الطبراني في ((الأوسط))، و رجال البزار ثقات)).
قلت: و فيه علة أخرى، و هي ابن أبي هلال، قال أحمد: كان اختلط. نعم يمكن أن يقال: إن الحديث قوي بمجموع الطريقين، و الله أعلم.
و قد رواه ابن حبان في ((صحيحه)) كما في ((موارد الظمآن)) (1707)، لكن سقط من إسناده عتبة المذكور، فلينتبه.
الحديث الثالث: قال (ص 259): ((و روى خبر المصالحة على الجزية (يعني مع وفد نجران) أبو داود في كتاب الخراج باب أخذ الجزية)).
قلت: في إسناده أسباط بن نصر الهمداني و هو ضعيف لسوء حفظه، قال الحافظ في ((التقريب)): ((صدوق كثير الخطأ)).
و من طريق أبي داود أخرجه الضياء المقدسي في ((الأحاديث المختارة مما ليس في (صحيح البخاري) و (صحيح مسلم))) (58/187/1) فاقتضى التنبيه.
الحديث الرابع: قال (ص 261) و قد ذكر حديث إسلام عدي بن حاتم مفصلاً: ((رواه ابن إسحاق، و الإمام أحمد و البغوي في معجمه بألفاظ متقاربة و انظر الإصابة للحافظ ابن حجر: 2/461)).
قلت: رجعت إلى ((الإصابة)) فرأيته قال: ((و روى أحمد و البغوي في ((معجمه)) و غيرهما من طريق أبي عبيدة بن حذيفة قال: كنت أحدث حديث عدي بن حاتم، فقلت: هذا عدي في ناحية الكوفة فأتيته فقال …)) قلت: فذكره بنحو سياق كتاب الدكتور و أخصر منه، ثم رجعت إلى ((مسند أحمد)) فوجدت الحديث فيه (4/378 و 379) من الوجه المذكور، و أبو عبيدة هذا لم يوثقه أحد غير ابن حبان، و هو لين التوثيق، و لذلك لم يعتمده الحافظ في ((التقريب))، فقال فيه: ((مقبول)) يعني عند المتابعة، و إلا فلين الحديث، كما نص عليه في المقدمة، و لما كان الحديث لا يعرف إلا من طريقه فهو ضعيف، لا سيما و هو في ((الصحيح)) مختصر بغير هذا السياق كما يأتي.
و أما ابن إسحاق فأورده (4/227 – ابن هشام) بدون إسناد، فلا فائدة من عزو الدكتور إليه، لأن ابن إسحاق لو ساق الحديث بالسند إلى النبي صلى الله عليه و سلم، و لم يصرح بسماعه إياه من شيخه الذي رواه عنه، لم يقبل منه لأنه كان مدلساً، و لذلك ترى العلماء المحققين العارفين بـهذا الشأن يعللون مئات الأحاديث بعنعنة ابن إسحاق و غيره من المدلسين، فكيف يقبل حديثه إذا أعضله و لم يسق إسناده؟! و لست أدري إذا كان هذا مما خفي على الدكتور، أم تجاهله لضرورة التأليف! فقد رأيته أكثر من مثل هذا العزو الذي لا فائدة فيه، و قد مضى بعض الأمثلة منه.
نعم قد أخرج البخاري في ((المناقب)) من ((صحيحه)) من طريق أخرى عن عدي آخر الحديث بنحوه، و الذي يتلخص من هذا الفصل أن الدكتور، لم يكن الصواب حليفه حين أطلق: ((صحاح السنة)) على غير الصحيحين من الكتب المتقدمة، و أننا أثبتنا له ضعف أربعة أحاديث من أصل أحد عشر حديثاً عزاها إليها! فكيف يكون الحال لو أن عددها كان بلغ المائة أو المئات؟ لا شك أن نسبة الضعف فيها سيرتفع بنسبة الزيادة فيها!
و إذا كان هذا حال أحاديثه التي نقلها من ((الصحاح)) بزعمه فكيف يكون حال الأحاديث الأخرى التي نقلها من كتب السيرة، و قد أشار إلى أن في هذه الكتب ما لا يصح، و صرح أنه إنما اعتمد على ما صح من الأخبار فيها؟ ذلك ما أريد تحقيقه في الفصل التالي إن شاء الله تعالى.
3- و قال الدكتور فيما تقدم: ((ثانياً: [ اعتمدت ] على ما صح من أخبار السيرة في كتبها، و أهم ما اعتمدت عليه من ذلك سيرة ابن هشام، و طبقات ابن سعد)).
قلت: كم كنت مغتبطاً لو أن الدكتور كان صادقاً في قوله هذا، و قبل أن أبين ما فيه، أتوجه إلى فضيلته إن سمح بالسؤال الآتي: ما هي القواعد و الأصول التي استندت إليها حين حكمت بالصحة على الأخبار التي أوردتـها في الكتاب؟ فإن كانت هي أصولاً أنت وحدك وضعتها و اصطلحت عليها، فتفضل ببيانـها لننظر فيها و نبين لك بطلانـها، مع ما في ذلك من خروجك عن اتباع الأئمة، الأمر الذي تنكر ما دونه على غيرك ممن يتبع الدليل عند اختلافهم، فما بالك خالفتهم جميعاً؟! و إن كانت هي القواعد المعروفة في علم الحديث الشريف، فاسمح لي أن أقول لك بصراحة: إنك بين أمرين:
- إما أنك على علم بـها، و لكنك لم تلتزمها، بل لم تلتفت إليها إطلاقاً لتنظر هل تنطبق على الأخبار المشار إليها أم لا؟.
- و إما أنك لا علم عندك بـها أصلاً، و استميح القراء عذراً بـهذا المصارحة لأنني تألمت على هذا العلم كل الألم أن يتعدى عليه مثل الدكتور تعدياً لا أعرف له مثيلاً فيما علمت، عشرات الأخبار لا يمكن أن تكون صحيحة على وفق القواعد العلمية، و مع ذلك يقدمها إلى الطلاب على أنـها أخبار صحيحة، فإلى الله المشتكى، و إليك الأخبار التي عزاها إلى بعض المصادر التي ذكرها في كلمته السابقة صراحة و إشارة مما لا يصح إسناده، و أما الأخبار التي أطلقها و لم يعزها إلى أحد، فلم أجد فائدة كبرى في إضاعة الوقت باستقصائها و بيان ما لا يصح منها فأقول:
الخبر الأول: قال (1/36): ((قال عليه السلام فيما يرويه عن نفسه: ((ما هممت بشيء مما كانوا في الجاهلية يعملونه غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني و بينه، ثم ما هممت به حتى أكرمني الله بالرسالة، قلت ليلة للغلام الذي يرعى معي بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة و أسمر بـها كما يسمر الشباب، فقال: أفعل، فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفاً، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: عرس، فجلست أسمع، فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا حر الشمس … ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك، و دخلت مكة مثل أول ليلة، ثم ما همت(8) بعده بسوء)).
رواه ابن الأثير، و رواه الحاكم عن علي ابن أبي طالب، و قال عنه صحيح على شرط مسلم، و رواه الطبراني من حديث عمار بن ياسر)).
قلت: هذا الحديث ضعيف، و اغترار الدكتور بتصحيح الحاكم له على شرط مسلم مما يدل على أنه لا علم عنده بتساهل الحاكم في التصحيح في كتابه ((المستدرك)) كما هو معلوم لدى المشتغلين بـهذا العلم الشريف، و كتب المصطلح طافحة بالتنبيه على ذلك قال السيوطي في ألفيته:
((و كم بـه تسـاهـل حـتى ورد فـيه منـاكر و موضـوع يرد))
و لذلك و ضع عليه الحافظ الذهبي كتابه ((التلخيص)) و تعقبه في مئات الأحاديث الموضوعة التي رواها الحاكم في ((المستدرك))، على أنه يشايعه أحياناً على تصحيح بعض الأحاديث و يكون قد نص في بعض كتبه الأخرى على ضعفها.
و لهذا الإسناد علتان شرحتهما في ((تخريج فقه السيرة للغزالي)) (ص 32 – 33) و نقلت هناك عن الحافظ ابن كثير أنه قال: ((و هذا حديث غريب جداً، و قد يكون عن علي نفسه يعني موقوفاً عليه))، و أما حديث الطبراني عن عمار ففيه جماعة لا يعرفون كما قال الهيثمي في ((المجمع))، و ذكرته في ((التخريج)) المذكور(9) و الدكتور عافانا الله تعالى و إياه، قد وقف عليه، و منه لخص تخريجه للحديث إلا قوله: ((رواه ابن الأثير)) فهو من عنده و يعني من تاريخه، و أنا أترفع عن مثل هذا العزو، لأنه ليس من شيمة المحققين الاعتماد على الأخبار المرسلة و المعضلة التي ترسل إرسالاً بدون إسناد، لا سيما إذا كان مثل هذا الحديث الذي لا يتفق مع كماله r و عصمته، على الرغم مما وجهه به حضرة الدكتور (ص 39 – 40) و تأوله به، فإن التأويل فرع التصحيح، و نحن بحاجة أن نسد بعض الثغرات التي ينفذ منها المغرضون على اختلاف مذاهبهم بالنقد العلمي الحديثي الصحيح، فإذا لم يصح الحديث فلا مبرر حينئذ للتأويل اتفاقاً.
الثاني: قال (1/60): ((و لذا روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال بعد نزول الآية: لا أشك و لا أسأل. رواه ابن كثير عن قتادة))!
كذا قال الدكتور المسكين: ((رواه ابن كثير))! و متى كان ابن كثير راوية؟ فإن قول المرء: رواه فلان، معناه عند العلماء بإسناده، و لذلك لا يجوز عندهم أن يقال: ((رواه البخاري)) في حديث عنده لم يسق إسناده، بل يقول إشارة إلى ذلك: ((رواه البخاري معلقاً))، ففي قول الدكتور هذا إيهام للقارئ الذي لا علم عنده بطريقة ذكر ابن كثير للحديث أنه رواه بإسناده! فالصواب أن يقال: ((قال ابن كثير: قال قتادة: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال)). فذكره لأنه هو الذي قاله ابن كثير، و لا إيهام فيه، بل فيه التصريح بأن قتادة بلغه الحديث و لم يسمعه من أحد من الصحابة فهو مرسل، فهو ضعيف.
و قد أخرجه ابن جرير في ((تفسيره)) (11/116) من طريقين عن قتادة، فهو ثابت عنه مرسلاً.
نعم قد روي موصولاً، فأخرجه ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و الضياء في ((المختارة)) عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك}: لم يشك رسول الله r ولم يسأل. ذكره في ((الدر المنثور)).
قلت: و هذا مع كونه يختلف بعض الشيء عن مرسل قتادة، فإن في هذا إخباراً من ابن عباس أن النبي r لم يشك ولم يسأل، و في المرسل أن النبي صلى الله عليه و سلم قال عن نفسه: ((لا أشك و لا أسأل)). أقول: مع هذا الاختلاف في اللفظ، فإني لا أدري حال إسناد هذا الموصول، و إن مما يؤسف له، أن المصادر التي عزي الحديث إليها لا يوجد شيء منها مطبوعاً و لا مخطوطاً، اللهم إلا ((المختارة)) للضياء المقدسي، فيوجد منها مجلدات بخط المؤلف رحمه الله تعالى، لا تزال محفوظة في المكتبة الظاهرية المحروسة، و هي مرتبة على مسانيد الصحابة، فرجعت إلى مسند ابن عباس منه البالغ عدد صفحاته نحو (460) فمررت عليها كلها باحثاً عن هذا الحديث، فلم أعثر عليه مع الأسف الشديد، و لعله قد أودعه على هامش بعض الصفحات التي كان يستدرك عليها ما قد فاته، و يكتبها بخط دقيق، أو في بعض الورقات المستدركة و الضائعة.
نعم وجدت فيه (61/266/1) حديثاً آخر، يرويه من طريق أبي داود و هذا في ((سننه)) (2/331) بإسناد جيد عن ابن عباس، من رواية أبي زميل قال: ((سألت ابن عباس فقلت: ما شئ أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قلت: و الله لا أتكلم به! قال: فقل لي: أشيء من شك؟ قال: و ضحك، قال: ما نجا من ذلك أحد، حتى أنزل الله عز و جل) فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك (الآية، فقال لي: إذا و جدت في نفسك شيئاً فقل {هو الأول و الآخر و الظاهر و الباطن و هو بكل شيء عليم}))، و هذا كما ترى غير الحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه، و أستبعد جداً أن يكون السيوطي عناه فيما عزاه للضياء، و الله أعلم.
الثالث: قال (1/97 – 98): ((وفد إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أول وفد من خارج مكة … و كانوا بضعة و ثلاثين رجلاً من نصارى الحبشة جاءوا مع جعفر بن أبي طالب … فنـزل في حقهم قوله تعالى: {الذي آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون…} رواه ابن إسحاق و مقاتل و الطبراني عن سعيد بن جبير، و انظر ابن كثير و القرطبي و النيسابوري)).
قلت: هذه مراسيل كلها، و ليس فيها شيء مسند، و ابن إسحاق لما رواه في السيرة (2/32 – ابن هشام) علقه تعليقاً، و لم يذكر له إسناداً و الروايات على إرسالها مختلفة أشد الاختلاف في تعيين من نزلت الآيات المذكورة في حقهم، وفي عددهم كما تراه في بعض المصادر التي أمر الدكتور بالرجوع إليها مثل تفسير القرطبي (13/296) و خير منه في هذا ((الدر المنثور)) للسيوطي (5/131 – 133)، و رواية الطبراني عن سعيد بن جبير لم يذكرها الهيثمي في ((المجمع)) (7/88)، فالله أعلم بصحة هذا العزو! و قد رواها ابن أبي حاتم عن سعيد كما في ((الدر))، و هي مع كونـها مرسلة فهي مغايرة لرواية الكتاب، و هذه الحقيقة لابن إسحاق، لكن عنده أن عددهم عشرون رجلاً! ثم إن من الغريب أن يجزم الدكتور بأن الآيات المذكورة نزلت في حق أولئك الأحباش، و يعزو ذلك لابن إسحاق، مع أن هذا لم يجزم بذلك فقد قال قبل قوله: ((فنـزل في حقهم …)): ((و يقال: إن النفر من النصارى من أهل نجران، فالله أعلم أي ذلك كان)).
ثم هو لم يجزم أيضاً – خلافاً للدكتور! – بأن الآيات نزلت فيهم ، فقد أتبع قوله السابق بقوله:
((فيقال – و الله أعلم – فيهم نزلت هؤلاء الآيات {الذين آتيناهم الكتاب …})) و هكذا ذكره ابن كثير في ((تفسيره)) عن ابن إسحاق!
فكيف استجاز الدكتور الجزم أولاً بأن الآيات نزلت في أولئك الأشخاص و ليس في ذلك إسناد صحيح؟! و ثانياً كيف ينسب ذلك إلى ابن إسحاق و هو قد شك في ذلك و لم يجزم؟! أهكذا يكون صنيع من يقول: ((اعتمدت على ما صح من أخبار السيرة)). أفهذا و ذاك و ما يأتي مما صح.. يا فضيلة الدكتور؟! فإلى الله المشتكى من هذا الجهل الفاضح بالأصل الثاني من الشرع، و لا حول و لا قوة إلا بالله.
الرابع: قال (1/101) بعد أن ذكر وفاة خديجة و عمه أبي طالب في العام العاشر من بعثته صلى الله عليه و سلم: ((و لقد أطلق النبي r على هذا العام اسم (عام الحزن) لشدة ما كابد فيه من الشدائد في سبيل الدعوة)).
قلت: من أي مصدر من المصادر الموثوقة أخذ الدكتور هذا الخبر، و هل إسناده – إن كان له إسناد – مما تقوم به الحجة؟! فإني بعد مزيد البحث عنه لم أقف عليه، و إنما أورده الشيخ الغزالي في كتابه ((فقه السيرة)) بدون عزو، و لعل الدكتور قلده في ذلك مع أن الغزالي حفظه الله تعالى لم يدع ما ادعاه الدكتور: ((أنه اعتمد على ((صحاح السنة)) و ((على ما صح من أخبار كتب السيرة))! فلا يرد عليه ما يرد على الدكتور، و إن كان من المنهج العلمي الصحيح يوجب الاعتماد على ما صح من الأخبار، و إلا فعلى الأقل ذكر الخبر مع المصدر الذي يمكن الباحث من التحقق منه، و هذا ما يصنعه المحققون من أهل العلم بطرق التخريج و النقد، مثل الحافظ ابن كثير و غيره، خلافاً للدكتور و أمثاله من المؤلفين النقلة القمَّاشين الجمَّاعين، فهو مع جزمه بصحة هذا الخبر بقوله: ((و لقد أطلق …)) لا يذكر على الأقل مصدره! فمن أين عرف صحته؟! إذن هذه الصحة و غيرها مجرد دعوى أو هوى من الدكتور ليس إلا.
و مما يدل على ذلك أن المصدر الوحيد الذي رأيته قد أورده إنما هو القسطلاني في ((المواهب اللدنية)) فلم يزد على قوله: ((فيما ذكره صاعد))! و صاعد هذا هو ابن عبيد العجلي كما قال الزرقاني في شرحه عليه (1/244)، فما حال صاعد هذا؟ إنه مجهول لا يعرف، و لم يوثقه أحد، بل أشار الحافظ إلى أنه لين الحديث إذا لم يتابع، كما هو حاله في هذا الخبر! على أن قول القسطلاني: ((ذكره صاعد)) يشعر أنه ذكره معلقاً بدون إسناد فيكون معضلاً، فيكون الخبر ضعيفاً لا يصح، حتى و لو كان صاعد معروفاً بالثقة و الحفظ، و هيهات هيهات.
الخامس: ذكر (1/105 – 107) قصة ذهابه صلى الله عليه و سلم إلى الطائف و دعوته لثقيف، و شجهم رأسه الشريف بالحجارة، و دعائه صلى الله عليه و سلم: ((اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، و قلة حيلتي و هواني على الناس …)) و قصته مع عداس النصراني، و انكباب عداس عليه r يقبل رأسه و يديه و قدميه. و ذكر مصدراً لها ((طبقات ابن سعد، و تـهذيب السيرة لابن هشام))!
قلت: أما ((الطبقات)) فلم يذكر من القصة كلها إلا أحرفاً يسيرة! و مع ذلك فهو عنده (1/211 – 212) من قول محمد بن عمر بغير إسناد! و غالب الظن أن الدكتور لا يعلم أن ابن عمر هذا هو الواقدي المتروك كما يأتي.
و أما ((تـهذيب السيرة)) فقد ذكره (2/60) من طريق ابن إسحاق بإسناد له مرسل، إلا الدعاء فلم يسق له سنداً، فقد قال: ((فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال – فيما ذكر لي -: اللهم …)).
و قد أخرج القصة باختصار – وفيه الدعاء – الطبراني بإسناده عن ابن إسحاق بسنده عن عبد الله بن جعفر، و ابن إسحاق مدلس و قد عنعنه؛ و لذلك ضعفت الحديث في ((تخريج الفقه)) (ص 132) و الدكتور على علم بذلك، فلا هو يستفيد من مثل هذا التحقيق هناك، و لا هو يأتي بما ينافيه، لينظر فيه، و إنما يكتفي بمجرد العزو للمصدرين السابقين و هو يعلم أن فيهما ما لا يصح، ثم هو يزعم أنه اعتمد على ما صح فيهما!!
السادس: قال (1/101): ((يقول ابن هشام: و دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم بيته، والتراب على رأسه، فقامت إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب و هي تبكي، و رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لها: لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك)).
قلت: أخرجه ابن هشام في ((السيرة)) (2/58) من طريق ابن إسحاق بسنده الصحيح عن عروة بن الزبير قال: فذكره، و عروة تابعي لم يدرك الحادثة، فهو مرسل، و المرسل من أقسام الحديث الضعيف عند المحدثين، و لعل الدكتور يعلم ذلك! فلا يكون الخبر حينئذ مما صح عنده! فلماذا أورده و ليس على شرطه؟! أو لعله يظن أن عروة صحابي كأخيه عبد الله بن الزبير! و ما ذلك ببعيد عن معرفته بـهذا العلم الشريف! و منه تصديره إياه بقوله: ((يقول ابن هشام))، فإن هذا إنما يقال عند أهل العلم فيما كان معلقا بدون إسناد، كما سأبينه في الحديث الآتي، و الواقع هنا أن ابن هشام قد ذكر إسناده كما رأيت، فالتصدير المذكور خطأ واضح، و الصواب: ((روى ابن هشام)) و روى ابن سعد، و هكذا.
الحديث السابع: قال (1/124): ((يقول ابن سعد في طبقاته ج1 ص 200 و 201: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يوافي الموسم كل عام يتبع الحاج … و يقول: يا أيـها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، و تملكوا العرب و تذل لكم العجم، و إذا آمنتم كنتم ملوكاً في الجنة، و أبو لهب وراءه يقول: لا تطيعوه …)).
قلت:
فيه أولاً: أن تصديره لهذا الحديث بقوله ((يقول ابن سعد)) يشعر في اصطلاح المحدثين أنه حديث معلق عند ابن سعد، يعني أنه لم يسق إسناده، و ليس الأمر كذلك كما يأتي، و من المعروف عند أهل العلم أن في صحيح البخاري كثيراً من الأحاديث المعلقة عن النبي صلى الله عليه و سلم أو بعض أصحابه، فإذا أراد طالب العلم أن ينقل شيئاً من هذه الأحاديث، فلا يقول فيها: ((روى البخاري)) لأن هذا التعبير خاص بالأحاديث المسندة، و إنما يقول: ((قال البخاري: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم … أو كان رسول الله صلى الله عليه و سلم …)) و لا يقول في هذا الجنس ((روى البخاري)) كما ذكرنا، إلا أن يقيد ذلك بقوله ((روى البخاري معلقاً)) كما أنه لا يقول في الجنس المسند من الأحاديث ((قال البخاري: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم))؛ لأنه يوهم أنه من المعلقات عنده! و هذا ما وقع فيه حضرة الدكتور بتصديره للحديث بالقول المذكور، فأوهم خلاف الواقع إما لعدم علمه بالفرق بين التعبيرين ((قال)) و ((روى))، أو لتساهله في التعبير، و الأول أليق بحاله الذي يدل عليه أسلوبه في كتابه، و كثرة أخطائه فيه! من ذلك قوله فيما علقه ابن كثير: ((رواه ابن كثير))! كما تقدم التنبيه عليه في الحديث الثاني (ص 15).
ثانياً: أن الحديث عند ابن سعد من طريق شيخه محمد بن عمر، فقال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني أيوب بن النعمان … فذكر له عدة أسانيد، و كلها مرسلة، و مع إرسالها فشيخه المذكور متهم بالكذب، و هو الواقدي المشهور صاحب كتاب ((المغازي)) المطبوع في الهند ثم في مصر، و ظني أن الدكتور لا يعلم أن محمد بن عمر هذا هو الواقدي، و إن كان يعلم ذلك، فظني أنه لا يعرف شيئاً من ترجمته عند أهل الحديث، و لذلك أنقل شهادة حافظين من حفاظ المحدثين المشهورين، فقال الإمام الذهبي في كتابه ((الضعفاء و المتروكين)):
((محمد بن عمر بن واقد الواقدي، قال النسائي: يضع الحديث، و قال ابن عدي: أحاديثه غير محفوظة، و البلاء منه)).
و قال الحافظ ابن حجر في ((التقريب)): ((متروك مع سعة علمه))، يعني أنه شديد الضعف في الرواية(10).
و إنما ظننت أن الدكتور لا يعلم ذلك، للأمر بحسن الظن بالمسلم! و إلا فهل يعقل أن يعرف الدكتور حال الواقدي هذه و سقوط روايته، و يعلم مع ذلك أن محمد بن عمر المذكور في سند هذا الحديث هو الواقدي هذا المتهم، ثم هو مع ذلك يتجاهل هذه الحقيقة، و يروي له عدة أحاديث من رواية ابن سعد عنه، هذا بعيد جداً عن مقتضى حسن الظن به أيضاً في أمانته العلمية، لا سيما و هو قد صرح في مقدمة كتابه أنه اعتمد على ما صح من الأخبار في كتب السيرة فإيراده مثل هذه الأحاديث الواهية يضطرنا إلى افتراض أحد أمرين، إما إنه لا يعلم، أو إنه يعلم و لا يعمل بما يعلم! و لما كان من المقرر عند أهل العلم أن الإنسان إذا وقع بين شرين اختار أقلهما شراً، فلذلك قلنا في الدكتور: إنه لا يعلم، و ما أظنه يفضل هو الأمر الآخر عليه، و لا بد من أحدهما!! و أحلاهما مر!
و يشهد لما أقول: أن هذا الحديث قد أخرجه الإمام أحمد في ((المسند)) (3/492 و 4/63 و 341 و 5/376) و البيهقي بأسانيد عن غير واحد من الصحابة، و أحدهما عند ابن إسحاق في ((السيرة)) (2/64 – 65) بنحوه و أحد إسنادي أحمد صحيح، و أخرجه البيهقي أيضاً كما في ((البداية)) (3/139)، و طرفه الأول له شاهد في ((المستدرك)) (2/624) من حديث جابر مطولاً و صححه ووافقه الذهبي.
قلت: فلو أن الدكتور كان يعلم هذه الطرق، و يعلم ذلك الضعف الشديد الذي في طريق ابن سعد بسبب الواقدي المتهم، أفتظن أيها القاريء أنه يؤثر هذا الطريق على تلك الطرق و هو يعلم؟! أما أنا فلا أظن إلا خيراً!
و مما يؤيد ما ذكرت الحديث الآتي، و هو:
الحديث الثامن، قال (1/147): ((قال ابن سعد في طبقاته يروي عن عائشة رضي الله عنها: لما صدر السبعون من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم طابت نفسه …))
قلت: في إسناده عند ابن سعد (1/225 – طبع بيروت) محمد بن عمر الأسلمي و هو الواقدي، و قد عرفت من الحديث السابق أنه متهم بالكذب و الوضع و أن الدكتور لا يعرف ذلك!
على أن قوله: ((قال ابن سعد يروي …)) ليس تعبيراً علمياً فإنه غير ظاهر المراد منه، هل هو رواه مسنداً أم معلقاً؟ راجع الكلام على الحديث السابع ص (20 – 21)(11) و الحديث الثاني الذي سبقت الإشارة إليه هناك.
الحديث التاسع: قال (1/153) في قصة الهجرة: ((فأتى جبريل عليه السلام رسول الله r يأمره بالهجرة ، و ينهاه أن ينام في مضجعه تلك الليلة. سيرة ابن هشام (1/155) و طبقات ابن سعد (1/212))).
قلت: هو عند ابن سعد من رواية الواقدي الكذاب المتقدم! و في إسناد ابن هشام من لم يسم! و قد رواه من طريق ابن إسحاق، و كذلك أخرجه أبو نعيم في ((دلائل النبوة)) (ص 63) ثم أخرجه من طريق الفضل بن غانم قال ثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر المكي عن عبد الله بن عباس، و هذا إسناد متصل، لكن الفضل و شيخه سلمة ضعيفان، و هو في ((السيرة)) هكذا: قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتـهم من أصحابنا عن عبد الله بن أبي نجيح … فقد أسقط أحد هذين الضعيفين من السند شيخ ابن إسحاق المجهول الذي لم يسم، فظهر السند متصلا لا جهالة فيه! و ذلك من بلايا الضعفاء و تضليلاتـهم التي قد لا تكون مقصودة من بعضهم، فمن لم يكن على علم بأحوالهم، و لم يأخذ حذره من رواياتـهم، ضل بـهم و هو لا يشعر!
الحديث العاشر: قال (1/157): ((و خرجت ولائد من بني النجار – فيما يرويه ابن هشام – فرحات بمقدم النبي r و جواره لهن، و هن ينشدن:
نحن جوار من بني النجار يا حبذا محمد من جار
فقال عليه السلام لهن أتحببنني؟ فقلن نعم، فقال اللهم يعلم أن قلبي يحبكن)).
قلت: هذا لم أره عند ابن هشام في ((السيرة))! و قد ذكره الحافظ ابن كثير نحوه في ((البداية)) (3/199 -..) من رواية البيهقي في ((دلائل النبوة)) بإسناده عن إبراهيم بن صرمة بسنده عن أنس قال: فذكره بلفظ: ((فخرجت جوار من بني النجار يضربن بالدفوف و هن يقلن …)) فذكره، و قال الحافظ: ((هذا حديث غريب من هذا الوجه)).
قلت: و علته ابن صرمة هذا، فقد قال ابن معين فيه: كذاب خبيث، و ضعفه غيره، و قد أخرجه ابن ماجه في ((سننه)) (1/587) و البيهقي من طريق أخرى عن أنس به، و ليس فيه أن ذلك كان عند قدومه المدينة، و سنده صحيح، بل في ((صحيح البخاري)) و غيره من طريق ثالثة عن أنس أن ذلك كان في عرس، و لكنه لم يذكر الرجز.
الحادي عشر: قال (2/8): ((و قيل له: ألا نسقفه – يعني مسجد المدينة – فقال: (عريش كعريش موسى: خشيبات و ثمام – نبت ضعيف قصير – الشأن أعجل من ذلك) طبقات ابن سعد 2/5)).
قلت: فيه عنده الواقدي و هو كذاب كما تقدم غير مرة! و مع ذلك، فإن إسناده ينتهي إلى الزهري (1/239 – 240 طبع بيروت) فهو مرسل! و لو أن الدكتور كلف نفسه قليلا من البحث، لوجد من الطرق ما يغنيه عن الاعتماد على رواية الكذاب المذكور، و لكنه قنع بما لديه من مصادر قليلة، ثم لا عليه بعد ذلك أن لا يحقق وعده الذي قطعه على نفسه من الاعتماد على الأخبار الصحيحة! فقد جاء الحديث من طرق عديدة يرتقي بـها إلى درجة الحسن في أقل المراتب، فأخرجه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) و ابن أبي الدنيا في ((قصر الأمل)) (مخطوطان) عن الحسن البصري مرسلاً، و السند إليه صحيح، و أبو سعيد المفضل الجندي في ((كتاب فضائل المدينة)) (مخطوط) عن راشد بن سعد مرسلاً و إسناده صحيح أيضاً، و أبو حامد الحضرمي في ((حديثه)) و المخلص في ((الفوائد المنتقاة)) (9/193/1) و الضياء المقدسي في ((الأحاديث المختارة)) (مخطوطات) عن أبي الدرداء مرفوعاً، و ابن أبي الدنيا أيضاً عن عبادة بن الصامت، و قد خرجت أسانيدها في كتابي: ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) في المجلد الثاني رقم (616)، و عسى أن يطبع قريباً إن شاء الله(12).
أقول: كل هذه الطرق التي بـها يتقوى الحديث أهملها الدكتور البوطي، و لم يعزها إلى أحد من أولئك المخرجين – مع كثرتـهم – فحط بذلك من قوة الحديث، و هذا مما لا يجوز عند أهل العلم بالحديث اتفاقاً، و ليس هذا لجهل البوطي بـها فقط كما هو شأنه في غيره، بل هو أيضاً لعجزه و قصر باعه في التخريج، و إلا فهو القائل كما سيأتي:
((و لا ينبغي عن التخريج الاقتصار على ذكر الطريق الضعيف، و السكوت عن الطريق الصحيح أو المتفق عليه، لما في ذلك من الإيهام الواضح الذي يتحاشاه علماء الحديث)). انظر الحديث ((الرابع و العشرون)) الآتي و تعليقنا عليه ترَ العجب العجاب من هذا الدكتور المتعالم!
الحديث الثاني عشر، قال: (2/18): ((روى ابن هشام أن النبي عليه الصلاة و السلام … كتب كتاباً بين المهاجرين و الأنصار وادع فيه اليهود و عاهدهم، و أقرهم على دينهم و أموالهم، و شرط لهم و اشترط عليهم))
قلت: هذا مما لا يعرف صحته، فإن ابن هشام رواه في ((السيرة)) (2/147) قال: ابن إسحاق … فذكره هكذا بدون إسناد، فهو معضل، و قد نقله ابن كثير (3/224 – 225) عن ابن إسحاق، و لم يزد عليه في تخريجه شيئاً على خلاف عادته، مما يدل على أنه ليس مشهوراً عند أهل العلم و المعرفة بالسيرة و الأسانيد.
الحديث الثالث عشر، قال (3/29): ((فقال الحباب بن المنذر: يا رسول الله أرأيت هذا المنـزل أمنـزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم …))
قلت: هو عند ابن هشام في ((السيرة)) (2/272) قال ابن إسحاق: فحدثت عن رجال من بني سلمة أنـهم ذكروا أن الحباب …
و هذا إسناد مرسل مجهول، فهو ضعيف، و قد وصله بعضهم، و فيه من لا يعرف و آخر كذاب! كما كنت خرجته في كتاب الغزالي ص (240) و قال الذهبي فيه: ((حديث منكر)) فأين الصحة التي وعدت بـها يا دكتور؟! لا سيما و قد بنيت عليه فصلاً عقدته (2/37) بعنوان ((أقسام تصرفاته r))!
الحديث الرابع عشر، قال (2/44): ((روى ابن هشام عن محمد بن إسحاق أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع … فجعلوا يريدونـها على كشف وجهها فأبت …))
قلت: إسناده مرسل معلق، فإن ابن هشام قال (3/51): ((و ذكر عبد الله بن جعفر بن المسور بن مخرمة عن أبي عون قال …)) فذكره. و أبو عون اسمه محمد بن عبد الله الثقفي الكوفي الأعور، مات سنة (116) فهو تابعي صغير، فلم يدرك الحادثة، و عبد الله بن جعفر المخرمي، من شيوخ الإمام أحمد مات سنة (170) فبينه و بين ابن هشام مفاوز، فهو إسناد ضعيف ظاهر الضعف، فمن الغرائب أن يستدل الدكتور بمثله على وجوب ستر المرأة لوجهها! و هو لو صح لم يدل على أكثر من مشروعية ذلك، أما الوجوب فمن أين؟! و قد ذكرت في كتابي ((حجاب المرأة المسلمة)) اختلاف الفقهاء في ذلك و أن الجمهور على استحباب الستر لا الوجوب، و حققت أنه هو الذي يقتضيه الدليل، فليراجعه من شاء.
ثم إن بعض إخواننا هنا من طلاب كلية الشريعة، لما اطلع على هذا تساءل عن تاريخ غزوة بني قينقاع، التي وقعت فيها هذه الحادثة؟ فقلت له: و ما وراء ذلك؟ قال: إن آية الحجاب نزلت في غزوة الأحزاب كما هو معلوم، فإذا كانت الغزوة الأولى قبل هذه، كان دليلا على أن حجاب المرأة في الحادثة لم يكن عن أمر به في الآية. فقلت: صدقت. فنظرنا فإذا الغزوة الأولى قد ذكرت في كتب السيرة قبل الأحزاب، و على ذلك جرى الدكتور نفسه، و قال: إنـها كانت في السنة الثالثة للهجرة، و كانت الأحزاب سنة خمس، و قيل سنة أربع منها. فهذا مما يدل على أن الدكتور لما درس الحادثة لم يكن قد استحضر في ذهنه أنـها كانت قبل نزول الآية، و أن ستر المرأة لوجهها إن صح لم يكن دينياً لا بد من التزامه، و إنما كان تعففاً منها، و إن مما يؤيد ذلك ما في البخاري أن عائشة و أم سلمة(13) رئيت خلاخيل سوقهما يوم أحد و هما يحملان القرب على متونـهما، فقال الحافظ ابن حجر: ((كانت هذه الواقعة قبل الحجاب))(14).
قلت: و غزوة أحد كانت بعد غزوة بني قينقاع أيضاً.
الحديث الخامس عشر، قال: (2/49): ((و لبيان هذه القاعدة يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم: أمرنا أن نحكم بالظاهر، و الله يتولى السرائر)).
قلت: القاعدة المشار إليها صحيحة، لكن الحديث المذكور غير صحيح، بل هو مما لا أصل له، كما نص على ذلك علماء الحديث كالحافظ العراقي و العسقلاني و السخاوي و السيوطي و غيرهم. قال في ((المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة)) (ص 91 رقم 178): ((و لا وجود له في كتب الحديث المشهورة، و لا الأجزاء المنثورة، و جزم العراقي بأنه لا أصل له(15)، و كذا أنكره المزي و غيره)).
و كذا في ((كشف الخفاء)) للعجلوني (1/192/585) و غيره من الكتب التي وضعت لتمييز ما صح مما لم يصح من الحديث، فهل لم يقرأ الدكتور شيئاً منها أصلا، حتى وقع في هذا التقول على رسول الله صلى الله عليه و سلم، أم أن له رأياً خاصاً يخالف به حكم أئمة الحديث و أهل العلم به؟! و لقد كان باستطاعته لو اهتدى بـهديهم و كان على علم بالحديث أن يستدل على القاعدة المشار إليها بقوله صلى الله عليه و سلم: ((إنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذ منه شيئاً)). زاد في رواية: ((فإنما أقطع له به قطعة من النار)). أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أم سلمة رضي الله عنها، و ترجم له النسائي، ثم النووي في ((صحيح مسلم)) بـ ((باب الحكم بالظاهر)) و هو مخرج عندي في ((إرواء الغليل)) (2702)، و ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1192)(16).
الحديث السادس عشر (2/68): ((روى ابن هشام أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأصحابه: من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء أو الأموات؟ …)).
قلت: قال في ((السيرة)) (3/100): قال ابن إسحاق: فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم كما حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني أخو بني النجار …)) فذكره.
قلت: و هذا إسناد معضل، و قد روي موصولاً، كما بينته في ((تخريج فقه السيرة للغزالي)) (289 – 290).
الحديث السابع عشر، قال (2/174): ((و قال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم: أمير الناس زيد بن حارثة، فإن قتل فليرتض المسلمون رجلاً فليجعلوه عليهم. رواه البخاري و أحمد و ابن سعد في ((طبقاته)) و لكن ليس في البخاري: ((فإن قتل فليرتض المسلمون منهم رجلاً)))).
قلت: فيه أمور:
أولاً: قوله مستدركاً: ((لكن ليس في البخاري …)) له مفهوم و الدكتور يعلم إن شاء الله تعالى أن مفاهيم الكتب معتبرة! و هو أن الإمام أحمد أخرج هذه الزيادة التي ليست في البخاري، و ليس الأمر كذلك، فإن روايته خالية أيضاً من هذه الزيادة، و قد أخرج الحديث في مواطن من ((مسنده)) كما كنت أشرت إليها بالأرقام في تخريجي لـ ((فقه السيرة للغزالي)) (ص 396). و الدكتور مطلع عليه، و قد استفاد منه و من أصله كما سبقت الإشارة إليه، فقد كان باستطاعته أن يستعين بتلك الأرقام لمراجعة رواية أحمد، لكي لا يقع في مثل هذا الخطأ فما الذي صده عن ذلك، أهو ضيق الوقت، أم ظنه أن لا أحد من القراء سيرجع إلى ((المسند)) فيكشف مثل هذا الخطأ أو غيره مما قد لا يخطر في بال أحد، إلا في بال المتهاون بالتحقيق العلمي أو العاجز عنه؟!
ثانياً: كيف استجاز الدكتور إيثار رواية ابن سعد على رواية البخاري و هو يعلم أن ليس كل ما فيه صحيح ثابت، بخلاف ما في البخاري؟
ثالثاً: إن قيل لعلة آثرها لما فيها من الزيادة، و هي صحيحة الإسناد عنده؟
فأقول: هيهات هيهات، فقد ثبت لدينا من دراستنا لكتابه هذا أنه لا علم عنده أصلاً بطريقة تصحيح الأحاديث، و نقد الأسانيد، و لذا نرى أنه يجب على الدكتور و أمثاله تقليد أهل الاختصاص و المعرفة بذلك من علماء الحديث و أن يقتصروا على نقل أقوالهم تصحيحاً و تضعيفاً، فإن لم يفعلوا، ضلوا و أضلوا، و قد مضت الأمثلة الكثيرة التي تشهد لما قلنا. هذا شيء و شيء آخر، و هو أن الحديث عن ابن سعد (2/128 طبع بيروت) بدون إسناد، فكيف يمكن الحكم على المعدوم بالصحة؟ نعم، قد عرفت مستند ابن سعد في ذلك ألا و هو شيخه الواقدي! فقد قال ابن كثير في ((البداية)) (4/241): ((و قال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان …)) فذكره.
قلت: و الواقدي متهم بالوضع كما سبق (ص 21)، فلو أن الدكتور يبحث بحث العلماء، لا سيما و قد قدم تلك المقدمة الضخمة: ((اعتمدت على ما صح من أخبار السيرة في كتبها))! و كان قادراً و حريصاً على الوفاء بما قال لم يبادر إلى الاعتماد على رواية ابن سعد المعلقة بدون إسناد، و لا سيما و في آخرها ما ينبه اللبيب إلى عدم ثبوتـها، و لو كان جاهلا بعلم الحديث و نقد الأسانيد! ألا و هو قوله (2/129):
((فلما سمع أهل المدينة بجيش مؤتة قادمين، تلقوهم بـ (الجرف)، فجعل الناس يحثون في وجوههم التراب و يقولون: يا فرار (!) أفررتم من سبيل الله؟! فيقول رسول الله صلى الله عليه و سلم: ليسوا بفرار، و لكنهم كرار إن شاء الله؟)).
فقلت: فهذا منكر بل باطل ظاهر البطلان، إذ كيف يعقل أن يقابل الجيش المنتصر مع قلة عدده و عدده على جيش الروم المتفوق عليهم في العَدد و العُدد أضعافاً مضاعفة، كيف يعقل أن يقابل هؤلاء من الناس المؤمنين بحثو التراب في وجوههم و رميهم بالفرار من الجهاد و هم لم يفروا، بل ثبتوا ثبوت الأبطال حتى نصرهم الله و فتح عليهم، كما في حديث البخاري: ((… حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم))؟!
و من العجائب أن الدكتور بعد أن ذكر هذا الحديث الصحيح و أتبعه بقوله:
((و هذا الحديث يدل كما ترى أن الله أيد المسلمين بالنصر أخيراً)). فإنه مع ذلك أورد هذه الزيادة المنكرة فقال (2/180):
((و أما سبب قول الناس للمسلمين بعد رجوعهم إلى المدينة: يا فرار … فهو أنـهم لم يتبعوا الروم و من معهم في هزيمتهم …))!
فنقول: إن هذا التأويل بعيد جداً، ثم إن التأويل فرع التصحيح، كما هو مقرر في ((الأصول))، فهلا أثبت هذه الرواية يا فضيلة الدكتور! حتى يسوغ لك أن تتأولها لتقضي به على هذا المعنى المستنكر الظاهر منها؟! و إلا فالواقع أن الأمر كما تقول العامة: هذا الميت لا يستحق هذا العزاء!
و إن كان هذا التأويل يدل على شيء، فهو أن الدكتور، لا يفرق بين ما صح و ما لم يصح من الأخبار، فهو يسوقها كلها مساقاً واحداً، و يعاملها معاملة واحدة! فهو مثلاً لا يفرق بين ما رواه البخاري و ما رواه ابن سعد و لو بدون إسناد؟ و ما هكذا يكون صنيع العلماء!
و إذا شئت مثالاً على نقيض صنيعه، مصدره حافظ من حفاظ المسلمين، فخذ الحافظ ابن كثير مثلاً، فإنه ذكر هذه الرواية المستنكرة، في كتابه ((البداية))، (4/248) من رواية ابن إسحاق عن عروة مرسلاً، ثم قال: ((و هذا مرسل من هذا الوجه، و فيه غرابة، و عندي أن ابن إسحاق قد وهم في هذا السياق، فظن أن هذا الجمهور: الجيش، و إنما كان الذين فروا حين التقى الجمعان، و أما بقيتهم فلم يفروا، بل نصروا كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم المسلمين و هو على المنبر، فما كان المسلمون ليسمونـهم فراراً بعد ذلك، و إنما تلقوهم إكراماً و إعظاماً)).
فليت أن الدكتور رجع إلى كتاب هذا الحافظ، فاستعان به على تجلية(17) ما قد يغمض عليه من الحقائق و المعارف، لا سيما و موضوعه في نفس موضوع كتابه و في متناول يده، ولكن العجلة في التأليف و عدم التروي في البحث، و العجز عن التحقيق فيه و شهوة التأليف فيما ليس من اختصاصه هو الذي يوقع صاحبه في مثل هذه الأخطاء الظاهرة، و الله المستعان.
الحديث الثامن عشر، قال (2/188): ((ثم قال صلى الله عليه و سلم: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا خيراً، أخ كريم، و ابن أخ كريم، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
قلت: هذا الحديث على شهرته ليس له إسناد ثابت، و هو عند ابن هشام معضل، و قد ضعفه الحافظ العراقي كما بينته في ((تخريج فقه السيرة)) (ص 415)، فلست أدري ما الذي منع الدكتور من أن يستفيد من هذا الحافظ تضعيفه للحديث، فلا يورده في كتابه الذي وصفه بأنه اعتمد فيه على ما صح من أخبار السيرة، أليس في هذا إخلالاً صريحاً بـهذا الشرط، أم أن الدكتور عنده من العلم ما ليس عند الحافظ، فهو يرى أن الحديث صحيح لا يخرج عن شرطه، فإن كان كذلك، فليثبت لنا ذلك، نكن له من الشاكرين؟ أم هو يجري على المشهور أيضاً (!): الخطأ المشهور، خير من الصواب المهجور؟.
الحديث التاسع عشر: قال (2/189): ((روى ابن هشام أن فضالة بن عمير الليثي أراد قتل النبي r و هو يطوف بالبيت عام الفتح … و لم أجد ترجمة لفضالة هذا في ((الإصابة))، و لا في ((الاستيعاب)))).
قلت:
فيه أولاً: أن هذا الحديث كالأحاديث السابقة، لا يصح؛ لإن ابن هشام لم يذكر له إسناداً متصلاً لينظر في رجاله، فإنه قال (4/59):
((و حدثني (يعني من يثق به من أهل الرواية في إسناد له، كما في حديث قبله) أن فضالة بن عمير بن الملوح الليثي أراد)).
و ثانياً: أن فضالة هذا، قد ترجم له في ((الإصابة)) (ج3 ص 201 – 202 رقم الترجمة 6996 طبعة مصطفى محمد بمصر)، و هي الطبعة التي يحيل الدكتور عليها فلا أدري كيف لم يجدها فيه، لعله لا يحسن حتى المراجعة، أو كلف بـها بعض طلابه الذين لا يحسنونـها! أو هم على الأقل لا ينشطون لها!
و قد ترجمه مصدر آخر أقدم منه و هو ابن أبي حاتم، فقال في ((الجرح و التعديل)) (23/77/234)، و سبقه البخاري في ((التاريخ الكبير)) (4/1/124):
((فضالة الليثي، أدرك الجاهلية، روى عنه ابنه عبد الله بن فضالة)).
و ساق له البخاري حديثاً يدل على صحبته، لكنه من رواية ابنه عبد الله ابن فضالة، و لم يوثقه غير ابن حبان (1/137)، و قيل له صحبة.
و ثالثاً: ما فائدة معرفة ترجمة فضالة هذا و السند إليه لا يصح؟ أليس هذا من الأدلة الكثيرة على أن الدكتور لا معرفة عنده مطلقاً بطرق التصحيح و التضعيف و إلا فما باله أضاع وقته أو وقت غيره من تلامذته في البحث عن ترجمة فضالة ثم لم يوفق، و لو وفق إليها لم يفد ذلك صحة الحديث باتفاق أهل العلم، لأنه أعرض عن دراسة الإسناد إليه، هذا لو كان بحاجة إلى دراسة، فإنه ظاهر الجهالة، فإذا كان البوطي بـهذه المثابة من الجهل بالحديث فحري به أن لا يدعي ما لا قبل له بتحقيقه من تصحيح أحاديث السنن و السيرة، و أن يشتغل بغيره من العلم إن كان يحسنه!
الحديث العشرون: قال (2/216): ((و قال بعض الصحابة: يا رسول الله ادع الله على ثقيف. فقال: اللهم اهد ثقيفاً و أت بـهم. رواه ابن سعد في ((الطبقات))، و أخرجه الترمذي في ((سننه))، و قد رواه ابن سعد عن عاصم الكلابي عن الأشهب عن الحسن)).
قلت فيه أمران:
الأول: أن إسناده عند الترمذي لا يصح، فيه عنعنة أبي الزبير و هو مدلس كما بينته في ((تخريج الفقه)) ص 432.
و الآخر: أنه عند ابن سعد في ((الطبقات)) 2/159 بدون إسناد!
و قوله: ((رواه ابن سعد عن عاصم …)) الخ مع ما فيه من التكرار الذي لا فائدة فيه، ففيه وهمان:
أولاً: أن هذا الإسناد عن ابن سعد في المكان الذي أشرت إليه إنما هو لحديث آخر غير هذا؛ فإن لفظه: ((… فأتى عمر، فقال: يا نبي الله ادع على ثقيف؟ قال: إن الله لم يأذن في ثقيف. قال: فكيف نقتل في قوم لم يأذن الله فيهم؟ قال: فارتحلوا، فارتحلوا)).
فأنت ترى أن هذا الحديث هو غير حديث الباب، فإن كان هذا العزو لابن سعد من الدكتور في المرة الثانية، لم يكن عن وهم منه، فهو من الأدلة الكثيرة على أنه لا يحسن صناعة التخريج البتة، إذ لا يجوز أن يقال: روى ابن سعد عن الحسن عن النبي r أنه قال: ((اللهم اهد ثقيفاً و ائت بـهم)) لأن الحسن لم يرو ذلك عند ابن سعد، و كل من وقف على تخريج الدكتور هذا يفهم منه خلاف ذلك؟ و يغلب على الظن أن ذلك لم يكن إلا عن قصد منه، فهو دليل على ما ذكرت، لأني رأيته فيما سيأتي لما خرجت حديثاً لابن عباس عزوته لأحمد و ابن ماجه، تعقبني بأنه في ((الصحيحين))! و تعجب من عدم عزوي الحديث إليهما مع أن هذا العزو لو صدر مني – و أرجو الله أن يصونني من مثله – لكان خطأ محضاً كخطأ الدكتور هذا في عزو هذا الحديث لرواية ابن سعد عن الحسن، و سيأتي تفصيل الكلام على ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
الحديث الواحد و العشرون: قال (2/246 – 247) في تخريج قصة مسجد الضرار: ((تفسير ابن كثير 2/ 387 – 388 و رواه ابن هشام في سيرته على نحو قريب في ج2/322)).
قلت:
فيه أولاً: أن التخريج لا يعطي – ككثير من تخريجاته – أن القصة صحيحة؛ فإنـها عند ابن هشام من طريق ابن إسحاق بدون إسناد، و عند ابن كثير من طريقه عن جماعة ذكرتـهم في ((تخريج الفقه)) (ص 488).
و ثانياً: أن هذا التخريج اختصره الدكتور من تخريجنا المذكور، و يكاد يكون ما ذكره منقولاً عنه بالحرف الواحد غير أنه حذف منه تصريحنا في مطلعه بأنه ((ضعيف))، فما الذي حمل الدكتور على هذا الحذف و عدم ذكر المصدر الذي أخذ منه تخريجه؟ إن كان يجيز له ذلك خشيته أن يقول الناس: إن الدكتور استفاد من تخريج الألباني! فهل يجيز له ذلك حذف الحكم بالضعف الذي يقتضيه التخريج الحديثي، و إيهام الناس أن هذا الحديث من ((ما صح من أخبار السيرة))! و هو لم يصح! ألا فليعلم أن الله تعالى سائله و محاسبه عن هذا الذي صنعه في هذا الكتاب من تصحيح ما لم يصح من الروايات لا تقليداً منه لأهل العلم، و لا اجتهاداً منه لأنه ليس من أهل الاجتهاد – باعترافه – في الفقه الذي شهادة الدكتور فيه فضلاً عن هذا العلم الشريف الذي لم يشم رائحته بعد.
الحديث الثاني و العشرون: قال (2/250) في قصة وفد ثقيف: ((روى ابن سعد أنه صلى الله عليه و سلم كان يأتيهم كل ليلة بعد العشاء فيقف عليهم يحدثهم حتى يراوح بين قدميه)).
قلت فيه مؤاخذات:
الأولى: أن ابن سعد لم يسق إسناده، فكيف عرف صحته و اعتمد عليه؟!
الثانية: أن اقتصاره في العزو عليه يشعر الطالب بأنه لم يروه من هو أشهر منه و أولى بالاعتماد عليه، و ليس كذلك، فقد أخرجه أبو داود في ((قيام رمضان)) و ابن ماجه في آخر ((إقامة الصلاة))؛ كلاهما من حديث أوس بن حذيفة، و أحمد أيضاً (4/343) دون المراوحة.
الثالثة: أن إسناده لا يصح، لأنه من رواية عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى الطائفي عن عثمان بن عبد الله بن أوس الطائفي و هذا لم يوثقه غير ابن حبان، لكن روى عنه جمع من الثقات غير أن الأول ضعفه الذهبي و العسقلاني فهو علة الحديث.
الحديث الثالث و العشرون: قال (2/251) في قصة وفد ثقيف أيضاً: ((قال ابن إسحاق: و سألوه أيضاً أن يضع عنهم الصلاة، فقال لهم: لا خير في دين بلا صلاة)).
قلت: و تمام هذه الرواية عند ابن إسحاق في ((السيرة)) (4/183 – 185): ((فقالوا: يا محمد فسنؤتيكها و إن كانت دناءة))!
قلت: و هذا لا يصح كالأحاديث السابقة، لأنه عنده بإسناد معضل، و المرفوع منه أخرجه أبو داود و أحمد بإسناد منقطع كما بينته في ((تخريج الفقه)) (ص 540) فتجاهل الدكتور هذا كغيره – مما سبق – و صححه، فالله المستعان.
الرابع و العشرون: قال في ((حجة الوداع)) (2/270): ((فلما رأى صلى الله عليه و سلم البيت قال: (اللهم زد هذا البيت تشريفاً و تعظيماً و تكريماً و مهابة و زد من عظمه ممن حجه و اعتمره تشريفاً و تكريماً و مهابة و تعظيماً(18) و براً) رواه الطبراني و ابن سعد)).
قلت: و هذا ضعيف جداً، بل موضوع. أما ابن سعد فذكره بدون إسناد! (2/173)، و أما الطبراني فأخرجه في ((المعجم الكبير)) (ج1ق149/2 مخطوط) عن حذيفة بن أسيد، و في إسناده عاصم بن سليمان الكوزي. قال الذهبي في ((الميزان)): ((قال ابن عدي: يعد ممن يضع الحديث، و قال الفلاس: كان يضع، ما رأيت مثله قط … و قال الدارقطني: كذاب)).
و قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/238) بعد أن عزاه للطبراني: ((و هو متروك)).
قلت: و على هذا يرد على الدكتور أمران لا بد له من أحدهما:
الأول: إن كان يعلم هذه العلة، و مع ذلك جزم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقد شمله و عيد قوله صلى الله عليه و سلم: ((من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين)) أخرجه مسلم في مقدمة ((صحيحه)) (1/7) بإسنادين صحيحين عن سمرة بن جندب و المغيرة بن شعبة.
و الآخر: إن كان لا يعلمها – و هو الظن به – فكيف رواه و حدث به، و رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع))؟ أخرجه مسلم أيضاً (1/8) بإسناد صحيح! بل كيف أورده في كتابه الذي زعم فيه أنه اعتمد على ما صح من الأخبار؟ و الظن به أيضاً أنه لا علم عنده بـهذين الحديثين! و إلا لكانا كافيين في ردعه عن رواية الأحاديث الضعيفة و تحت ستار أنـها صحيحة؟ و الله المستعان، و إنا لله و إنا إليه راجعون.
و بـهذا ينتهي ما أردت ذكره من الأحاديث الضعيفة و الأخبار الواهية، التي عثرت عليها في كتاب الدكتور البوطي، و هي تبين أوضح البيان أن ما قاله في نصوص كتابه ((اعتمدت فيها أولاً على صحاح السنة. ثانياً على ما صح من أخبار السيرة في كتبها))(19). لم يكن إلا لمجرد الدعاية للكتاب، و لفت أنظار الناس إليه و في تضاعيف الكلام عليها ما يبين أنه ليس عنده من الثقافة و المعرفة بالسنة و مصطلح الحديث و تراجم الرواة ما يمكنه من تنفيذ هذا المنهج الذي زعم أنه اعتمده في كتابه حتى و لو بالاعتماد على العلماء في ذلك و تقليدهم، فهو لا يحسن حتى تقليدهم، لأنه لا معرفة له بأقوالهم و مع ذلك فهو يحاول أن يعمل عمل الفحول منهم و هيهات! فما أشبهه بقول بعض السلف: ((ما مثلك إلا مثل الفروج يسمع الديكة تصرخ فيصرخ معها)).
و قد بقيت لدي أمثلة أخرى من أخطائه التي تدل على مبلغ علمه بـهذا الفن الشريف، و هي تمثل أنواعاً شتى من البعد عن النهج العلمي الصحيح فأقول:
1- قال (1/31): ((و قد أجمع رواة السيرة أن بادية بني سعد بن بكر كانت تعاني إذ ذاك سنة مجدبة قد جف فيها الضرع و يبس الزرع، فما هو إلا أن صار محمد r في منـزل حليمة و استكان إلى حجرها و ثديها حتى عادت منازل حليمة من حول خبائها ممرعة خضراء …)).
قلت: لنا عليه مؤاخذتان:
الأولى: الإجماع المذكور لم يدعه أحد قبل الدكتور فيما علمت، فلا قيمة له.
و الأخرى: أن القصة لم تأت بإسناد تقوم به الحجة، و أشهر طرقها ما رواه محمد بن إسحاق عن جهم بن أبي جهم عن عبد الله بن جعفر عن حليمة بنت الحارث السعدية.
أخرجه أبو يعلى (ق128/1) و عنه ابن حبان (2094 – موارد) و أبو نعيم في ((دلائل النبوة)) (1/47) عن ابن إسحاق به، و أخرجه البيهقي في ((دلائل النبوة)) (1/108) عنه أيضاً إلا أنه قال: حدثنا جهم بن أبي الجهم – مولى لامرأة من بني تميم كانت عند الحارث بن حاطب، و كان يقال: مولى الحارث بن حاطب – قال: حدثنا من سمع عبد الله بن جعفر بن أبي طالب يقول: حدثت عن حليمة بنت الحارث …
قلت: و هذا إسناد ضعيف و فيه علتان:
الأولى: الاضطراب في إسناده كما هو ظاهر، ففي الرواية الأولى عنعنة ابن إسحاق من جميع رواته، و في الأخرى تصريحه بالتحديث، مع تصريح الجهم بأنه لم يسمعه من عبد الله بن جعفر، و تصريح هذا بأنه لم يسمعه من حليمة، فعلى الرواية الأولى فيه انقطاع بين ابن إسحاق و الجهم، لأن الأول مشهور بالتدليس، و على الرواية الأخرى، الانقطاع في موضعين منه(20)، و منه تعلم وهم الحافظ في ((الإصابة)) حيث قال (4/266): ((و صرح ابن حبان في ((صحيحه)) بالتحديث بين عبد الله و حليمة))؛ فإنه لا أصل لهذا التحديث عند ابن حبان و لا عند غيره ممن ذكرنا، و يستبعد جداً أن يدرك عبد الله بن جعفر حليمة مرضعة الرسول صلى الله عليه و سلم، فإنه لما توفي النبي صلى الله عليه و سلم كان عبد الله ابن عشر سنين، و هي و إن لم يذكروا لها وفاة، فمن المفروض عادة أنـها توفيت قبل رسول الله صلى الله عليه و سلم و الله أعلم.
و سواء كان الراجح الرواية الأولى أو الأخرى فالإسناد منقطع لا محالة، و العلة الأخرى أن مداره على جهم بن أبي الجهم، و هو مجهول الحال قال الذهبي في ((الميزان)): ((لا يعرف، له قصة حليمة السعدية)).
و أما ابن حبان فذكره في ((الثقات)) (1/31) على قاعدته في توثيق المجهولين!، وللقصة عند أبي نعيم طريقان آخران، مدارهما على الواقدي و هو كذاب، أحدهما عن شيخه موسى بن شيبة و هو لين الحديث كما قال الحافظ في ((التقريب))، و الأخرى عن عبد الصمد بن محمد السعدي عن أبيه عن جده قال: حدثني بعض من كان يرعى غنم حليمة … و هؤلاء مجهولون!
2- قال (1/55): ((و جزع النبي صلى الله عليه و سلم بسبب ذلك جزعاً عظيماً حتى أنه كان يحاول – كما يروي الإمام البخاري – أن يتردى من شواهق الجبال)).
قلت: هذا العزو للبخاري خطأ فاحش، ذلك لأنه يوهم أن قصة التردي هذه صحيحة على شرط البخاري، و ليس كذلك، و بيانه أن البخاري أخرجها في آخر حديث عائشة في بدء الوحي الذي ساقه الدكتور (1/51 – 53) و هو عند البخاري في أول ((التعبير)) (12/297 – 304 فتح) من طريق معمر: قال الزهري: فأخبرني عروة عن عائشة … فساق الحديث إلى قوله: ((و فتر الوحي)) و زاد الزهري: ((حتى حزن النبي صلى الله عليه و سلم - فيما بلغنا – حزناً غدا منه مراراً كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقى منه نفسه تبدى له جبريل، فقال: يا محمد إنك رسول الله حقاً، فيسكن لذلك جأشه و تقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك)).
و هكذا أخرجه بـهذه الزيادة أحمد (6/232 – 233) و أبو نعيم في ((الدلائل)) (ص 68 – 69) و البيهقي في ((الدلائل)) (1/393 – 395) من طريق عبد الرزاق عن معمر به.
و من هذه الطريق أخرجه مسلم (1/98) لكنه لم يسق لفظه، و إنما أحال به على لفظ رواية يونس عن ابن شهاب، و ليس فيه الزيادة، و كذلك أخرجه مسلم و أحمد (6/223) من طريق عقيل بن خالد: قال ابن شهاب به دون الزيادة، و كذلك أخرجه البخاري في أول الصحيح عن عقيل به.
قلت: و نستنتج مما سبق أن لهذه الزيادة علتين:
الأولى: تفرد معمر بـها دون يونس و عقيل، فهي شاذة.
الأخرى: أنـها مرسلة معضلة، فإن القائل: ((فيما بلغنا)) إنما هو الزهري كما هو ظاهر من السياق، و بذلك جزم الحافظ في ((الفتح)) (12/302) و قال: ((و هو من بلاغات الزهري و ليس موصولاً))
قلت: و هذا مما غفل عنه الدكتور أو جهله، فظن أن كل حرف في ((صحيح البخاري)) هو على شرطه في الصحة! و لعله لا يفرق بين الحديث المسند فيه و المعلق! كما لم يفرق بين الحديث الموصول فيه و الحديث المرسل الذي جاء فيه عرضاً كحديث عائشة هذا الذي جاءت في آخره هذه الزيادة المرسلة.
و اعلم أن هذه الزيادة لم تأت من طريق موصولة يحتج بـها، كما بينته في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) برقم (4858) و أشرت إلى ذلك في التعليق على ((مختصري لصحيح البخاري)) (1/5) يسر الله تمام طبعه.
و إذا عرفت عدم ثبوت هذه الزيادة فلنا الحق أن نقول إنـها زيادة منكرة من حيث المعنى؛ لأنه لا يليق بالنبي صلى الله عليه و سلم المعصوم أن يحاول قتل نفسه بالتردي من الجبل مهما كان الدافع له على ذلك و هو القائل: ((من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً)) أخرجه الشيخان و غيرهما، و قد خرجته في ((تخريج الحلال و الحرام)) برقم (447).
3- قال (1/115): ((و كان عليه السلام قبل مشروعية الصلاة يصلي ركعتين صباحاً و مثليهما مساء كما كان يفعل إبراهيم عليه السلام)).
أقول: لا أعرف لهذا الحديث إسناداً، فإن كان الدكتور قد وقف عليه فليذكر لنا مصدره لندرسه، و ما إخاله يصح، نعم ذكر ابن سيد الناس في ((عيون الأثر)) (1/91)، عن مقاتل بن سليمان: ((فرض الله أول الإسلام الصلاة ركعتين بالغداة، و ركعتين بالعشي، ثم فرض الخمس ليلة المعراج)) ثم ذكر نحوه عن الحربي (1/149) و نقل عن ابن عبد البر أنه قال:
((لا يوجد هذا في أثر صحيح))، ثم أشار ابن سيد الناس (1/152) إلى تضعيف قول الحربي.
قلت: و مقاتل بن سليمان متروك شديد الضعف، قال الحافظ: ((كذبوه و هجروه، و رمي بالتجسيم)).
4- قال (ص 147): ((و لم يهاجر أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا متخفياً غير عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه و تنكب قوسه و انتضى في يده أسهماً – (و فيه أنه قال:) ((من أراد أن يثكل أمه، أو يوتم ولده، أو ترمل زوجته، فليلقني وراء هذا الوادي)) قال علي: فما اتبعه إلا قوم من المستضعفين علمهم ما أرشدهم ثم مضى لوجهه. أسد الغابة ج4 ص 58).
قلت: و عليه مؤاخذتان:
أولاً: قوله: ((و لم يهاجر …)) هذا النفي ما مستنده؟ فإن الرواية التي ذكرها عن علي رضي الله عنه ليس فيها شيء من ذلك، و إن كان عمدة الدكتور فيه إنما هو أنه لم يعلم ذلك إلا عن عمر، فالجواب أن العلماء يقولون: إن عدم العلم بالشيء لا يستلزم العلم بعدمه. و هذا إذا صدر النفي من أهل العلم، فكيف إذا كان من مثل الدكتور البوطي؟!
ثانياً: جزمه بأن عمر رضي الله عنه هاجر علانية اعتماداً منه على رواية علي المذكورة، وجزمه بأن علياً رواها و ليس صواباً، لأن السند بـها إليه لا يصح، و صاحب ((أسد الغابة))، لم يجزم أولاً بنسبتها إليه رضي الله عنه، و هو ثانياً قد ساق إسناده بذلك إليه لتبرأ ذمته، و لينظر فيه من كان من أهل العلم، و قد وجدت مداره على الزبير بن محمد بن خالد العثماني: حدثنا عبد الله بن القاسم الأملي (كذا الأصل و لعله الأيلي) عن أبيه بإسناده إلى علي، و هؤلاء الثلاثة في عداد المجهولين، فإن أحداً من أهل الجرح و التعديل لم يذكرهم مطلقاً، فهل وجدهم الدكتور، و عرف عدالتهم و ضبطهم، حتى استجاز لنفسه أن يجزم بصحة الرواية عن علي أم شأنه فيها كشأنه في غيرها إنما هو جماع حطاب، أو كما تقول العامة عندنا في الشام: (خبط لزء)! ثم هو إلى ذلك يدعي أنه اعتمد على الروايات الصحيحة!
5- قال: (2/12): ((فقال (عمر): ((أكن الناس من المطر و إياك [ أن ](21) تحمر أو تصفر فتفتن الناس)). إعلام الساجد 337)).
قلت: هذا الأثر، قد رواه البخاري في ((باب بنيان المسجد)) من ((صحيحه)) معلقاً مجزوماً به(22)، فترك الدكتور العزو إليه مع إفادته الصحة إلى عزوه إلى ((الإعلام)) الذي لا يفيد الصحة تقصير، لا يغتفر من مثله، لو كان من أهل العلم بالحديث! فإن من المعلوم عندهم أنه لا ينبغي عزو حديث هو في ((الصحيحين)) أو أحدهما إلى السنن الأربعة فضلا عمن دونـهم، فكيف يجوز عزوه إلى من هو دونـهم جميعاً كالزركشي صاحب ((إعلام الساجد))؟! قال مغلطاي: ((ليس لحديثي عزو حديث في أحد الستة لغيرها، إلا لزيادة ليست فيها، أو لبيان سنده و رجاله)). نقله المناوي في ((فيض القدير)) (1/280).
6- قال (2/69): ((و أما ما روي أنه r صلى عليهم (يعني شهداء أحد) عشرة عشرة و في كل عشرة حمزة، حتى صلى عليه سبعين مرة: فضعيف و خطأ راجع مغني المحتاج 1/399)).
قلت: هذا نوع جديد من تخاليط الدكتور، فإنه لم يقنع و بأنواع من الأخطاء التي كشفنا الغطاء عنها فيما مضى، لا سيما ما كان منها من الأحاديث الضعيفة التي صححها، حتى جاء الآن بنمط جديد من الخطأ ألا و هو تضعيف ما صح من الأخبار، فإن هذا الحديث له طرق كثيرة، و بعضها حسن، و ساق الحافظ الزيلعي في ((نصب الراية)) (2/309 – 313) قسماً كبيراً منها، و كذا الحافظ ابن حجر العسقلاني في ((الدراية)) (1/243 – 244) و ((تلخيص الحبير)) (1/117) و مال إلى تقويته، و هو الذي لا يستطيع خلافه كل حديثي وقف على تلك الطرق، و لذلك أوردته في كتابي المفرد: ((أحكام الجنائز و بدعها)) المسألة (70)، على أن في الصلاة على حمزة و غيره من الشهداء أحاديث أخرى بعضها صحيح ذكرته في المسألة (22 و 60) من الكتاب المذكور.
و قد يسترعي انتباه القاريء اللبيب تضعيف الدكتور لهذا الحديث على خلاف عادته و لأول مرة في كتابه فيتساءل عن السبب في ذلك؟ فأقول: لما كان الدكتور شافعي المذهب متعصباً له كما يدل عليه معالجته لبعض المسائل الفقهية في هذا الكتاب، و كان الحديث ينص على مشروعية الصلاة على الشهداء، و مذهبه يقول بعدم مشروعيتها(23)، لذلك ضعفه، لا لأن المنهج العلمي الحديثي يقتضي بضعفه؛ كيف و الحافظ ابن حجر قد قواه مع أنه شافعي المذهب أيضاً كما هو معلوم.
و إن مما يسترعي الانتباه أيضاً إحالة الدكتور في تضعيف الحديث على كتاب ((مغني المحتاج))، فإن هذا من كتب الفقه! و من المعروف عند أهل العلم أنه يجب الرجوع في كل علم إلى أهل الاختصاص فيه، فهلا أحال الدكتور على كتاب من كتب الحديث الموثوقة كالتي ذكرت آنفاً؟! فهل يرضى الدكتور أن يحيله أحد في مسألة فقهية على كتاب من كتب الحديث كالسنن و غيرها؟
نعم لو أن صاحب ((مغني المحتاج)) و هو الشيخ محمد الشربيني الخطيب(24) كان من المعروفين باشتغاله بعلم الحديث و تحقيقه فيه – بالإضافة إلى معرفته بالفقه الشافعي – لكانت الإحالة المذكورة مقبولة بعض الشيء، و لكنه لم يُعرف بشيء من ذلك أصلاً، بل إن كتابه المذكور ليدل دلالة بينة على أنه بعيد جداً عن هذا العلم الشريف بعد غيره عنه! بل لعله سلفه في ذلك، فانظر إليه مثلاً يقول (1/5): ((و في ((الإحياء)) أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: قليل من التوفيق خير من كثير من العلم و في بعض الروايات (العقل بدل العلم))). فمتى كان كتاب ((الإحياء)) للغزالي مرجعاً لأهل العلم في الحديث، و هو الذي عرف عند المبتدئين في هذا العلم بأنه مكتظ بالأحاديث الضعيفة و الموضوعة و بما لا أصل له من الحديث، و منه هذا الحديث بالذات، فقد قال الحافظ العراقي في ((تخريجه)) (1/38): ((لم أجد له أصلاً))! و يقول(25) (1/13): ((و عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا انتهى في النسب إلى عدنان أمسك، ثم يقول: كذب النسابون)).
قلت: و هذا حديث موضوع كما بينته في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة و الموضوعة)) رقم (111)، و قوله (1/45) في حديث الشيخين: ((إذا استجمر أحدكم فليستجمر وتراً)): ((و صرفه عن الوجوب رواية أبي داود و هي قوله صلى الله عليه و سلم: من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، و من لا فلا حرج))، و هي رواية ضعيفة لا تصلح للصرف المذكور، ضعفها البيهقي و العسقلاني كما بينته في كتابي ((ضعيف سنن أبي داود))(26) رقم (8)، و قوله (1/512): ((روى البخاري: من صلى علي عند قبري وكل الله ملكاً يبلغني، و كفى أمر دنياه و آخرته، و كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة))، و هذا عزوه للبخاري خطأ فاحش، فإنه حديث موضوع كما بينته في السلسلة المذكورة: رقم (203)، و لعله رآه معزواً لابن النجار، فظنه محرفاً عن البخاري، فعزاه إليه بسوء تصرفه، و عدم علمه بأن في المحدثين من يعرف بـ (ابن النجار) و هو مؤلف ((تاريخ المدينة)) المعروف بـ ((الدرر الثمينة))، فقد أخرج طرفه الأول منه! ثم ذكر الشربيني بعده بسطور حديث ((من حج و لم يزرني فقد جفاني)) و قال: رواه ابن عدي في ((الكامل)) و غيره، ثم قال: ((و هذا يدل على أنه يتأكد للحاج أكثر من غيره)).
قلت: نعم، بل هو يدل على أن زيارته صلى الله عليه و سلم فرض، لأن جفوته صلى الله عليه و سلم معصية، و تركها واجب، و لكننا نقول له و لأمثاله: أثبت العرش ثم انقش! فإن الحديث المذكور موضوع بشهادة الأئمة النقاد، مثل ابن الجوزي و الصغاني و الزركشي و الذهبي و غيرهم كما بيناه في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة و الموضوعة)) (45)، و بسط الكلام عليه الحافظ ابن عبد الهادي في ((الصارم المنكي)) (ص 75 – 80) و ختمه بقوله: ((و الحاصل: أن هذا الحديث لا يحتج به و لا يعتمد عليه إلا من أعمى الله قلبه، و كان من أجهل الناس بعلم المنقولات)).
ثم ذكر في نفس الصفحة حديث توسل آدم بالنبي صلى الله عليه و سلم، و هو موضوع أيضاً كما قال الحافظ الذهبي و غيره، و قد تكلمت عليه في السلسلة المشار إليها آنفاً برقم (25)(27)، إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي لو تُتبعت، لكان منها مجلد ضخم! هذا حال مؤلف ((مغني المحتاج)) الذي أحال عليه الدكتور البوطي لمعرفة ضعف الحديث المذكور، و منه يعرف اللبيب حال المحيل عليه في هذا العلم الشريف!
7- قال (2/172): ((روي عن أنس رضي الله عنه أن النبي r كتب إلى كسرى و إلى قيصر، و إلى النجاشي، و إلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى)).
قلت الحديث في ((صحيح مسلم)) (6/166)، فتصديره إياه بقوله ((روي)) مشعر بأنه ضعيف عنده، أو أنه لا يعلم صحته، أو أنه يجهل أن هذه الصيغة و نحوها مما بني على المجهول موضوعة عند المحدثين للحديث الضعيف، و أنه لا يجوز تصدير الحديث الصحيح بـها، هذه أمور ثلاثة لا بد للدكتور من أن يلزمه أحدها، و لعل آخرها ألزمها به، فإنه من الجمهور الذي لا يهتم بالتزام قواعد علماء الحديث، كما نبه على ذلك الإمام النووي رحمه الله تعالى، و هذا إذا كان الدكتور على علم بـها!
قال النووي في مقدمة كتابه العظيم: ((المجموع شرح المهذب)) (1/63): ((قال العلماء المحققون من أهل الحديث و غيرهم: إذا كان الحديث ضعيفاً لا يقال فيه: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم، أو فعل أو أمر أو نـهى أو حكم و ما أشبه ذلك من صيغ الجزم، و كذا لا يقال فيه: روى أبو هريرة أو قال، أو ذكره، أو أخبر، أو حدث، أو نقل، أو أفتى و ما أشبهه.
و كذا لا يقال ذلك في التابعين و من بعدهم، فيما كان ضعيفاً، فلا يقال في شيء من ذلك بصيغة الجزم، و إنما يقال في هذا كله: روي عنه، أو نقل عنه، أو حكي عنه، أو بلغنا عنه، أو يقال، أو يذكر، أو يحكى، أو يروى، أو يرفع، أو يعزى، و ما أشبه ذلك من صيغ التمريض، و ليست من صيغ الجزم، قالوا: فصيغ الجزم موضوعة للصحيح أو الحسن، و صيغ التمريض لما سواهما، و ذلك أن صيغة الجزم تقتضي صحته عن المضاف إليه، فلا ينبغي أن يطلق إلا فيما صح، و إلا فيكون الإنسان في معنى الكاذب عليه صلى الله عليه و سلم، و هذا الأدب أخل به المصنف و جماهير الفقهاء من أصحابنا و غيرهم، بل جماهير أصحاب العلوم مطلقاً، ما عدا حذاق المحدثين، و ذلك تساهل قبيح، فإنـهم يقولون كثيراً في ((الصحيح)): روي عنه، و في ((الضعيف)): قال و روى فلان، و هذا حيد عن الصواب)).
قلت: و قد وقع الدكتور في القبيحتين كلتيهما! ففي هذا الحديث الصحيح قال: ((روي، و في تلك الأحاديث الضعيفة على كثرتـها لم يصدر واحداً منها بصيغة التمريض، و إنما بصيغة الجزم!
8- قال (3/181) و قد ذكر قصة تبييت بني بكر خزاعة ليلاً، و خروج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكباً من خزاعة، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم يخبرونه بما أصابـهم، قال: ((فقام و هو يجر رداءه قائلاً: لا نصرت إن لم أنصر بني كعب، مما أنصر منه نفسي))، و قال: ((إن هذا السحاب ليستهل بنصر بني كعب)) روى ذلك ابن سعد و ابن إسحاق، و هذا النص من رواية ابن سعد. قال ابن حجر: و رواه البزار و الطبراني و موسى بن عقبة و غيرهم)).
قلت: في هذا التخريج و العزو أوهام ينبغي بيانـها:
أولاً: أن القصة ليست من ((ما صح من أخبار السيرة))، لأنـها بـهذا النص عند ابن سعد (2/134) و ابن إسحاق (4/32- 37) بدون إسناد، فكيف يمكن الحكم عليها بالصحة؟!
ثانياً: هذا النص لم يروه البزار أصلاً، فعزوه إليه، و ادعاء أن ابن حجر عزاه إليه خطأ مزدوج!! فإن كلامه صريح في غير ما نسب الدكتور إليه! فإنه ذكر القصة من طريق ابن إسحاق، و عنده أن الخزاعي لما قدم على النبي صلى الله عليه و سلم و هو جالس في المسجد قال:
يا رب إني ناشد محمدا حلف أبينا و أبيه الأتلدا
… الخ الأبيات، فقال الحافظ (7/419): ((و قد روى البزار من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة بعض الأبيات المذكورة في هذه القصة، و هو إسناد حسن موصول، و لكن رواه ابن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة مرسلاً، و أخرجه أيضاً من رواية أيوب عن عكرمة مرسلاً مطولاً … و أخرجه عبد الرزاق من طريق مقسم عن ابن عباس مطولاً، و ليس فيه الشعر و أخرجه الطبراني من حديث ميمونة بنت الحارث مطولاً … و عند موسى بن عقبة في هذه القصة: قال: و يذكر أن …))
قلت: فتبين من كلام الحافظ أن البزار لم يرو القصة و إنما روى منها بعض الأبيات، فعزوها إليه خطأ واضح. و إسناد الطبراني ضعيف كما ذكرته في ((تخريج الفقه)) (ص 404)، لكن يظهر من مجموع طرقها أن لها أصلاً في الجملة، و التحقيق يقتضي تتبع ألفاظ هذه الطرق، فما اتفقت عليه منها فهو الثابت، و هذا يتطلب الوقوف على بعض المصادر التي ذكرها الحافظ، مثل كتاب ابن أبي شيبة و عبد الرزاق، و ذلك من غير الميسور الآن.
ثالثاً: تبين من كلام الحافظ الذي ذكرته آنفاً أن موسى بن عقبة لم يسق الحديث بالإسناد، و إنما علقه بقوله: ((و يذكر))، فقول الدكتور أن الحافظ قال عطفاً على البزار و الطبراني: ((و موسى بن عقبة)) فيه إيـهام أنه رواه بإسناده، و هذا يخالف الواقع في كلام الحافظ كما ذكرنا، و إنما أتي الدكتور من قلة معرفته بفن التخريج، ففي مثل هذا ينبغي أن يقال: ((و موسى بن عقبة معلقاً)) و كذلك ينبغي أن يقال في رواية ابن إسحاق و ابن سعد لهذه القصة دفعاً لما يوهم خلاف الواقع!.
9- ثم ذكر (2/167) قصة بعث النبي صلى الله عليه و سلم عبد الله بن حذافة بكتاب معه إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام ثم قال: ((خبر كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى كسرى بـهذا التفصيل من رواية ابن سعد في طبقاته، و قد ذكر ذلك البخاري أيضاً مختصراً … و قد أسند الشيخ ناصر في تعليقاته على كتاب فقه السيرة للغزالي إلى ابن سعد زيادة على ما ذكرناه لم نجدها في طبقاته، و هي أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى شواربـهما (أي الرسولين الذين أرسلهما إليه باذان) مفتولة، و خدودهما محلوقة، فأشاح عنهما و قال: ويحكما من أمركما بـهذا؟! قالا: أمرنا ربنا! يعنيان كسرى. فهذه الزيادة لم نجدها في رواية ابن سعد)).
قلت: لو أنك يا دكتور قرأت ((الطبقات)) بإمعان و نظر و تدبر فكر لوجدت الرواية التي تجزم بنفيها، أو على الأقل لو أحسنت الرجوع إليه و البحث فيه لوجدتـها، و لكن من كان عاجزاً عن استخراج ترجمة فضالة الليثي من كتاب ((الإصابة)) و تراجمه مرتبة على حروف ألف باء!(28) فبالأحرى أن يعجز عن استخراج هذا الحديث من ((الطبقات)) و أحاديثه غير مرتبة على طريقة تشبه في سهولة العثور على المطلوب منه طريقة ترتيب التراجم! ثم إن من يقرأ قول الدكتور في هذه الزيادة ((و لم نجدها في طبقاته))! ليتبادر إلى ذهنه أن الدكتور قرأ ((الطبقات)) كله، و استخرج منه فوائده و كنوزه، و أودعها كتابه هذا! و لكنه مع ذلك لم يجد الزيادة فيها! و الحقيقة أن الدكتور لم يفعل ذلك، بل هو لم يتعب نفسه البتة – و الله أعلم – في سبيل البحث عن هذه الزيادة في ((الطبقات))، و كل الذي فعله أنه رجع إليه في الفصل الخاص ببعثة رسول الله صلى الله عليه و سلم الرسل بكتبه إلى الملوك … هذا الفصل الذي نقل منه الدكتور القصة المشار إليها آنفاً، لم يتعده إلى غيره أصلاً، و لو فرضنا أنه تعداه، فذلك دليل واضح على أن الدكتور لم يتمرن بعد على طريقة البحث و التحقيق، و أن بعض طلبته خير منه في هذا السبيل، كما يأتي بيانه، فإن الحديث الذي يتعقبني فيه لما كنت خرجته في التعليق على ((فقه السيرة)) للشيخ الغزالي لم يكن تخريجي إياه على طريقة الدكتور الغالبة عليه، و هي العزو المهمل من ذكر الأجزاء و الصفحات، كلا، فقد قلت في تخريجه (ص 389):
((حديث حسن، أخرجه ابن جرير (2/267 – 267)(29) عن يزيد بن أبي حبيب مرسلاً؛ و ابن سعد في ((الطبقات)) (ج1 ق 2 ص147) عن عبيد الله بن عبد الله مرسلاً أيضاً، و سنده صحيح، ووصله ابن بشران في ((الأمالي)) من حديث أبي هريرة بسند واه و فيه من الطرق الثلاث زيادة كان يحسن إيرادها و هي: (لكني أمرني ربي عز و جل أن أعفي لحيتي، و أن أحفى شاربي))).
ففي قولي: "ج" كذا "قسم" كذا "صفحة" كذا، أكبر تنبيه للقاريء العادي بله الدكتور أن هذا الحديث في ((الطبقات)) في مكان آخر غير المكان الذي نقل هو منه القصة المشار إليها فيما سبق، و فيه تنبيه آخر، و هو قولي ((عن عبيد الله مرسلاً أيضاً و سنده صحيح)). ووجه التنبيه يعرفه الدكتور جيداً، فإنه يعلم أن القصة ليس لها إسناد عند ابن سعد! بخلاف هذا فكل ذلك كان كافياً لينبه(30) الدكتور على أن لا يبادر بالنقد و الإنكار، و لكن يبدو أن الإناء امتلأ فلا بد أن ينضح بما فيه! نعم لقد وجدنا له عذراً في ذلك، و لكنه عذر لا يليق بمقام دكتور مثله و قد يقبل ممن هو دون مستوى أي طالب من طلابه في كلية الشريعة! و هو أن رقم الصفحات المشار إليها (147) سقط من الآلة الطابعة رقم المئات منها، فصار هكذا (ص 47)(31) فمن المحتمل أن الدكتور لم يبحث مطلقاً، و كل ما فعله أنه رجع إلى هذا الرقم فلما لم يجد الزيادة فيه قال: ((لم نجدها في طبقاته))! و لو أنه أنصف و كان مخلصاً في نقده لقال: ((لم نجدها في المكان الذي أشار إليه الألباني من ((الطبقات))، و لكنه يريد أن يتشبع بما لم يعط، و أن ينقد بغير حق، فما يكون جزاء من يفعل ذلك إلا أن يصدق فيه قول القائل: ((و على الباغي تدور الدوائر)).
ثم إن الدكتور آثر رواية ابن سعد التي لا إسناد لها على رواية البخاري في ((صحيحه)) لا لشيء إلا لأنـها مفصلة، و رواية البخاري مختصرة! ثم هو يزعم أنه اعتمد على ما صح من الأخبار! لقد صرت أعتقد أن الصحة التي يعنيها الدكتور غير الصحة التي يعنيها أهل العلم، فما هي؟! لست أدري، إلا أن تكون هي التي توافق هوى الشخص و مزاجه كما يفعل بعض الكتاب المعاصرين، فهل تأثر بـهم الدكتور؟ إذا كان الجواب: لا، فإذن ما هي الصحة التي يعنيها و هو يسوق عشرات النصوص على أنـها صحيحة، و هي ليست كذلك على قواعد أهل العلم، ما هيه إذن ما هيه؟!(32)
10- قال (2/287): ((فقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه و سلم لما رجع من البقيع استقبلته و هي تقول: و ارأساه، فقال لها r: بل أنا و الله يا عائشة وارأساه. رواه ابن إسحق و ابن سعد)).
قلت: فيه مؤاخذات:
الأولى: اقتصاره في تخريجه على ابن إسحاق و ابن سعد، و هو يشعر أنه لم يروه من هو أشهر منهما، و ليس كذلك فقد أخرجه أحمد و الدارمي و ابن ماجه و الدارقطني و البيهقي كما هو مخرج في كتابي ((أحكام الجنائز و بدعها)) (ص 50 – طبع المكتب الإسلامي).
و الأخرى: تصديره إياه بقوله: ((روي)) المشعر بأنه ضعيف في اصطلاح المحدثين كما هو مقرر في علم ((المصطلح)) و نبه عليه الإمام النووي في مقدمة كتابه ((المجموع شرح المهذب)). و الدكتور في هذا التصدير مخطيء سواء كان يعلم هذا الاصطلاح ووضعه في محله عنده أم لا.
أما الأول، فلأن إسناده ثابت كما بينته في المصدر السابق، فكيف يصدره بصيغة التمريض إن كان يعلم، و أما الآخر و هو أ، يكون لا علم عنده بـهذا الاصطلاح أو عنده علم به و لكنه وضعه في محله بزعمه، فهو زعم باطل كما سبق.
11- ذكر (2/289 – 290) قصة صلاته صلى الله عليه و سلم بالناس في مرض موته و فيها: ((فجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى جنب أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو جالس، و كان الناس يصلون بصلاة أبي بكر)).
ثم قال معلقاً عليه: ((رواه البخاري في كتاب الصلاة باب من قام إلى جنب الإمام لعلة و مسلم في كتاب الصلاة باب استخلاف الإمام و مالك في الموطأ كتاب صلاة الجماعة باب صلاة الإمام و هو جالس و غيرهم، و من العجيب أن الشيخ ناصر خرج هذا الحديث في تخريجه لأحاديث فقه السيرة للغزالي فعزاه إلى الإمام أحمد و ابن ماجه فقط، و زاد على هذا أن أخذ يحقق نسبة ضعف إليه بسبب أن فيه أبا إسحق السبيعي، مع أن الحديث متفق عليه، و له طرق غير هذا الذي اهتم بتحقيقه!! …))
قلت: الذي أعتقده أن القاريء الكريم سيتعجب من تعجب الدكتور إذا ما كشفنا ما في كلامه من تحامل مكشوف، و جهل فاضح بعلم التخريج، و بين يدي ذلك لا بد من أن أنقل كلامي في تخريج الحديث الذي أشار إليه الدكتور فأبدأ أولاً بذكر نصه في كتاب ((الفقه)) ثم أثني بكلامي عليه، قال فضيلة الشيخ الغزالي حفظه الله تعالى (ص 501):
((قال ابن عباس: لما مرض النبي r أمر أبا بكر أن يصلي بالناس ثم وجد خفة فخرج، فلما أحس به أبو بكر أراد أن ينكص، فأومأ إليه الرسول صلى الله عليه و سلم فجلس إلى جنب أبي بكر عن يساره، و استفتح من الآية التي انتهى إليها أبو بكر، فكان أبو بكر يأتم بالنبي، و الناس يأتمون بأبي بكر))
فقلت في تخريجه ما نصه: ((صحيح أخرجه أحمد (2055 و 3330 و 3355) و ابن ماجة (1/373) من طريق أبي إسحاق عن الأرقم بن شرحبيل عن ابن عباس، و رجاله ثقات لكن أعله البوصيري بأن أبا إسحق – و هو السبيعي – اختلط بآخر عمره، و كان مدلساً، و قد رواه بالعنعنة. قلت: لكن تابعه عبد الله بن أبي السفر، إلا أنه قال: عن ابن عباس عن العباس، فجعله من مسند العباس، و هذا اختلاف يسير لا يضر في صحة الحديث إن شاء الله. و قد رواه من هذا الوجه أحمد أيضاً (1784 و 1785))).
فإذا وقفت أيها القاريء الكريم على تخريجي هذا، و قابلته بما نسبه الدكتور إلي تبين لك الحقيقتان الآتيتان:
الأولى: أن الحديث الذي خرجته هو غير الحديث الذي قال الدكتور فيه رواه البخاري … الخ. و يدل على ذلك أمران اثنان:
الأول: أن فيه قوله: ((و استفتح من الآية التي انتهى إليها أبو بكر))! و هذا ليس في حديث الشيخين!
و الآخر: أنه من حديث ابن عباس، و حديث الشيخين إنما هو من حديث عائشة، كما لا يخفى على من رجع إلى المواطن التي أسماها الدكتور من تلك الكتب، و إذا كان كذلك، فلا يجوز عند أحد أوتي ذرة من المعرفة بـهذا العلم عزو حديث ابن عباس للصحيحين لمجرد أنـهما أخرجا أصل الحديث من رواية عائشة رضي الله عنها. أي فلا يجوز لأحد سليم العقل و العلم أن يقول في حديث ابن عباس: ((أخرجه الشيخان))! فإنه كذب واضح عليهما، و هذا أمر ظاهر لا يحتاج إلى برهان، و لا يناقش فيه أحد من طلاب العلم، و لذلك استدركه على الشيخين الضياء المقدسي فأورده في كتابه الذي سماه ((الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري و مسلم)) (58/185/1). فهل خفي هذا على الدكتور، حتى تعجب من عزو الحديث إلى أحمد و ابن ماجه فقط، أم الأمر كما قيل:
و عين الرضى عن كل عيب كليلة و لكن عين السخط تبدي المساويا
نسأل الله السلامة.
و الحقيقة الأخرى: هي أنني صححت الحديث، و صرحت بذلك في مطلع التخريج، ثم حكيت ما أعله البوصيري، ثم رددته بالمتابعة، المذكورة، فكيف جاز للدكتور أن يوهم القراء أني ضعفت الحديث بقوله: ((و زاد على هذا أن أخذ يحقق في نسبة ضعف إليه …)) أفيفعل هذا من يخاف الله؟!(33)
12- قال (2/291): ((و كان بين يديه (يعني النبي صلى الله عليه و سلم) ركوة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بـها وجهه و يقول: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات. رواه البخاري في باب مرض الرسول صلى الله عليه و سلم … و هذا أيضاً مما و هم الشيخ ناصر في تخريجه، فقد قال عنه: ضعيف أخرجه الترمذي و غيره عن (كذا) طريق موسى بن سرجس بن محمد عن عائشة! … و هو مروي في البخاري بطريق غير هذا)).
قلت: هذا تدليس بل جهل آخر من الدكتور كنت أود أن لا يتردى فيه فأنا لم أخرج البتة هذا النص الذي أورده من رواية البخاري و إنما خرجت نصاً آخر في كتاب الشيخ الغزالي بلفظ: ((و يقول: اللهم أعني على سكرة الموت)) فهذا هو الذي ضعفته و عزوته للترمذي، و ذكرت في تخريجه (499) أن الترمذي نفسه ضعفه بقوله: ((حديث غريب)) و قلت: ((يعني ضعيف لأن موسى هذا لم يوثقه أحد فهو مجهول)).
فهل الدكتور لا يفرق بين رواية البخاري التي هي بلفظ: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات)). و بين رواية الترمذي التي تقول: ((اللهم أعني على سكرة الموت))؟! إذا كان الدكتور لا يفرق بينهما كما يدل عليه كلامه المذكور، فقد سقط الكلام معه إذ الأمر حينئذ كما قال الشاعر:
و ليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
و إن كان يفرق بينهما كما هو الظاهر لكل ذي عينين، فأين الوهم المزعوم يا حضرة الدكتور، و ما غرضك من ادعائك إياه؟!
بل أقول: إنك أنت الواهم أيها الدكتور! لأنك تريد مني أن أعزو لفظ الترمذي الذي ضعفه الترمذي نفسه إلى البخاري الذي لفظه مغاير للفظ الترمذي، و هذا لا يجوز عند من شم رائحة هذا العلم الشريف.
و خطأ الدكتور في هذا الحديث كخطئه في حديث ابن عباس المتقدم، فكما أراد مني هناك أن أعزوه للشيخين اللذين أخرجاه من حديث عائشة دون الزيادة لمجرد تعلقهما بحادثة واحدة، فكذلك أراد مني مثله في هذا الحديث مع أنه ضعيف! و يقيني أن الدكتور لا يعلم أن القواعد الحديثية تقتضي أن رواية الترمذي منكرة لمخالفتها لرواية البخاري الصحيحة مع اتحاد راوي الحديث و هي السيدة عائشة رضي الله عنها، لجهالة راويها، و ثقة راوي رواية البخاري(34).
و إذا كان هذا علم الدكتور في الحديث الشريف؛ عشرات الأحاديث الضعيفة و المنكرة و ما لا أصل له يسوقها بصيغة الجزم، و قدم لها أنـها مما صح من الأخبار و هي ليست كذلك، ثم ينتقد غيره بدون علم و لا إنصاف فماذا يكون حال الكتاب في نصوصه الأخرى لو توجهت الهمة إلى نقدها؟!
و ختاماً فإني أنصح الدكتور أن لا يكتب إلا في علم أتقنه، و تمرس فيه مدة من الزمان، و أن يكون رائده في ذلك النصح للمسلمين و الإخلاص لرب العالمين، بعيداً عن التأثر بخلق الحقد و الحسد، فذلك أجدى له و أنفع في الدنيا و الآخرة، قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في ((التقريب)) (ص 232) ما مختصره: ((علم الحديث شريف، يناسب مكارم الأخلاق، و محاسن الشيم، و هو من علوم الآخرة، من حرمه حرم خيراً عظيماً، و من رزقه نال فضلاً جزيلاً، فعلى صاحبه تصحيح النية، و يطهر قلبه من أغراض الدنيا، و ليستعمل الأخلاق الجميلة و الآداب، ثم ليفرغ جهده في تحصيله و لا يحملنه الشره على التساهل في التحمل فيخل بشيء من شروطه و ينبغي أن يستعمل ما يسمعه من أحاديث العبادات و الآداب فذلك زكاة الحديث و سبب حفظه، و ليحذر كل الحذر من أن يمنعه الكبر من السعي التام في التحصيل و أخذ العلم ممن دونه في نسب أو سن أو غيره، و لا ينبغي أن يقتصر على سماعه و كتبه دون معرفته و فهمه، فليتعرف صحته و ضعفه، و معانيه و لغته و إعرابه، و أسماء رجاله، محققاً كل ذلك، وليشتغل بالتخريج و التصنيف إذا تأهل له، و ليحذر إخراج تصنيفه إلا بعد تـهذيبه و تحريره، و تكريره النظر فيه و ليحذر من تصنيف ما لم يتأهل له)).
و بـهذه النصائح العظيمة، أختم هذه البحوث الآن، راجياً المولى سبحانه و تعالى أن ينفع بـها كل من قرأها بقلب سليم. و الحمد لله رب العالمين.
و بعد كتابة ما تقدم بزمن بعيد وقفت على الطبعة الثالثة من هذا الكتاب ((فقه السيرة)) للدكتور البوطي، و قد زعم في مقدمتها ((أن القاريء لن يرى فيها أي زيادة على الطبعة التي قبلها و لا شيئاً من مظاهر التغيير و التبديل إلا ما لا بد منه إصلاحاً و تنقيحاً)). فوجدت فيها أخطاء عديدة و جهالات جديدة جاءت في الزيادات التي في الطبعة التي قبلها. يعني الطبعة الثانية، و لم يتح لي الاطلاع على هذه الطبعة لنرى مدى مطابقة زعمه هذا للواقع، فقد سبق للدكتور مثله في مقدمة الطبعة الثانية لرسالته ((اللامذهبية))، مع أن الواقع شهد بخلافه كما أثبت ذلك بالأرقام صاحبنا الأستاذ عيد عباسي في ((ملحق بدعة التعصب المذهبي)) ص (51 – 58) و من ذلك أنه كان عزا في الطبعة الأولى من ((اللامذهبية)) ص 61 حديثاً للبزار و الطبراني فقط، فزاد في طبعتها الثانية (ص 77) ((و روى الشيخان عن عائشة قريباً منه بلفظ …)) فذكره، و العجيب أن هذا التخريج أخذه البوطي من رد الأستاذ عباسي عليه في ((بدعة التعصب)) دون أن يعزوه إليه! تماماً كما فعل في بعض تعديلاته السابقة التي نبهت عليها في الأحاديث الثلاثة المتقدمة (ص 50 – 59)، (و انظر الملحق المشار إليه ص 53).
و لا فائدة كبرى من التوسع في هذا المجال، و إنما المهم الآن أن أنبه على تلك الأخطاء الجديدة كي لا يغتر بـها القراء الكرام لا سيما و قد أكد المؤلف في مقدمتها أنه لم يسجل في كتابه هذا من أحداث السيرة إلا أهمها و أصحها! فإن الدين النصيحة كما قال صلى الله عليه و سلم، و لأذكرها على الترتيب الذي وقعت في كتابه ((الفقه)) فأقول:
[1-] قال (ص 55 – 56) تعليقاً على قصة بحيرا: ((باختصار عن سيرة ابن هشام 1/180 و رواه الطبري في تاريخه 2/287 (1) و رواه البيهقي في سننه و أبو نعيم في الحلية، و يوجد بين هذه الروايات بعض الخلاف في التفصيل و انفرد الترمذي بروايته مطولاً على نحو آخر، و لعل في سنده بعض اللين (!) فقد قال هو نفسه بعد أن رواه: (هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه)، و في سنده عبد الرحمن بن غزوان قال عنه في الميزان: له مناكير، ثم قال: أنكر ما له حديثه عن يونس بن أبي إسحاق … في سفر النبي صلى الله عليه و سلم و هو مراهق مع أبي طالب إلى الشام، و قال عنه ابن سيد الناس: في متنه نكارة (راجع عيون الأثر 1/43) و الغريب أن الشيخ ناصر الدين الألباني قال عنه – رغم هذا – في تخريجه لأحاديث ((فقه السيرة)) للغزالي: إسناده صحيح!! و لم ينقل من تعليق الترمذي عليه إلا قوله: هذا حديث حسن! … و من عادته أن يضعف ما هو أصح من هذا الحديث بكثير. هذا و أما القدر المشترك من القصة فثابت في الطبعة الأولى بطرق كثيرة لا يلحقها وهن)).
و جواباً عليه أقول: إن أمر هذا الدكتور البوطي لعجيب حقاً، فإنه لم يكتف بما تعقبني به في تلك الأحاديث الثلاثة التي كان أخونا عيد كشف للناس عن جهله فيها، فاضطر الدكتور إلى الاعتراف ببعض أخطائه و المكابرة في سواها في هذه الطبعة الثالثة كما سبق بيانه، بل إنه عاد إلى الرد علي في هذا الحديث ليؤكد من جديد جهله في علم الحديث، و إليك البيان:
أولاً: عزوه القصة لابن هشام و اعتماده عليه فيها دون الآخرين لا فائدة منه، بل هو قلب للصواب، لأنـها عنده معلقة بدون إسناد، و هي عند الآخرين مسندة فالاعتماد عليهم أولى.
ثانياً: إن إسناد القصة منتقدة لدى الدكتور، فلم يبق في يده شيء ثابت يعتمد عليه، فكيف مع هذا يقول فيما تقدم نقله عنه اعتمدت أولاً على صحاح السنة. ثانياً على ما صح من أخبار السيرة؟! فكيف يصح هذا الذي اختصر من ((سيرة ابن هشام)) و لا إسناد له، و ما من إسناد إلا يعرج عليه بل و ينتقده(35)؟!
ثالثاً: قوله ((و انفرد الترمذي بروايته مطولاً …)) ليس بصحيح فقد شاركه في روايته كذلك مطولاً الطبري في الموضع الذي أشار إليه الدكتور طبع دار المعارف برقمه المذكور إلا أن الصواب فيه (2/278) و ليس (2/287) و كذلك رواه الآخران، و هذا مما يدل اللبيب أن الدكتور لا ينقل مباشرة عن كتب الأئمة، و إلا لما وقع في هذا التقصير الواضح الفاضح!
رابعاً: قوله ((و البيهقي في سننه و أبو نعيم في الحلية)) خطأ أيضاً، نشأ من جهل البوطي بكتب أئمة الحديث و عدم تقليبه إياها و استفادته منها، و هو إنما ينقل عمن نقل عنها إلا نادراً، و غالب الظن أنه نشأ من كونه رأى بعضهم عزاه للبيهقي و أبي نعيم، فتوهم لقلة علمه أن المراد به كتابـيهما(36) ((السنن)) و ((الحلية)) و إنما المراد كتابيهما المسمى كل منهما بـ ((دلائل النبوة)) و هو فيه عند أبي نعيم (1/53) و البيهقي (1/308 – 309).
خامساً: قوله ((لعل في سنده بعض اللين … إلى قوله: من هذا الوجه)).
أقول:
أولاً: ألا يكفي القاريء الكريم دلالة على جهل البوطي بـهذا العلم قوله هذا؟ فإن الذي يريد أن يحقق الكلام على حديث ما لا سيما إذا كان في صدد الرد على غيره كما هو شأن الدكتور هنا لا يسوق الكلام بـهذا الوهن كالذي يقال فيه: يقدم رجلاً و يؤخر أخرى، متوكئاً على عصاه (لعل)، و هي كلمة طمع و إشفاق كما هو معلوم.
و ثانياً: إن سلمنا أن في السند بعض الوهن فماذا، و ما معنى الانتقاد حينئذ و تسويد الورق و إضاعة الوقت على القراء، و كل دارس لعلم المصطلح يعلم أن الحديث الحسن فيه بعض الضعف، لأنه فوق الحديث الضعيف و دون الصحيح، و كذلك راوي الحديث الحسن هو في الحفظ دون راوي الحديث الصحيح، فكل حديث حسن فيه بعض اللين، و لذلك فلا تعارض بين هذا و بين تحسين الترمذي إياه.
و الحقيقة أن في كلام البوطي على هذا الحديث ركة و عجمة و جهلاً و عياً لا يتبين منه مراده، لأن قوله هذا و استدلاله بما نقله عن الترمذي يمكن تفسيره بأنه يعني أن الحديث ليس صحيح الإسناد و إنما هو حسن فقط، و قول الترمذي دليل على ذلك كما بينت آنفاً، و حينئذ فهل من أجل هذا الفرق الزهيد نصب نفسه للرد على تصحيح الألباني؟! ذلك مما لا أعتقده، بدليل قوله بعد عني: ((و لم ينقل من تعليق الترمذي عليه إلا قوله: هذا حديث حسن)). فهذا يشعر القاريء اللبيب أنه يغمز مني لهذا التقصير في النقل عن الترمذي(37). و لا يعقل وجه التقصير في منطق البوطي إلا على اعتبار أن عبارة الترمذي بتمامها أقرب إلى التضعيف منها إلى التصحيح من عبارته حسب نقلي عنه و لذلك غمز مني! و لم يدر المسكين أن العكس هو الصواب عند غير البوطي ممن لهم معرفة بـهذا العلم، فإنـهم يعلمون أن الحديث الذي يقول فيه الترمذي: ((حسن غريب))، هو أقوى من الحديث الذي يقول هو فيه: ((حسن فقط))! ذلك لأن قوله الأول يعني حديث حسن لذاته، و قوله الآخر يعني حسن لغيره، و قد أفصح عن هذا الأخير في آخر كتابه ((السنن))(38)، و بينه الحافظ في ((شرح النخبة)) (ص 11 – الميمنية)، و صرح بعد ذلك (ص 25) أن هذا منحط عن رتبة الحسن لذاته فإذا تبين هذا فهل يعقل أن يصدر الغمز المذكور من الدكتور لو كان يعلم أن قول الترمذي: ((حديث حسن غريب)) أعلى مرتبة من قوله: ((حديث حسن)) اللهم لا، إذ أن هذا القول يفهم منه القاريء العارف بعلم المصطلح أن في إسناد الحديث ضعفاً تقوى بمثله كما سبق، و لو أن الدكتور كان يفهم هذا، لكان صب انتقاده عليه، و لأصاب حقاً، و لكنه لما كان لا يعلم هذه الحقيقة غفل عن هذا النقد الصحيح، و وقع في ما ينتقد هو فيه لعدم دراسته لهذا العلم الشريف إلا بمقدار ما يحصل به الشهادة، ثم … عليه السلام!
و يلوح لي أن الذي غر الدكتور و أوقعه في هذا الخطأ الفاحش أن قول العلماء: ((حديث غريب)) يعنون أنه ضعيف غالباً، و لم يعلم أن الغرابة قد تجامع الصحة فضلاً عن الحسن أحياناً، كما في قول الترمذي في هذا الحديث، و هو كما يجمع أحياناً في الحديث الواحد بين لفظي: ((حسن صحيح)) و يجمع بين لفظي ((حسن غريب)) و كما أن الحديث الذي قال فيه ((حسن صحيح)) دون ما قيل فيه ((صحيح)) على وجه بينه الحافظ (ص 12) فتوهم الدكتور أن الحديث الذي قال فيه الترمذي: ((حسن غريب)) دون الذي قال فيه: ((حسن)) في علم البوطي محرم الاجتهاد فيما اختلف فيه الفقهاء، و المجتهد اجتهاداً مطلقاً في علم الحديث و الآتي فيه بما لم تستطعه الأوائل!
سادساً: قوله ((و في سنده عبد الرحمن بن غزوان قال عنه في الميزان: له مناكير ثم قال: أنكر ماله حديثه عن يونس بن أبي إسحاق … في سفر النبي صلى الله عليه و سلم و هو مراهق مع أبي طالب إلى الشام)).
قلت: و هذا مما يدل على جهل الدكتور بـهذا العلم، فإن قول الذهبي في ابن غزوان: ((له مناكير)) ليس جرحاً يسقط الحديث عن درجة الثبوت، و لو في مرتبة الحسن، و ذلك من وجهين:
الأول: أن قول الذهبي أو غيره في الراوي: ((له مناكير)) ليس بجرح مطلقاً خلافاً لصنيع البوطي هنا لا سيما إذا كان ثقة كما هو شأن ابن غزوان هذا على ما يأتي بيانه، قال الذهبي في ((الميزان)) (1/56): ((و ما كل من روى المناكير ضعيف)). و قال الإمام ابن دقيق العيد: ((قولهم: ((روى مناكير)) لا يقتضي بمجرده ترك روايته حتى تكثر المناكير في روايته و ينتهي إلى أن يقال فيه: منكر الحديث، لأن منكر الحديث و صف في الرجل يستحق به الترك لحديثه)). (راجع فتح المغيث للسخاوي 1/346 – 347)(39).
الثاني: أن ابن غزوان هذا قد وثقه جماعة منهم ابن المديني شيخ البخاري و ابن نمير و يعقوب بن شيبة و الدارقطني و غيرهم، و أخرج له البخاري في ((صحيحه)) فقد جاوز القنطرة كما يقول الذهبي في أمثاله، و صحح حديثه هذا جماعة يأتي ذكرهم ومنهم الحافظ ابن كثير، فقد قال في ((السيرة)) (1/247): ((و هو من الثقات الذين أخرج لهم البخاري، ووثقه جماعة من الأئمة و الحفاظ، و لم أر أحداً جرحه و مع هذا في حديثه غرابة، ثم بين وجهها على النحو الآتي ذكره عن ابن سيد الناس، فكيف استجاز البوطي كتمان هذه النصوص موهماً القراء أن ابن غزوان ليس فيه إلا قول الذهبي: ((له مناكير)) مع أنه ليس جرحاً على التحقيق كما سبق، و الواقع أنه ثقة عند الجمهور كما رأيت. أفليس هذا من الكتمان الذي قال فيه عليه الصلاة و السلام: ((من كتم علماً ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)). رواه ابن حبان في ((صحيحه)) و الحاكم و صححه هو و الذهبي، فحسبه!
و إن له من مثل هذا الكتمان الشيء الكثير كما يأتي، و لا أذهب بك بعيداً فإنه لم ينقل كلام الذهبي بتمامه، و كذلك صنع في كلام ابن سيد الناس، و في كلامي أيضاً، فهو يأخذ من كلامهم ما هو له، و يدع ما هو عليه تدليساً و تعمية على الناس، لأنه لو نقل كلام كل واحد منهم كاملاً لظهر التناقض بين كلماتـهم، و لما استفاد هو من ذلك شيئاً مطلقاً في تأييد وجهة نظره، فهو يريد بـها دعم قوله المتقدم: ((و لعل في سنده بعض اللين)) و إذا بتمام كلامهم رد عليه، لأن كلام ابن سيد الناس يؤيد صحة الإسناد، و كلام الذهبي صريح في حكمه على الحديث بالوضع، و البوطي لا يتبنى لا هذا و لا هذا و لذلك لم ينقله، فتمام كلام الذهبي الذي تقدم ص 66 ذكر أوله الذي اقتصر عليه البوطي: ((… و مما يدل على أنه باطل قوله: ((و رده أبو طالب، و بعث معه أبو بكر بلالاً)) و بلال لم يكن بعد خلق، و أبو بكر كان صبياً)).
فأنت ترى أيها القاريء الكريم كيف أن البوطي أخذ من كلام الذهبي و تسلح به ضد تصحيح الألباني، و ترك هذه التتمة لأنـها عليه تبنيه للقصة و لو على مرتبة ((بعض اللين))! لأن الذهبي يصرح فيها بالبطلان!! و لو أنه كان عالماً حقاً أميناً لنقل التتمة و رد عليها بالحجة و البرهان، و لكن أنى له ذلك و هو عاجز عن الرد بـها على الألباني، فكيف يرد على الحافظ الذهبي؟!
فإن قيل فهذه التتمة فيها رد عليك أيضاً، فالجواب نعم، و لكني قد رددت عليها مفصلا بعد أن نقلت كلامه هذا في ((الميزان))، و كلامه في ((التلخيص))، و كلامه في ((تاريخ الإسلام)) في مقال لي كنت نشرته في العدد الثامن من المجلد السادس من مجلة ((المسلمون)) محرم سنة 1379 تحت عنوان ((حديث تظليل الغمام له أصل أصيل))، رداً على الأستاذ على الطنطاوي الذي زعم يومئذ أنه لا أصل له! فمن شاء التفصيل فليرجع إليه.
و خلاصة الرد عليه من وجهين:
الأول: معارضته بتصحيح من صححه و قواه(40) و هم جمع من الأئمة كما يأتي.
و الآخر: أنه لا يلزم من خطأ الثقة في جملة من الحديث أن يكون الحديث كله منكراً أو موضوعاً، لأن الوضع إنما يثبت بكون الراوي وضاعاً كذاباً. و هذا منفي قطعاً، و إنما يكون المتن نفسه موضوعاً بدلالة أمور علمية لا علاقة لها بالإسناد، و هذا لا وجود له أيضاً هنا مطلقاً، اللهم إلا جملة أبي بكر و بلال، فهي وحدها المنكرة، و هذا ما صرحت بإنكاره في تخريجي للحديث في ((فقه السيرة)) للغزالي، فكتمه البوطي أيضاً كما يأتي.
ثم أتبعت ذلك المقال بمقال آخر كتبته بتاريخ 3/1379 و نشر في المجلد 26 من هذه المجلة الزاهرة ((التمدن الإسلامي)) تحت عنوان ((حادثة الراهب بحيرا حقيقة لا خرافة)) ص 167 – 175 رداً على من زعم أنه لا سند لها، و قد حققت فيه رداً لبعض الشبهات أن الراهب لم يسم مطلقاً في هذه الرواية الثالثة عن أبي موسى، و إنما سمي في رواية ابن إسحاق التي اعتمدها البوطي و هي ضعيفة معضلة كما تقدم! و في أخرى فيها الواقدي الكذاب!!
سابعاً: قال: ((و قال عنه ابن سيد الناس: في متنه نكارة (راجع عيون الأثر 1/43))).
قلت: قد راجعت فرأيت البوطي قد بتر كلام ابن سيد الناس كما صنع بكلام الذهبي و غيره، فإن تمامه في الموضع الذي أشار إليه البوطي لا في غيره!
((قلت: ليس في إسناد هذا الحديث إلا من خرج له في ((الصحيح))، و عبد الرحمن بن غزوان أبو نوح ثقة، و قد انفرد به البخاري، و يونس ابن أبي إسحق تفرد به مسلم، و مع ذلك فيه نكارة، و هي إرسال أبي بكر مع النبي r بلالاً، فكيف و أبو بكر حينئذ لم يبلغ العشر سنين)).
قلت: فلينظر القاريء بأي وجه من دين أو خلق يستجيز الدكتور البوطي طي هذه التتمة من كلام ابن سيد الناس، و هي ترد عليه رده على الألباني، و تؤكد مخالفته لأئمة الحديث المتقدمين منهم و المتأخرين في توثيقهم لابن غزوان بمحاولته ((نسبة ضعف إليه))! متشبثاً بقول الذهبي المتقدم؟!
و الحقيقة أن كلام ابن سيد الناس مطابق لكلامي تمام المطابقة كما يظهر بداهة لولا أن البوطي بتره أيضاً كعادته، عامله الله بما يستحق، و هو في قوله المتقدم و الآتي:
ثامناً: قال: ((و الغريب أن الشيخ ناصر الدين الألباني قال عنه – رغم هذا – (!) في تخريجه لأحاديث ((فقه السيرة)) للغزالي: إسناده صحيح)).
قلت: لست وحدي القائل، فإن تمام كلامي بعد ذكري لتحسين الترمذي إياه: قلت: و إسناده صحيح كما قال الجزري، و قال: ((و ذكر أبي بكر و بلال فيه غير محفوظة)) قلت: و قد رواه البزار فقال: ((و أرسل معه عمه رجلاً)).
فأقول الآن: لقد تنبهت لأمر كنت عنه غافلاً، و الفضل في ذلك يعود إلى الحافظ ابن كثير، فإن استنكار تلك الزيادة و اعتبارها غير محفوظة، إنما هو بناء على أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن وقتئذ قد بلغ العشر سنين كما تقدم عن ابن سيد الناس، و لا يشك أي محدث نبيه أنه لإثبات النكارة المزعومة لا بد من إثبات السند المذكور، و أن يكون أصح من إسناد ابن غزوان راوي الحديث و فيه الزيادة حتى يجوز لنا إنكارها.
و من الظاهر من كلام ابن كثير في ((السيرة))، أنه ليس هناك إلا ما حكاه السهيلي عن بعضهم أنه كان عمره عليه الصلاة و السلام إذ ذاك تسع سنين و عن الواقدي عن داود بن الحصين اثنتي عشرة سنة و بمثل هذا لا يجوز توهيم الثقة؛ لأن الرواية الأولى معضلة، و الأخرى مرسلة، و يكفي في ردها أنـها من رواية الواقدي، و لعل هذا هو وجه من لم يتعرض لبيان النكارة المذكورة كالترمذي و الحاكم و البيهقي. و الله تعالى أعلم.
و بعد أفلا ترى أيـها القاريء الكريم كم في نقل البوطي عني و عن ابن سيد الناس من الإخلال بالأمانة العلمية في النقل؟
1- أوهم القاريء أنني متفرد بالتصحيح المذكور و الواقع أنه سبقني إليه ابن سيد الناس و الجزري كما ترى و غيرهم ممن يأتي ذكرهم قريباً.
2- أوهمهم أنني اقتصرت على تصحيح الإسناد دون أن أبين ما في متنه من جملة غير محفوظة(41)، و الواقع خلافه، بل تبعت ابن سيد الناس و الجزري في استنكار تلك الجملة التي استند إليها الذهبي في الحكم على الحديث كله بالوضع فأخطأ كما سبق بيانه، و زدت عليهما أنني ذكرت لفظ رواية البزار الذي لا غبار عليه فكيف استساغ الدكتور البوطي هذا النقل المبتور؟! فإذا كان لا يستحي أن يفتضح بذلك عند القراء بعد انكشاف أمره أفلا يخشى الله؟! و صدق الله القائل: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}.
و الحقيقة أن علماء الحديث متتابعون على تصحيح هذا الحديث و توثيق ابن غزوان مع بيان أكثرهم لنكارة الجملة كما حققته في المقال المنشور في مجلة ((المسلمون)) و قد سبقت الإشارة إليه، فإليك أسماء المصححين له منهم:
1- الترمذي.
2- الحاكم.
3- ابن سيد الناس.
4- الجزري.
5- ابن كثير.
6- العسقلاني.
7- السيوطي.
و الخلاصة أن البوطي قد خالف كل هؤلاء الأئمة حين حاول أن ((يحقق في نسبة ضعف إليه))، فلم ينجح لجهله و عدم معرفته بعلم الجرح و التعديل. مع ما جاء في كلامه من كتمان العلم، و إيثاره رواية ابن إسحاق التي لا إسناد لها على رواية ابن غزوان الثقة.
تاسعاً: قوله: و لم ينقل من تعليق الترمذي عليه إلا قوله: ((هذا حديث حسن))!
قلت: نعم فكان ماذا؟! فإن تمام قول الترمذي ((غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه)) فهل في هذا التمام ما يدعمه، أم ما يرد عليه؟ إن البوطي ظن الأول و ذلك من جهله البالغ بـهذا العلم كما سبق بيانه في الفقرة الخامسة فلا داعي للإعادة.
عاشراً: قوله: و من عادته أن يضعف ما هو أصح من هذا الحديث بكثير.
قلت: و هذا إفك و بـهت مبين لا حيلة لنا فيه إلا أن يصفع به وجهه و يقال له {هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}، و إلا فإن أجهل الناس و أفسقهم لا يعجزه أن يفتري مثله، فالله حسيبه.
حادي عشر: قوله: ((و أما القدر المشترك من القصة فثابت بطرق لا يلحقها و هن)).
قلت: عليه أمور اخترنا منها:
الأولى: هذا كلام رخيص فما هو القدر المشترك من القصة؟! فهلا بينه و ساق الروايات التي تؤيده؟
الثانية: قوله: فثابت بطرق كثيرة لا يلحقها وهن.
قلت: هذا زعم أيضاً، إذ ليس للقصة طرق لا يلحقها وهن؛ إلا هذه الطريق الموصولة عن أبي موسى، و قد فعل الدكتور فيها ما فعل! مع أن الحافظ ابن كثير قال (1/248): إنـها أصح من غيرها، و صححها غيره من الأئمة المتقدمين و المتأخرين، و قد ذكرت أسماءهم قريباً! فانظر إلى هذا الدكتور كيف يتكلم في علم لا يعرفه، و لا يتبع أقوال العارفين به من العلماء.
[2-] قال (ص 155) في صلب الكتاب: ((احذر و أنت تبحث عن قصة الإسراء و المعراج أن تركن إلى ما يسمى بـ (معراج ابن عباس) فهو كتاب ملفق من مجموعة أحاديث باطلة لا أصل لها و لا سند)).
أقول: يتظاهر الدكتور في هذه الفقرة بمظهر المحدث القدير النقاد للأحاديث الموضوعة و المشفق على الأمة أن يغتروا بـها، فإذا به ينقلب الأمر عليه لجهله بـهذا العلم و الكتابة فيه إلى نقيض ما رمى إليه. ألا و هو تحذيره من الركون إلى الأخذ بكل ما في الكتاب المذكور لقوله فيه ((فهو ملفق من مجموعة أحاديث …)) الخ، فهل كل ما في الكتاب ملفق باطل؟! ذلك ما أريد بيانه ببعض الأمثلة لكي لا يغتر بـهذه الكلمة من ابتلي بقراءة كتابه هذا ((فقه السيرة)) أو بالتتلمذ عليه و الإصغاء لجهالاته و ادعاآته.
جاء في الكتاب المذكور (معراج ابن عباس) الحقائق الآتية:
1- قال في البراق (ص 2): ((و إذا هو دابة تشبه الدواب فوق الحمار و دون البغل)).
2- و في (ص 5): ((فطرق جبريل الباب، فقالوا: من هذا؟ قال: جبريل، قالوا: و من معك؟ قال: محمد، قالوا: أأرسل إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحباً بك و بمن معك)).
3- و في (ص 25): ((و في حديث آخر: لا يفنى أكثر أمتك إلا بالطعن و الطاعون)).
4- (ص 27): ((و فرضت عليك و على أمتك خمسين صلاة في كل يوم و ليلة)).
تلك أمثلة أربعة مما جاء في كتاب ((معراج ابن عباس)) و هي كلها صحيحة ثابتة في عدة أحاديث صحيحة، فالمثال الأول أخرجه الشيخان و قد عزاه إليهما الدكتور نفسه (ص 146) و هو من حديث أنس، و له شواهد كثيرة منها عن حذيفة، و قد خرجته في ((الأحاديث الصحيحة)) (ص 874).
و كذلك المثال الثاني و الرابع فهما في ((الصحيحين)) أيضاً من حديث أنس المشار إليه آنفاً، و المثال الثالث حديث صحيح أخرجه أحمد (6/133 و 145 و 255) من حديث عائشة مرفوعاً، و له شواهد مخرجة عندي في ((الروض النضير 526)) و ((إرواء الغليل 1636))، فكيف يجوز للدكتور أن يقول في الكتاب المذكور أنه ((ملفق من مجموعة أحاديث باطلة)) و فيه هذه الأمثلة المجموعة من الأحاديث الصحيحة؟! إني على مثل اليقين أن الدكتور لم يقرأ الكتاب المذكور مطلقاً، أو عند كتابته هذه الكلمة على أقل تقدير، و إلا لم يقع في مثل هذا الخطأ الفاحش و فيه إبطال بعض ما اعترف هو بصحته قبله بصفحات مما جاء في المثال الأول كما سبقت الإشارة إليه، و يؤيدني فيما أقول أنه كتب في حاشية الصفحة (146) ما نصه:
((و حاذر أن تعتمد على مثل كتاب ((معراج ابن عباس)) فهو مليء بالكذب و الأباطيل و ابن عباس بريء من هذا الكتاب)).
و هذا كلام سليم لا يرد عليه ما أوردته على قوله السابق، و هو على الغالب مما استفاده من غيره، و ربما نقله بالحرف الواحد، فلما تصرف فيه بقلمه و نقله من الحاشية إلى صلب الكتاب وقع فيما ذكرنا من الجهل الفاضح، و لولا حبه تكثير صفحات الكتاب و التظاهر بالتحقيق الذي هو به غير حقيق لما وقع منه ذلك، فاللهم هداك.
[3-] قال في حاشية (ص 197) بعد أن نبه إلى معجزة فرس سراقة و غوص قائمتيها في الأرض، و معجزة خروجه r من بيته و قد أحاط به المشركون، و تبرك أبي أيوب الأنصاري و زوجه، ثم استطرد فذكر تبرك أم سلمة بشعره r و أم سليم بعرقه و غير ذلك ثم علق عليه فقال:
((يرى الشيخ ناصر الألباني أن مثل هذه الأحاديث لا فائدة منها في هذا العصر، ذكر ذلك في نقد له على أحاديث كان قد انتقاها الأستاذ محمد المنتصر الكتاني لطلاب كلية الشريعة.
و نحن نرى أن هذا كلام خطير لا ينبغي أن يتفوه به مسلم، فجميع أقوال الرسول و أفعاله و إقراراته تشريع، و التشريع باق مستمر إلى يوم القيامة ما لم ينسخه كتاب أو سنة صحيحة، و من أهم فوائد التشريع و دليله معرفة الحكم، و الاعتقاد بموجبه.
و هذه الأحاديث الثابتة الصحيحة لم ينسخها كتاب و لا سنة مثلها فمضمونـها التشريعي باق إلى يوم القيامة، و معنى ذلك أنه لا مانع من التوسل و التبرك بآثار النبي عليه الصلاة و السلام فضلاً عن التوسل بذاته و جاهه عند الله تعالى، و أن ذلك ثابت و مشروع مع الزمن، فكيف يقال مع ذلك أنه لا فائدة منها في هذا العصر؟!
أكبر الظن أن السبب الذي ألغى فائدتـها بنظر الأستاذ الشيخ ناصر أنـها تخالف مذهبه في التوسل غير أن ذلك وحده لا يكفي موجباً لنسخها و إنـهاء فائدتـها كما هو معلوم)).
هذا كلام البوطي بالحرف الواحد نقلته على طوله و قلة فائدته ليكون القراء على يقين من مبلغ علم هذا الرجل و خوفه من الله تعالى، و عدم مبالاته بتهمة الأبرياء و الطعن فيهم بغير حق، و لبيان هذه الحقيقة هنا أقول:
أولاً: إن ما نسبه إلى من الرأي إن هو إلا اختلاق، و إن مما يدل على جرأة الرجل و قلة خوفه من الله و حيائه من الناس عزوه ذلك إلى نقدي لأحاديث الكتاني، و ليس فيه هذه الفرية الباطلة كما سترى و لو كان الدكتور ينتقد بإخلاص و علم لنقل عبارتي، و انتقدها انتقاداً علمياً موضوعياً، و لكنه يعلم أنه لو فعل ذلك لانكشف عند القراء، و لذلك هو جرى على هذه الطريقة من النقد يعزو القول إلى القائل و هو لم يقل ذلك أصلاً، أو قال شيئاً منه و لكن الدكتور يأخذ بعضاً، و يترك بعضاً كمثل من يقول {و لا تقربوا الصلاة} و يسكت! فاسمع نص كلامي في نقدي المذكور للكتاني، قلت (ص 56) منه ما نصه:
((6- إيراده أحاديث لا يترتب على معرفتها اليوم كبير فائدة تحت العناوين الآتية (ص 21): ((التبرك بآثار رسول الله صلى الله عليه و سلم بأمره)). و ذكر فيه حديث علي بن أبي طالب و فيه أمره صلى الله عليه و سلم له و لغيره أن يشربا من إناء مج فيه صلى الله عليه و سلم و أن يفرغاه على و جوههما، ثم قال: ((تبرك الصحابة بآثار رسول الله صلى الله عليه و سلم)). ثم أورد فيه حديث طلق بن علي و فيه أنه صلى الله عليه و سلم توضأ و تمضمض ثم صبه في إداوة لهم، ثم أعاد الترجمة ذاتـها و ذكر تحتها حديثاً ثالثاً فيه تبرك أسماء بجبته صلى الله عليه و سلم، ثم أعاد الترجمة للمرة الرابعة و أورد فيه حديثاً في تبرك أم سلمة بشعر رسول الله صلى الله عليه و سلم.
فما هو الفائدة من تكرار هذه العناوين و التراجم في الوقت الذي لا يمكن اليوم التبرك بآثاره صلى الله عليه و سلم لعدم وجودها؟! و ما يفعلونه اليوم في بعض البلاد من التبرك في بعض المناسبات بشعرة محفوظة في زجاجة فهو شيء لا أصل له في الشرع، و لا يثبت ذلك بطرق صحيحة.
نعم إنما يستفيد من هذه التراجم بعض مشايخ الطرق كما سبق ذكره في المقدمة، و لعل المصنف وضع هذه التراجم مساعدة منه لهم على استعباد مريديهم و إخضاعهم لهم باسم التبرك بـهم و الله المستعان)).
هذا الذي قلته في النقد المذكور نقلته مضطراً بالحرف الواحد ليقابله القاريء الكريم بما نسبه البوطي إلي، ليتبين له افتراؤه و غلواءه في قوله: ((هذا كلام خطير لا ينبغي أن يتفوه به مسلم))! فأنت ترى أن الدكتور تعمد حذف لفظة ((كبير)) المضافة إلى ((فائدة)) و التي هي نص صريح في أنني لا أنفي الفائدة كما لا يخفى على أحد إن شاء الله تعالى، و قد عللت ذلك بتعليل بين فقلت: ((لا يمكن اليوم التبرك بآثاره r لعدم وجودها …)) فتبقى الفائدة التي ليست بكبيرة إنما هي معرفتها لمجرد العلم بالشيء و لا الجهل به، فكيف ينسب البوطي إليّ تلك الفرية: ((هذه الأحاديث لا فائدة منها في هذا العصر))؟!
ثانياً: هب أنني قلت ذلك، فهلا ذكر السبب الذي قلته في تعليل ذلك بديل أن يكتمه عن الناس فيوقعهم في الولوغ في عرض الألباني و ذهابـهم مذاهب شتى في تعليل ذلك و الطعن فيه، أم أن هذا هو الذي يقصده البوطي بكل ما يكتبه ضد الألباني، و ليس هو النصح لهم؟!
ثالثاً: أما كان من الواجب على الدكتور البوطي أن يرد على تعليلي المذكور إن كان عنده رد، بديل أن يأخذ من نقدي المتقدم على الكتاني – على طوله – تلك الجملة المبتورة ((لا فائدة منها))؛ فيكذب علي!
رابعاً: لا أشك أن هناك خلافاً كبيراً بيننا و بين الدكتور البوطي في تقدير فائدة أحاديث التبرك فهي عندي و عند كل ذي علم فيما أعتقد غير ذي موضوع اليوم، و هذا لا ينافي فائدة معرفتها كما سبق بيانه، بينما يرى الدكتور أنـها ذات موضوع، لأنـها تدل على التبرك، و هو و التوسل بمعنى واحد عنده كما يدل عليه قوله المتقدم: ((و معنى ذلك أنه لا مانع من التوسل و التبرك بآثار النبي عليه الصلاة و السلام فضلاً عن التوسل بذاته و جاهه …)) الخ، و أصرح منه قوله في صلب الكتاب في الصفحة (197): ((فإن التوسل و التبرك كلمتان تدلان على معنى واحد، و هو التماس الخير و البركة عن طريق التوسل به، و كل من التوسل بجاهه صلى الله عليه و سلم عند الله و التوسل بآثاره أو فضلاته أو ثيابه، أفراد و جزئيات داخلة تحت نوع شامل هو مطلق التوسل الذي ثبت حكمه بالأحاديث الصحيحة، و كل الصور الجزئية له تدخل تحت عموم النص بواسطة ما يسمى بـ (تنقيح المناط) عند علماء الأصول)).
و صرح في مكان آخر (ص 355) أن المناط إنما هو كونه r أفضل الخلائق عند الله على الإطلاق.
فأقول: في هذا الكلام خبط و خلط كثير و ادعاء ما لا أصل له، و ما لا يعقل، كما أنه ليس هناك و لا حديث واحد يثبت به مطلق التوسل الذي زعمه الدكتور (المقلد الذي يقول ما لم يقله أي مجتهد في الدنيا!!) فهلا ذكر شيئاً من تلك الأحاديث التي تثبت مطلق التوسل، و بين وجه دلالتها على ما زعم، و أعرض عن هذا الكلام و الجعجعة التي لا طحن فيها.
ثم كيف يجعل التوسل بمعنى التبرك، و التوسل عنده لا يستلزم حضور المتوسل به، كما هو صريح كلامه، و بين التبرك الذي يقتضي حضور الشيء المتبرك به، كما هو ظاهر الأحاديث التي ذكرها الأستاذ البوطي و من قبله الكتاني و غيرهما؟! و إلا فكيف يمكن التبرك بـها؟!
و أيضاً فكلامه صريح في جواز التوسل بقوله في دعائه: ((اللهم إني أتوسل إليك بفضلات نبيك و عرقه و …)) و غير ذلك مما يستحي من كتابته فضلاً عن النطق به كل مسلم عاقل غيور على مقام الألوهية، و يا خجلتاه إذا قام الدكتور على المنبر يوم الجمعة يدعو بـهذا الدعاء تحقيقاً منه لما ذهب إليه من فلسفة التوسل بالفضلات!!
و تا الله لقد ازددنا يقيناً بعدم مشروعية التوسل بالذات لما رأينا الدكتور البوطي قد استلزم منه مشروعية التوسل بجزء من أجزاء الذات حتى و لو كان من الجنس الذي كان رسول الله صلى الله عليه و سلم نفسه يتطهر و يتنزه منه كما هو ثابت في ((الصحيحين)) و غيرهما من كتب السنة المطهرة.
خامساً: لقد تبين مما سبق أن ما ظنه الدكتور البوطي من السبب ظن إثم، لأني أولاً لم ألغ فائدة أحاديث التبرك بآثاره صلى الله عليه و سلم كما سبق بيانه. و ثانياً لأنه قائم على تسويته الباطلة بين التبرك و التوسل من جهة، و على مشروعية التوسل بالذات من جهة أخرى، و كلاهما غير صحيح كما قدمنا و لو بإيجاز.
و أما غمزه إياي بالشذوذ في قوله: ((أنـها تخالف مذهبه في التوسل)) فهو ناشئ من عدم مراعاته الأدب مع الأئمة الذين يخالفون رأيه – و لا أقول مذهبه –؛ فإنه لا مذهب له على الرغم من لا مذهبيته(42)! و إلا فأين هو من قول الإمام أبي حنيفة: ((أكره أن يسأل الله إلا بالله)) فلم يجز(43) الإمام السؤال بالذات فضلاً عن الفضلات كما هو رأي المقلد المجتهد الجامع للمتناقضات!! و ما ذهب إليه الإمام هو مذهب صاحبيه أيضاً فضلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية و ابن القيم و غيرهما من المحققين، و هو المذهب المنصور بالأحاديث النبوية و الآثار السلفية، كما تراه مفصلاً في رسالتي الخاصة في التوسل، مع الرد على شبهات المخالفين و نقدها رواية و دراية، و من ذلك الرد مفصلاً على البوطي في خلطه بين التوسل و التبرك، و تجويزه التوسل بالفضلات، و ما يصل هذا المقال إلى أيدي القراء الكرام إلا و تكون الرسالة قد تداولتها الأيدي و انتفع بـها إن شاء الله كل من كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد، و معذرة إلى القراء مما اضطررنا إليه من الإطالة في الرد على البوطي في هذه الفقرة التي جرتنا إلى الخروج عما نحن بصدده من الرد عليه من الناحية الحديثية المحضة التي توجهت إليها في هذه المقالات دون مناقشته في آرائه الفقهية التي خالف فيها الأدلة الشرعية، و لعلي أتفرغ بعد للكتابة في ذلك بإذن الله تعالى.
و لنعد الآن إلى ما نحن بصدده فأقول:
[4-] قال (ص 213): ((و قد ذكر ابن إسحاق هذا الكتاب بدون إسناد، و ذكره ابن خيثمة فأسنده: حدثنا أحمد بن جناب أبو الوليد، حدثنا عيسى بن يونس ثنا كثير ابن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله r كتب كتاباً بين المهاجرين و الأنصار، فذكر نحو ما ذكر ابن إسحاق. انظر عيون الأثر لابن سيد الناس))، (1/198).
أقول فيه مؤاخذات:
أولاً: هذا الإسناد لا قيمة له لأن كثير بن عبد الله بن عمرو المزني ضعيف جداً، قال الذهبي في ((الضعفاء و المتروكين)): ((قال الشافعي عنه: من أركان الكذب، و قال ابن حيان(44): له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة، و قال آخرون: ضعيف)).
ثانياً: إن كان الدكتور لا يعلم هذا الضعف الشديد لجهله بتراجم رواة الحديث فلماذا ذكر إسناده؟! و طلابه و جمهور قراء كتابه هم بالطبع ليسوا خيراً منه في ذلك، و إن كان يعلمه فلم كتمه و لم يبينه؟! ألا يحق لنا مع هذا كله أن نروي قول من قال:
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة و إن كنت تدري فالمصيبة أعظم
ثالثاً: إن كان يعلم ذلك فما الفائدة من ذلك سوى تضخيم حجم الكتاب، ألا يعلم الدكتور أن الحديث الضعيف لا يتقوى بما هو شديد الضعف عند علماء الحديث و لا يستشهد به، لا سيما إذا كان المشهود له لا إسناد له أصلاً كما هو شأن هذا الكتاب عند ابن إسحاق.
رابعاً: كيف يتفق هذا كله مع قوله أنه اعتمد على ما صح من أخبار السيرة، فأين الصحة فيما لا سند له، و شاهده ضعيف جداً؟!
خامساً: قوله: (ابن خيثمة) خطأ يدل على مبلغ علم الدكتور بالتراجم و الصواب ((ابن أبي خيثمة)) كما في ((العيون)) و غيره.
[5-] ثم قال عقب ذلك مباشرة (ص 214): ((و ذكره الإمام أحمد في مسنده فرواه عن سريج قال: حدثنا عباد عن حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم كتب كتاباً بين المهاجرين و الأنصار … الخ. انظر مسند أحمد 21/10 شرح البنا)).
قلت: فيه مؤاخذات أيضاً:
الأولى: أن إسناده ضعيف لا تقوم به حجة لأن حجاجاً هذا هو ابن أرطاة و قد قال فيه الحافظ في ((التقريب)) ((صدوق كثير الخطأ و التدليس))، و يبدو أن الشيخ عبد الرحمن البنا توهم أنه غيره من الثقات فقال: ((و سنده صحيح))! الثانية و الثالثة و الرابعة مثل ما تقدم في الحديث الذي قبله.
الخامسة: قوله: ((… الخ)) فأقول: فيه إيهام بما يخالف الواقع، لا يصدر ممن يهمه أن يكون كلامه أو ما يكتبه مطابقاً للواقع، فإن كل من يقف على قوله هذا بعد الحديث الذي قبله و فيه ((فذكر نحو ما ذكره ابن إسحاق))، ثم عطف عليه فقال: ((و ذكره الإمام أحمد في مسنده …)) لا يفهم منه إلا أن الذي ذكره أحمد هو مثل أو على الأقل نحو ما ذكره ابن إسحاق في المعنى و التمام و هذا خلاف رواية أحمد فإنـها مختصرة جداً بالنسبة لسياق ابن إسحاق، فإن لفظها: ((كتب كتاباً بين المهاجرين و الأنصار أن يعقلوا معاقلهم، و أن يفدوا عانيهم بالمعروف و الإصلاح بين المسلمين)).
فأين هذا السياق المختصر من سياق ابن إسحاق الذي يبلغ نحو صفحتين من قياس صفحة هذه المجلة؟! و يكفيك دلالة على ذلك أن البوطي ذكر منه (13) فقرة، و هي مع ذلك قل من جل!
فهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنه في كتاباته لا يتحرى الصواب و التعبير الدقيق المطابق للواقع، هذا إن لم يكن متعمداً لذلك، ليسد الطريق على من قد ينتقده في اعتماده رواية ابن إسحاق التي لا سند لها، فسندها هو بالحديثين المذكورين كشاهدين لها، و فيهما ما علمت من الضعف الشديد في الأول و الاختصار الشديد مع الضعف في الآخر!!
[6-] قال (ص 226) بعد أن ذكر حديث الحباب بن المنذر في إشارته على النبي r بالنزول في مكان غير المكان الذي نزله r: ((روى ابن هشام في سيرته حديث الحباب بن المنذر هذا عن ابن إسحاق عن رجال من بني سلمة، فهي فيما رواه ابن هشام رواية عن قوم مجهولين، و ذكر الحافظ ابن حجر هذا الحديث في ((الإصابة)) فرواه عن ابن إسحاق عن يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير و غير واحد في قصة بدر، و هذا سند صحيح و الحافظ ابن حجر ثقة فيما ينقل و يروي. (راجع الإصابة 1/302))).
أقول: لنا عليه ملاحظات:
الأولى: إعلاله رواية ابن هشام بأنـها عن قوم مجهولين، ليس بقادح لأنـهم جمع تغتفر جهالتهم عند أهل العلم بـهذا الشأن، لا سيما و يحتمل أنـهم من الصحابة، لأن ابن إسحاق رواه هكذا: فحدثت عن رجال من بني سلمة، فلو أن ابن إسحاق صرح بالتحديث عن الرجال لانتفى الاحتمال المذكور، لأن ابن إسحاق من أتباع التابعين، و لجزمنا بأن الحديث مرسل.
و لكن قوله: ((فحدثت)) دليل على أن بينه و بين الرجال واسطة، و من الممكن أن يكون من التابعين، فيظل الاحتمال المذكور قائماً، و إنما العلة القادحة في هذه الرواية هي جهالة الواسطة مع احتمال الإرسال.
الثانية: قوله في رواية عروة: ((و هذا إسناد صحيح))، ليس بصحيح على إطلاقه لأمرين:
الأول: أن ابن إسحاق فيه كلام من قبل حفظه، و الذي استقر عليه رأي العلماء المحققين أن حديثه في مرتبة الحسن بشرطين: أن يصرح بالتحديث، و أن لا يخالف من هو أوثق منه.
و الأمر الآخر: أن عروة تابعي لم يدرك الواقعة، فالصواب أن يقال: إسناده مرسل حسن، و حينئذ فهو إسناد ضعيف، لأن المرسل من أقسام الضعيف على قواعد علماء الحديث كما هو مقرر في محله، و لا أجد وجهاً لقول الدكتور المذكور إلا أنه يظن أن عروة بن الزبير صحابي كأخيه عبد الله، فإن كان كذلك، فهو ظن عجيب ينبئ عن مبلغ علم الدكتور برجال السلف، و قد مضى له حديث آخر من هذا النوع في الفصل الثالث الحديث السادس،ص(19 – 20).
الثالثة: قوله عن الحافظ: ((فرواه عن ابن إسحاق عن يزيد)) خطأ، و مثله قوله بعد: ((ينقل و يروي)) لأن الرواية عند المحدثين لا تعني مجرد ذكر المروي و نقله و إنما ذكره بإسناد الراوي له منه إلى منتهاه، و قد سبق تفصيل ذلك في الرد على قول الدكتور: ((روى ابن كثير))! (ص 15) فراجعه، و لو قال: ((يروي و ينقل)) لكان أقرب إلى الصواب على اعتبار قوله: ((و ينقل)) تفسيراً لقوله: ((يروي)) أما العكس فغير صحيح لما ذكرته.
الرابعة: قوله عن الحافظ أيضاً: ((عن ابن إسحاق عن يزيد)) خطأ منه على الحافظ، لأنه إنما قال: ((قال ابن إسحاق في ((السيرة)): حدثني يزيد بن رومان …))، و فرق كبير بين القولين عند من يعلم أن ابن إسحاق مدلس، و إنه إذا قال ((عن)) فليس بحجة، و إذا قال: ((حدثني)) فهو حجة، فلو كان الدكتور على علم بـهذا لم يقل على الحافظ ما لم يقل إن شاء الله تعالى!
الخامسة: لا شك أن الحافظ ثقة بل فوق الثقة، لكن ذلك لا يعني أنه معصوم عن الخطأ كما تقول الشيعة في أئمتهم، و هذه الرواية التي ذكرها عن عروة لم أر أحداً ذكرها كابن سيد الناس، و ابن كثير و غيرهما، و بالإضافة إلى ذلك فهي ليست في ((سيرة ابن هشام)) (2/272). نعم قد جاء فيها قبل ذلك (1/263): ((قال ابن إسحاق: و حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال …)).
قلت: فذكر طرفاً من غزوة بدر، ثم أتبعه بأطراف أخرى كثيرة منها، مصدراً كل طرف منها بقوله: ((قال ابن إسحاق)). ثم قال ابن هشام، قال ابن إسحاق: فحدثت عن رجال … الخ فذكر قصة الحباب.
قلت: فمن المحتمل أن الحافظ لما نقلها وقع بصره على الإسناد الأول عن عروة، و لم يقع نظره على إسناده الثاني: عن رجال من بني سلمة، فصارت من رواية عروة، و لكن لقائل أن يقول: هذا احتمال قوي، لولا أن الحافظ قرن إلى عروة قوله: ((و غير واحد)) و هذا ليس في السيرة مطلقاً، فمن أين جاء به؟
فأقول: و هذا مما لا جواب عليه عندي الآن، و يحتمل احتمالاً بعيداً أن يكون الحافظ نقل رواية عروة و غير واحد من ((سيرة ابن إسحاق)) مباشرة فيكون فيها ما ليس في ((سيرة ابن هشام)) عنه، و هذا مستبعد جداً، و الله أعلم.
[7-] قال (ص 246): ((و لبيان هذه القاعدة يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما رواه البخاري عن عمر رضي الله عنه: ((إنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، و يقول فيما رواه الشيخان: ((إنكم تختصمون إلي …)) الحديث)).
قلت: و هذه خطيئة فاحشة لا تطاق فإن الحديث عند البخاري و غيره ليس من قول النبي صلى الله عليه و سلم، و إنما هو من قول عمر رضي الله عنه موقوفاً عليه، و هو عند البخاري في أول كتاب ((الشهادات)) من طريق عبد الله بن عتبة قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: ((إن ناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم و إن الوحي قد انقطع، و إنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم)). و كذلك أخرجه الإمام أحمد من طريق أخرى عن عمر موقوفاً بنحوه.
و غالب الظن في تعليل صدور هذه الخطيئة من الدكتور البوطي إنما هو عدم الاطلاع على ما جاء في السنة كما ينبغي أولاً، و سرعة النقل بغير وعي و انتباه ثانياً لأنه ينقل ما لم يهضمه، و إلا فإنه لو كان واعياً لم يقع منه ذلك بإذن الله، و لعله لما رأى في الحديث قول: ((رسول الله صلى الله عليه و سلم)) توهم أن الذي بعده هو قوله صلى الله عليه و سلم! و من قول الدكتور بعده: ((و يقول فيما رواه الشيخان …)) يعلم القاريء أن قوله في الحديث الأول: ((يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم)) ليس زيادة من الطابع غفل عنها الدكتور عند تصحيح التجارب، بدليل عطفه الحديث الثاني على الحديث الأول الذي صرح الدكتور و كتب بقلمه رفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم، فعطف عليه الثاني، و هذا معروف رفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم بخلاف الأول! و لولا ذلك التصريح لم يصح العطف المذكور كما هو ظاهر.
و من طرائف الدكتور و غرائبه أنه كان جعل في الطبعة الأولى مكان حديث عمر هذا حديثاً آخر لفظه فيها: ((و لبيان هذه القاعدة يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم: أمرنا أن نحكم بالظاهر و الله يتولى السرائر)). فلما انتقده صاحبنا الأستاذ عيد عباسي و بين له أن هذا الحديث لا أصل له، حذفه و طبع الدكتور مكانه حديث عمر هذا الموقوف عند البخاري فعزاه إليه مرفوعاً! و هذا إن دل على شيء فهو أن الدكتور لم يكن موفقاً في هذا التعديل الذي ازداد به بعداً عن الصواب، و لعل الدكتور قد أخذ درساً بألا يستكبر مرة أخرى عن الاعتراف بخطئه و شكر من نبهه إليه، فيعطي بذلك درساً عملياً للطلاب و القراء مذكراً لهم بأخلاق العلماء الأتقياء.
[8-] قال (ص 288): ((و ثبت في الصحيحين أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سأل جابراً في غزوة ذات الرقاع هل تزوجت بعد؟ قال: نعم)).
قلت ليس في ((الصحيحين)) و لا في أحدهما ذكر غزوة ذات الرقاع، فعزو الدكتور ذلك إليهما من أخطائه التي لا تتناهى، و إنما ذلك في ((سيرة ابن هشام)) عن ابن إسحاق عن جابر و سنده حسن، و كذلك رواه أحمد (375 – 376)، و علق البخاري طرفاً من أوله في ((المغازي))، بل عنده في ((الشروط)) معلقاً أيضاً من طريق أخرى عن جابر ما يؤخذ منه أن ذلك كان في غزوة تبوك، و لكن رجح الحافظ رواية ابن إسحاق عليها فيراجعه من شاء.
[9-] قال (ص 366 – 367) و قد ذكر حديث تقبيل رسول الله صلى الله عليه و سلم جعفر بن أبي طالب فالتزمه و قبل ما بين عينيه.
قلت: فالشعبي تابعي معروف لم يدرك الحادثة بطبيعة الحال، فالإسناد منقطع مرسل، و الأجلح و هو ابن عبد الله بن حجية الكندي مختلف فيه فوثقه جماعة، و ضعفه آخرون، منهم أبو داود نفسه، و قال العقيلي: روى عن الشعبي أحاديث مضطربة لا يتابع عليها، و أورده الذهبي في ((الضعفاء)) رقم (229) من ((المغني)) و قال: ((شيعي لا بأس بحديثه، و لينه بعضهم، و قال الجوزجاني: الأجلح مفتر))، و قال الحافظ في ((التقريب)): ((صدوق، شيعي)).
قلت: فمثله لا يصحح حديثه إلا من لا معرفة عنده بعلم مصطلح الحديث و تراجم الرجال، و إنما يحسنه فقط إذا لم يكن من المتشددين، فالصواب إذن أن يقال: ((رواه أبو داود بسند حسن مرسل)) و الأصوب أن يقال رواه أبو داود بسند ضعيف، لأن أكثر القراء لا يعلمون أن المرسل – عند المحدثين – من قسم الحديث الضعيف كالمنقطع، و المدلس، و المعضل، و غيرها.
و هذا كله بالنسبة لرواية أبي داود، و إلا فقد رواه الحاكم (3/211) من طريق الحسن بن الحسين العرني ثنا أجلح بن عبد الله عن الشعبي عن جابر قال: فذكر الحديث هكذا مسنداً عن جابر، لكن العرني هذا أورده الذهبي في ((الضعفاء)) و قال (1389): ((ليس بصدوق)).
قلت: فمثله لا يحتج به مطلقاً فكيف إذا خالف مثل علي بن مسهر الثقة المحتج به في ((الصحيحين))، بل لو رواه الثقات عن الأجلح مسنداً عن جابر لم يصح، لأنه خالف ثقتان، و هما إسماعيل بن أبي خالد و زكريا بن أبي زائدة فروياه عن الشعبي مرسلاً. أخرجه الحاكم، فكيف و قد وافقهما الأجلح في الرواية الصحيحة عنه، و لذلك قال الذهبي في ((تلخيص المستدرك)): ((قلت: و المرسل هو الصواب)).
[10-] ثم قال: ((و روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم زيد بن حارثة المدينة و رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيتي فأتاه فقرع الباب فقام إليه النبي صلى الله عليه و سلم يجر ثوبه، فاعتنقه و قبله)).
قلت: إسناده ضعيف مسلسل بثلاثة ضعفاء على نسق واحد، كما بينته في نقدي للكتاني (ص 16 – الحديث الثامن) و لذلك قال الذهبي: ((حديث منكر))، فكيف يلتقي إيراد الدكتور لهذا الحديث في كتابه مع قوله أنه اعتمد فيه على صحاح السنة؟! و إذا كان له رأي خاص ينافي حكم الإمام الذهبي و ما شرحته هناك فهلا رد علينا كما فعل في الأحاديث الثلاثة التي سبق الرد عليه فيها، أم أنه مقتنع في نفسه بضعف إسناده المشروح هناك فإنه مطلع عليه قطعاً، و لذلك لم يتوجه لنقده، و حينئذ فالوزر في إيراده أكبر. أصلحه الله و هداه.
[11-] ذكر (ص 441) حديث عمر بن الخطاب في مسابقته لأبي بكر الصديق، و تصدق أبي بكر بكل ماله، و قوله رضي الله عنه: ((أبقيت لهم الله و رسوله)). و قال في تخريجه في الحاشية: ((رواه الترمذي و الحاكم و أبو داود، و في سنده هشام بن سعد عن زيد بن أسلم و قد ضعفه الإمام أحمد و النسائي (الأصل الكسائي!) و اعتبره الحافظ ابن حجر من المرتبة الخامسة فقال عنه: صدوق له أوهام، إلا أن الذهبي نقل عن أبي داود أنه أثبت الناس إذا روى عن زيد بن أسلم كما في هذا الحديث، و نقل عن الحاكم أن مسلماً أخرج له في الشواهد)).
و قال الدكتور عقب الحديث في صلب الكتاب: ((و إذا صح هذا الحديث …)) و أشار إليه (ص 451) و قال: ((على ما فيه من احتمالات الضعف التي بينتها في تخريج الحديث)).
قلت: و هذا نوع جديد من الدكتور في التخريج! فبينما كنا نراه سابقاً يقتصر في تخريج الأحاديث على مجرد ذكر من خرجه، دون أن يحكم عليه بما يستحقه من صحة أو ضعف، و كثيراً ما يكون ضعيفاً فيسكت عليه موهماً صحته كما سبق مراراً إذا بنا نراه هنا يعكس ذلك، و يحاول أن يضعف الحديث الثابت متمسكاً بما في هشام بن سعد المذكور من الكلام، مع أن حديثه عند أهل المعرفة بعلم الجرح و التعديل و تراجم الرجال لا ينـزل عن مرتبة الحسن؛ لأنـهم يعلمون أن مجرد كون الراوي متكلماً فيه لا يجعل حديثه في مرتبة الضعف؛ لأن هناك مرتبة وسطى بينها و بين مرتبة الصحة و هي الحسن، و هشام هذا من هذا القبيل، لا سيما في روايته عن ابن أسلم؛ لكثرة روايته عنه، و صحبته إياه، فلا جرم أنه صحح حديثه الترمذي و الحاكم و الذهبي، بل و احتج به و علقه الإمام البخاري في ((صحيحه)) بصيغة الجزم (رقم 228 – مختصر صحيح البخاري)، و لذلك خرجته في ((صحيح أبي داود))، و مع هذا كله نجد الدكتور البوطي يتجاهل إن لم يكن يجهل تصحيح هؤلاء الأئمة إياه و يحاول نسبة الضعف إليه! كأنه ينظر إلى نفسه أنه بلغ المرتبة العليا في علم الحديث و نقده، و أخذ الاستقلال التام فيه، و لو أن غيره فعل ذلك – لا سيما إذا كان من السلفيين – لقام و قعد، و أرعد و أزبد، و تظاهر بالحمية الإسلامية و الغيرة الدينية، على مقام الأئمة، في صدور الأمة، و لنسبه إلى الطعن فيهم، و عدم توقيرهم، تماماً كما يقول هو في السلفيين، و يتهمهم بالتهم الكثيرة، لأنـهم لا يلتزمون مذهب إمام معين، و إنما يأخذون بقول أي إمام منهم فيما وافق الكتاب و السنة عندهم، فليتأمل القاريء الكريم في حكمة الحكيم العليم كيف يجعل الدائرة تدور على الباغي. هذا أولاً.
و أما ثانياً: فلينظر اللبيب إلى قوله: ((و على ما فيه من احتمالات الضعف التي بينتها)).
فأقول: فأين هذه الاحتمالات المزعومة؟ فإن الدكتور لم يبين إلا احتمالاً واحداً، و هو مع ذلك مردود بتصحيح أولئك الأئمة له!
ثالثاً: لقد قال الحافظ في ((الفتح)) (3/229) في الحديث و قد علق البخاري طرفاً منه كما تقدم: ((هذا مشهور في السير، و رد في حديث مرفوع أخرجه أبو داود و صححه الترمذي و الحاكم …)) فذكره ثم قال: ((تفرد به هشام بن سعد عن زيد، و هشام صدوق فيه مقال من جهة حفظه)).
فأقول: لقد ذكر الدكتور كثيراً من أحاديث السيرة و قصصها مما دون هذا الحديث في الشهرة، و فيها مما لا يعرف له إسناد مطلقاً، ذكرها على أنـها صحيحة، فكيف لم يشفع لديه شهرة هذا الحديث مع تصحيح الأئمة له أن يورده دون أي نقد له من نفسه؟ و هو يعلم أنه لا منهج له و لا مذهب له يلتزمه في تصحيح الأحاديث و تصنيفها، و إنما أمره في ذلك كما تقول العامة (قطع و لحش)!
رابعاً: لقد قدم البوطي الترمذي و الحاكم على أبي داود في الذكر، و المعروف عند العلماء خلافه، فلا أحد منهم يقدم الترمذي فضلاً عن الحاكم على أبي داود، بل يقولون: رواه أبو داود و الترمذي و الحاكم، كما يقولون: رواه البخاري و مسلم و أبو داود، و لا يعكسون ذلك مطلقاً، و ذلك تأدب منهم من باب إنزال الناس منازلهم.
فهل لم يحفظ البوطي هذا الأدب منهم إلى اليوم و قد صار دكتوراً أم تبين له من العلم ما لم يحط به الأوائل، و استجاز مخالفتهم في أدبـهم و نـهجهم؟!
و لا يظنن القاريء أن ذلك سبق قلم من الدكتور فقد قال في صفحة 450: ((ذكرنا الحديث الذي رواه الترمذي و أبو داود عن تقديم أبي بكر ماله كله …))! و قال في الصفحة التي بعدها: ((إن حديث الترمذي و الحاكم و أبي داود))!
و هذا إن دل على شيء فهو أن الدكتور لا يرجع إلى كتب الحديث إلا نادراً جداً و إلا لم يخف عليه أدبـهم في الترتيب المذكور و هذا بين لا يخفى و الحمد لله. لقد كدت أقول لكثرة هذه الأخطاء: إن هذه التخريجات و التعليقات ليست بقلم الدكتور نفسه، بل هي بقلم أحد طلابه و من غير النابغين منهم!!
[12-] قال (ص 442): ((وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة قال: لما كانت غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة …))
قلت: فذكر الحديث بطوله و علق عليه بقوله: ((رواه أحمد في مسنده و أورده الحافظ ابن كثير في تاريخه ثم قال: رواه مسلم عن أبي كريب عن أبي معاوية عن الأعمش)).
أقول: هذا التعليق مع قصره فيه تكرار مخل لا يخفى على القاريء، و أسوأ منه نقله كلام ابن كثير مبتوراً، فإن تمام كلام ابن كثير ((… عن الأعمش به)) و قد يكون لفظة ((به)) سقطت من الطابع و لم يتنبه لها الدكتور عند تصحيح التجارب، و لكن مع ذلك ما فائدة هذا النقل حينئذ لا سيما و هو أمر لم يجر عليه الدكتور في كل تعليقاته دون تمهيد و توضيح له؟! و ما معنى قوله: ((عن أبي كريب عن أبي معاوية عن الأعمش، و هل منتهى هذا الإسناد و هو الأعمش و اسمه سليمان بن مهران من صغار التابعين فيكون الحديث على هذا مرسلاً، أهذا هو المعنى المقصود من الإسناد المذكور كلا، فما هو إذن؟ و لو فرضنا أن لفظة ((به)) سقطت من الطابع، و ليس من الدكتور نفسه.
لقد ذكر الحافظ ابن كثير الحديث، و قدم بين يديه إسناده فقال: ((رواه الإمام أحمد عن معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، أو عن أبي سعيد الخدري – شك الأعمش – قال …)).
قلت: فذكر الحديث ثم قال في آخره: ((و رواه مسلم عن أبي كريب عن أبي معاوية عن الأعمش به)).
فبهذا يمكن لمن كان عنده معرفة بالحديث و أسانيده أن يفهم أن قول ابن كثير هذا معناه أن مسلماً رواه من طريق أبي كريب الذي تابع أبا معاوية شيخ الإمام أحمد على روايته للحديث عن أبي معاوية عن الأعمش به أي بإسناد الأعمش المذكور عند أحمد أي أن كلا من أبي معاوية و أبي كريب روى الحديث عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد الخدري.
هكذا على الشك بين أبي هريرة و أبي سعيد الخدري.
إذا عرفت هذا أيها القاريء الكريم، فقل بربك ما هي الفائدة التي يجنيها كتاب البوطي لو أنه تولى بيان هذا المعنى الذي أراده ابن كثير بقوله المتقدم فكيف و هو عنده غير مبين؟! فما كان أغناه عن ذكرها لو اقتصر في التخريج على قوله: ((رواه أحمد و مسلم)) كما هي عادته عن(45) هذا الكتاب و غيره!
و بعد هذا فإنه تبين للقراء خطأ جديد للأستاذ البوطي في تخريجه المذكور و هو أنه عزا الحديث لرواية أحمد و مسلم من حديث أبي هريرة، و هو عندهما عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد الخدري، على الشك كما بينته، و كذلك عزاه ابن كثير إليهما.
[13-] ذكر (ص 502) الحديث المتفق عليه: ((لعنة الله على اليهود و النصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، و قال عقبه: كأنه يحذر المسلمين من أن يصنعوا صنيعهم به.
قلت: هذا القول من الدكتور ينبئ العالم بالحديث بأحد أمرين: إما أن الدكتور من الجهل بحيث لا علم له بالحديث، أو أنه يتعمد تحريف رواية الحديث، ذلك أن التحذير المذكور الذي جعله الدكتور من قوله، هو من تمام الحديث المتفق عليه، و هو من حديث عائشة و عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فقد قالا عقب الحديث مباشرة ((يحذر ما صنعوا)). هكذا أخرجه البخاري (1/422 و 6/386 و 10/227 – فتح الباري) و مسلم (2/67) و الدارمي (1/326) و أحمد (1/218) و صرح هذا أنه من قول عائشة رضي الله عنها، و هذه فائدة فاتت الحافظ ابن حجر التنبيه عليها فقال في الفتح (1/423): ((قوله: ((يحذر ما صنعوا)) جملة أخرى مستأنفة من كلام الراوي، كأنه سئل عن حكمة ذكر ذلك في ذلك الوقت، فأجيب إلى ذلك)).
فإذن قوله: ((يحذر ما صنعوا)) من كلام راوي الحديث كما صرح الحافظ، و هو عائشة رضي الله عنها، كما في رواية أحمد، فكيف جعلها الدكتور من كلامه هو؟! و صنعه هذا يذكرني بنوع من أنواع جرح رواة الحديث و هو المعروف بسرقة الحديث؛ كان الراوي يبلغه حديث يرويه بعضهم فيسرقه منه و يركب عليه إسناداً من أسانيده، ثم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم، أما الدكتور، فقد نسب الحديث إلى نفسه، إلا أنني لا أستطيع أن أجزم بأنه تعمد ذلك ليقيني أن محفوظاته للأحاديث النبوية قليلة جداً، فمن المحتمل احتمالاً قوياً أنه لا يعلم أن في الحديث تلك الجملة: ((يحذر ما صنعوا))، فشرحه من عندياته! على أن في قول الدكتور: ((كأنه صلى الله عليه و سلم يحذر …)) تشكيكاً واضحاً في أنه صلى الله عليه و سلم أراد التحذير، و هذا مخالف مخالفة صريحة لجزم السيدة عائشة بذلك بقولها: ((يحذر ما صنعوا))، كيف لا و الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ كما قال صلى الله عليه و سلم(46). فتأمل ما يصنع الجهل بالحديث من التحريف و التبديل للنص الصريح الصحيح.
[14-] قال (ص 521) و هو يسرد الوجوه الدالة على مشروعية زيارة قبره صلى الله عليه و سلم: ((الوجه الثاني ما يثبت من إجماع الصحابة و التابعين و من بعدهم على زيارة قبره صلى الله عليه و سلم و السلام عليه كلما مروا على الروضة الشريفة. روى ذلك الأئمة الأعلام و جماهير العلماء بما فيهم ابن تيمية رحمه الله)).
أقول: هذا كذب على الأئمة الأعلام، و بخاصة ابن تيمية شيخ الإسلام، فإن أحداً منهم لم يرو عن المذكورين زيارتـهم للقبر الشريف كلما مروا على الروضة فضلاً عن أن ينقلوا الإجماع عليه!! بل نص الإمام مالك على كراهة ذلك. و أقوال العلماء الشاهدة لما أقول كثيرة، اجتزيء منها على قولين اثنين: أحدهما لابن تيمية المفترى عليه، و الآخر للإمام النووي باعتباره من أئمة الشافعية الذي يقلدهم الدكتور البوطي!
1- أما ابن تيمية فأقواله كثيرة جداً في هذا الصدد و إليك نصين منها:
الأول: قوله: ((و لم يكن الصحابة يدخلون عند القبر، و لا يقفون عنده خارجاً، مع أنـهم يدخلون مسجده ليلاً و نـهاراً، و كانوا يقدمون من الأسفار للاجتماع بالخلفاء الراشدين و غير ذلك فيصلون في مسجده و يسلمون عليه في الصلاة و عند دخول المسجد و الخروج منه و لا يأتون القبر، إذ كان عندهم مما لم يأمرهم به و لم يسنه لهم، و إنما أمرهم و سن لهم الصلاة و السلام عليه في الصلاة و عند دخولهم المساجد، و غير ذلك، و لكن ابن عمر كان يأتيه فيسلم عليه و على صاحبيه عند قدومه من السفر، و قد يكون فعله غير ابن عمر أيضاً. فلهذا رأى من رأى من العلماء هذا جائزاً اقتداء بالصحابة رضوان الله عليهم، و ابن عمر كان يسلم ثم ينصرف و لا يقف، يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف. و لم يكن جمهور الصحابة يفعلون كما فعل ابن عمر، بل كان الخلفاء و غيرهم يسافرون للحج و غيره، و يرجعون، و لا يفعلون ذلك، إذ لم يكن هذا عندهم سنة سنها لهم. و كذلك أزواجه كن على عهد الخلفاء و بعدهم يسافرون إلى الحج، ثم ترجع كل واحدة إلى بيتها كما وصاهن بذلك. و كانت أمداد اليمن الذين قال الله تعالى فيهم: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه} على عهد أبي بكر و عمر يأتون أفواجاً من اليمن للجهاد في سبيل الله، و يصلون خلف أبي بكر و عمر في مسجده، و لا يدخل أحد منهم إلى داخل الحجرة، و لا يقف في المسجد خارجاً منها، لا لدعاء و لا لصلاة و لا لسلام و لا لغير ذلك، و كانوا عالمين بسنته كما علمتهم الصحابة و التابعون)).
كذا في كتابه ((الجواب الباهر في زوار المقابر)) (ص 60 – الطبعة السلفية).
الثاني: قوله في رده على الأخنائي (ص 45): ((و أما ما يظن أنه زيارة لقبره صلى الله عليه و سلم مثل الوقوف خارج الحجرة للسلام و الدعاء فهذا لا يستحب لأهل المدينة، بل ينهون عنه، لأن السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان – الخلفاء الراشدين و غيرهم – كانوا يدخلون إلى مسجده للصلواة الخمس و غير ذلك، و القبر عند جدار المسجد، و لم يكونوا يذهبون إليه، و لا يقفون عنده، و قد ذكر هذا مالك و غيره من العلماء ذكروا أنه لا يستحب بل يكره للمقيمين بالمدينة الوقوف عند القبر للسلام أو غيره لأن السلف الصالح لم يكونوا يفعلون ذلك إذا دخلوا المسجد للصلوات الخمس و غيرها على عهد الخلفاء الراشدين أبي بكر و عمر و عثمان و علي رضي الله عنهم، فإنـهم كانوا يصلون بالناس في المسجد، و كان الناس يقدمون من الأمصار يصلون معهم. و معلوم أنه لو كان مستحباً لهم أن يقفوا حذاء القبر و يسلموا أو يدعوا أو يفعلوا غير ذلك لفعلوا ذلك، و لو فعلوه لكثر و ظهر و اشتهر. لكن مالك و غيره خصوا سن ذلك عند السفر لما نقل عن ابن عمر، قال القاضي عياض: قال مالك: و لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه و سلم فيصلي عليه و يدعو له و لأبي بكر و عمر. قيل له: فإنه ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر، و لا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، و ربما وقفوا في الجمعة و في الأيام المرة أو المرتين أو أكثر من ذلك عند القبر يسلمون و يدعون ساعة؟ فقال: لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا، و تركه واسع و لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها و لم يبلغني عن أول هذه الأمة و صدرها أنـهم كانوا يفعلون ذلك، و يكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده)).
2- قال النووي في كتابه ((مناسك الحج)) (69/2 – مخطوط): ((كره مالك رحمه الله لأهل المدينة كلما دخل أحدهم و خرج الوقوف على القبر. قال و إنما ذلك للغرباء. قال: و لا بأس لمن قدم من سفر و خرج إلى سفر أن يقف عند قبر النبي r فيصلي عليه، و يدعو له و لأبي بكر و عمر رضي الله عنهما. قال الباجي: فرق مالك بين أهل المدينة و الغرباء لأن الغرباء قصدوا ذلك، و أهل المدينة مقيمون بـها، و قد قال r اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)).
قلت: و هذه الأقوال من الإمام النووي و شيخ الإسلام ابن تيمية، صريحة في إبطال الإجماع الذي نقله البوطي، بل هي ناطقة بعدم مشروعية ما ذكره، و أنه كذب على العلماء عامة، و ابن تيمية خاصة فيما عزاه إليهم من الرواية، فماذا يقول المنصف المتجرد في مثل هذا الإنسان الذي لا يبالي بما يخرج من فيه. فإلى الله المشتكى.
ثم قال الدكتور: ((الوجه الثالث: ما ثبت من زيارة كثير من الصحابة قبره صلى الله عليه و سلم منهم بلال رضي الله عنه رواه ابن عساكر بإسناد جيد)).
قلت فيه أمور:
أولاً: أنه أبـهم على القراء نص رواية ابن عساكر و اكتفى بالإشارة إليها، لأنه لو ساقها بتمامها لتبين للناس بطلانـها، و لو لم يقفوا على ضعف إسنادها، فكان لا بد من أن أسوق الرواية ليتيقن القراء الكرام معنا أن الدكتور لا يجري فيما يكتب على منهج علمي محقق، و إنما هو الهوى و الغرض و على القاعدة المزعومة ((الغاية تبرر الوسيلة))! فروى الحافظ ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) في ترجمة إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء الأنصاري (ج2 ق4 25/1) بإسناده عنه قال: حدثني أبي محمد بن سليمان عن أبيه سليمان ابن بلال عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال: (فذكر قصة قدوم بلال إلى الشام في عهد عمر ثم قال):
((ثم إن بلالاً رأى في منامه النبي r و هو يقول له، ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آن لك أن تزورني يا بلال؟ فانتبه حزيناً وجلاً خائفاً، فركب راحلته و قصد المدينة، فأتى قبر النبي صلى الله عليه و سلم فجعل يبكي عنده و يمرغ وجهه عليه، و أقبل الحسن و الحسين، فجهل يضمهما و يقبلهما، فقالا له: يا بلال نشتهي نسمع أذانك الذي كنت تؤذنه لرسول الله صلى الله عليه و سلم في السحر، ففعل، فعلا سطح المسجد، فوقف موقفه الذي كان يقف فيه، فلما أن قال: ((الله أكبر)) عجت المدينة، فلما أن قال: ((أشهد أن لا إله إلا الله)) زاد عجيجها، فلما أن قال: ((أشهد أن محمداً رسول الله)) صلى الله عليه و سلم خرج العواتق من خدورهن، فقالوا: ((أبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم؟ فما رؤي يوم أكثر باكياً و لا باكية بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم من ذلك اليوم)).
قلت: فهذه الرواية باطلة موضوعة، و لوائح الوضع عليها ظاهرة من وجوه عديدة أهمها:
1- قوله: ((فأتى قبر النبي صلى الله عليه و سلم فجهل يبكي عنده)) فإنه يصور لنا أن قبره r كان ظاهراً كسائر القبور التي في المقابر يمكن لكل أحد أن يأتيه! و هذا باطل بداهة عند كل من يعرف تاريخ دفن النبي صلى الله عليه و سلم في حجرة عائشة رضي الله عنها و بيتها الذي لا يجوز لأحد أن يدخله إلا بإذن منها، كذلك كان الأمر في عهد عمر رضي الله عنه، فقد ثبت أنه لما طعن رضي الله عنه أمر ابنه عبد الله أن يذهب إلى عائشة و يقول لها: إن عمر يقول لك إن كان لا يضرك و لا يضيق عليك فإني أحب أن أدفن مع صاحبي. فقالت: إن ذلك لا يضرني و لا يضيق علي. قال: فادفنوني معهما.أخرجه الحاكم (3/93).
ثم أخرج (4/7) بإسناده الصحيح عنها قالت: ((كنت أدخل البيت الذي دفن معهما و الله ما دخلت إلا و أنا مشدود علي ثيابي حياء من عمر رضي الله عنه)).
و لقد استمر القبر الشريف في بيت عائشة إلى ما بعد وفاتـها، بل إلى آخر قرن(47) الصحابة رضي الله عنهم ثم أدخلوا البيت و ضموه إلى المسجد لتوسعته، فصار بذلك في المسجد على النحو المشاهد اليوم، فيظن من لا علم عنده بحقيقة الأمر أن النبي صلى الله عليه و سلم لما مات دفنه الصحابة في المسجد – و حاشاهم من ذلك – و إنما دفنوه في البيت ثم حدث بعد ذلك ما ذكرنا، خلافاً لما يظنه كثير من الجهال و منهم واضع هذه القصة، الذي أعطى صورة للقبر مخالفة للواقع يومئذ و للصحابة رضي الله عنهم كما شرحه شيخ الإسلام و غيره من المحققين، و ذكرت طرفاً منه في كتابي ((تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد))، فليراجعه من شاء.
2- قوله: ((و يمرغ وجهه عليه)). قلت: و هذا دليل آخر على وضع هذه القصة و جهل واضعها، فإنه يصور لنا بلالاً رضي الله عنه من أولئك الجهلة الذين لا يقفون عند حدود الشرع إذا رأوا القبور، فيفعلون عندها ما لا يجوز من الشركيات و الوثنيات، كتلمس القبر و التمسح به و تقبيله، و غير ذلك مما هو مذكور في محله، و إن كان يجيز ذلك بعض المتفقهة، الذين لا علم عندهم بالكتاب و السنة ينير بصائرهم و قلوبـهم ممن يسايرون العامة على أهوائهم، و يبررون لهم كثيراً من ضلالاتـهم.
و لقد أعجبني حقاً أن لا يكون الدكتور البوطي منهم في هذه المرة، فقد رأيته يقول في آداب زيارة قبره صلى الله عليه و سلم (ص 523): ((فإياك أن تـهجم عليه، أو تلتصق بالشبابيك، أو تتمسح بـها كما يفعل كثير من الجهال، فتلك بدعة توشك أن تكون محرمة)).
فهذا القول من الدكتور على ما فيه من التردد في حكم ما ذكر مما يدل على أنه لم يفقه بعد قوله صلى الله عليه و سلم: ((كل بدعة ضلالة و كل ضلالة في النار)) يدل دلالة واضحة على أنه لا يمكن أن يعتقد أن بلالاً مرغ وجهه على قبر النبي صلى الله عليه و سلم، و هو الحق، و حينئذ فكيف يحتج الدكتور برواية ابن عساكر هذه و فيها هذا المنكر باعترافه؟! الحق أن الدكتور لا يريد التحقيق، و لو أراده لما أمكنه! لأنه لا يملك الوسائل التي تمكنه من ذلك، فهو يأخذ من الرواية الواحدة ما يشتهي و يحتج به، و يعرض عما لا يشتهي بل و ينكره!! و إلا فماذا يقول الدكتور لمن قد يحتج عليه من المبتدعة و المتفقهة برواية ابن عساكر هذه على جواز التمرغ بالقبر الشريف، و هو نفسه قد احتج بـها و قواها؟!
3- قوله: ((خرج العواتق من خدورهن …)) الخ كلام شعري خيالي ظاهر الوضع، و إلا فما علاقة خروجهن بسماعهن الشهادة الأخرى و قولهن ((أبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم))! من أجل ذلك جزم الحافظ ابن حجر بأن هذه القصة موضوعة كما يأتي.
ثانياً: قول البوطي: ((رواه ابن عساكر بإسناد جيد)).
فأقول: فيه مؤاخذتان:
الأولى: أن هذا التجويد ليس من علم الدكتور و اجتهاده، لأنه لا علم عنده مطلقاً يؤهله لإصدار مثل هذا الحكم، كما عرف القراء من المقالات السابقة، و إن(48) كان هذا الحكم خطأ في ذاته كما يأتي، فكان من الواجب عليه أن يعزوه إلى من نقله عنه، لكي لا يتشبع بما ليس له لقوله صلى الله عليه و سلم، ((المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)) متفق عليه.
الثانية: أن القول المذكور إنما هو للشيخ السبكي الشافعي قاله في كتابه ((شفاء السقام في زيارة خير الأنام)) و قد رده الحافظ المحقق محمد بن عبد الهادي الحنبلي في كتابه العظيم: ((الصارم المنكي في الرد على السبكي)) (ص 210 – 215) و أطال النفس فيه بما حاصله أن إسناده لا يصلح الاعتماد عليه و لا يرجع عند التنازع إليه عند أحد من أئمة هذا الشأن. و سأبين علته قريباً إن شاء الله تعالى، فهل الدكتور على علم بـهذا و مع ذلك آثر عليه قول السبكي لا لشيء إلا لأنه شافعي المذهب مثله، أم أنه لم يعلم به مطلقاً؟ الأمر كما قيل:
فإن كنت لا تدري …
الثالثة: سليمان بن بلال، قال الحافظ ابن عبد الهادي: ((غير معروف، بل هو مجهول الحال (كذا الأصل) قليل الرواية، لم يشتهر بحمل العلم ونقله، و لم يوثقه أحد من الأئمة فيما علمنا، و لم يذكر البخاري ترجمته في كتابه، و كذلك ابن أبي حاتم، و لا يعرف له سماع من أم الدرداء)).
قلت: فهو مجهول العين، و ما في الأصل ((مجهول الحال)) لعله خطأ مطبعي، أو سبق قلم من المؤلف رحمه الله تعالى، و تبعاً للبخاري و ابن أبي حاتم لم يذكره الذهبي في ((الميزان)) و لا الحافظ في ((اللسان)).
و الآخر: إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال، قال الحافظ ابن عبد الهادي ((شيخ لم يعرف بثقة و أمانة و لا ضبط و عدالة، بل هو مجهول غير معروف بالنقل، و لا مشهور بالرواية، و لم يرو عنه غير محمد بن الفيض، روى عنه هذا الأثر المنكر)).
و أورده الذهبي في ((الضعفاء)) و قال: ((لا يعرف)) و قال في ((الميزان)) ((فيه جهالة، حدث عنه محمد بن الفيض الغساني)).
و أقره الحافظ ابن حجر في ((اللسان)) و زاد عليه، فقال:
((ترجمه ابن عساكر ثم ساق روايته عن أبيه عن جده عن أم الدرداء عن أبي الدرداء في قصة رحيل بلال إلى الشام، و في قصة مجيئه إلى المدينة و أذانه بـها و ارتجاج المدينة بالبكاء لأجل ذلك، و هي قصة بينة الوضع)).
قلت: و قد أشار إلى ضعف هذه القصة كل من الحافظين المزي، و ابن كثير. أما الأول ففي ترجمة بلال في كتابه ((تـهذيب الكمال)) و الآخر في ترجمته من كتابه ((البداية)) (2/102)، فهؤلاء خمسة من الحفاظ المشهورين – و كلهم شافعية من حظ البوطي! إلا ابن عبد الهادي – جزموا بعدم صحتها ما بين مصرح بالوضع و مضعف، يقابلهم السبكي وحده الذي جود إسنادها، و النقد العلمي يقطع بوهمه؛ إن لم يقل باتباعه لهواه، و مع هذا قلده فضيلة الدكتور دون أولئك! فماذا يقول كل متجرد عن الهوى منصف في هذا الدكتور الذي يؤلف في السيرة، و يقرر أحكاماً شرعية، و هو لا يحسن الاتباع و لا التقليد!! فاللهم هداك!
الأول: محمد بن سليمان بن بلال ترجمه الحافظ ابن عبد الهادي (ص224) بما يؤخذ منه أنه مجهول الحال، لكني وجدت ابن أبي حاتم روى في ((الجرح و التعديل)) (3/2/267) عن أبيه أنه قال فيه: ((ما بحديثه بأس))، و بذلك تجنبت إعلال القصة به أيضاً.
و الآخر: أورد البوطي رواية ابن عساكر السابقة عن بلال محتجاً بـها على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في مخالفته – بزعم البوطي – الإجماع القائل بمشروعية زيارة قبره عليه الصلاة و السلام، و هي فرية على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حمل رايتها الشيخ الأخنائي و السبكي و غيرهما قديماً، و زيني دحلان و أمثاله في محاربته لمجدد دعوة التوحيد محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه و من تبعهم عليها من المتقدمين و المتأخرين، و منهم البوطي المسكين، فقال (ص 520) : ((و اعلم أن زيارة مسجده و قبره صلى الله عليه و سلم من أعظم القربات إلى الله عز و جل أجمع على ذلك جماهير المسلمين في كل عصر إلى يومنا هذا لم يخالف في ذلك إلا ابن تيمية غفر الله له، فقد ذهب إلى أن زيارة قبره غير مشروعة)).
ثم استدل على الإجماع المذكور بوجوه أربعة منها رواية ابن عساكر، ثم قال: ((فاعلم أنه لا وجه لما انفرد به ابن تيمية رحمه الله من دفعه هذه الأوجه في غير دافع، و القول بأن زيارة قبره صلى الله عليه و سلم غير مشروع)).
قلت: و هذا كذب و افتراء عظيم من هذا الدعي على شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، فكتبه و فتاويه طافحة مصرحة بمشروعية زيارة قبور المسلمين عامة، و زيارة قبره عليه الصلاة و السلام خاصة، كما يعلم ذلك كل من اطلع على شيء من كتب الشيخ و درسها، و من ذلك كتابه ((الرد على الأخنائي))، و هو من المعاصرين للشيخ الذين ردوا عليه بظلم مقروناً بالافتراء عليه، و من ذلك التهمة التي تلقفها البوطي عنه أو عن أمثاله من المفترين الكذابين، دون أن يرجع إلى بعض كتب الشيخ ليتبين حقيقة الأمر، فقد قال الشيخ رحمه الله في أول ((الرد على الأخنائي)) بعد أن ذكر فريته المذكورة عليه: ((و المجيب (يعني نفسه) قد عرفت كتبه، و فتاويه مشحونة باستحباب زيارة القبور، و في جميع مناسكه يذكر استحباب زيارة قبور أهل البقيع و شهداء أحد، و يذكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه و سلم إذا دخل مسجده و الأدب في ذلك)).
و قال في أول كتابه ((الجواب الباهر في زوار المقابر)) (ص 14): ((قد ذكرت فيما كتبت من المناسك أن السفر إلى مسجده و زيارة قبره كما يذكره أئمة المسلمين في مناسك الحج عمل صالح مستحب، و ذكرت السنة في ذلك، و كيف يسلم عليه، فهل يستقبل الحجرة أم القبلة على قولين …))
و قد شرح هذا ابن عبد الهادي في رده على السبكي، فليراجعه من شاء الزيادة، فماذا يقول القائل في الدكتور البوطي و فريته هذه؟ هل لم يطلع على هذه المصادر التي تحول بينه و بينها؟ أم اطلع عليها و علم أن شيخ الإسلام بريء منها، ثم أصر على اتـهامه بـها لما في قلبه من الغل و الحقد على شيخ الإسلام ابن تيمية بصورة خاصة و السلفيين بصورة عامة غير مبال بمثل قوله تعالى: {إن الذين جاؤا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم، لكل امريء منهم ما اكتسب من الإثم}، و قوله عز و جل {و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بـهتاناً و إثماً مبينا}.
و سواء كان هذا أم ذاك، فالله سبحانه هو حسيب البوطي و أمثاله، و نحن إنما علينا أن ندافع عن الذين آمنوا و نبريء ساحتهم مما اتـهموا به من الأكاذيب و الأباطيل التي يكون الدافع عليها تارة الجهل و أخرى الظلم، و قد يجتمعان!
و من النوع الأول قوله ((لم يخالف في ذلك إلا ابن تيمية)). فإن من الواضح أن اسم الإشارة (ذلك) يرجع إلى كل من زيارة مسجده صلى الله عليه و سلم و زيارة قبره و هذه فرية جديدة تفرد بـها البوطي دون أسلافه المشار إليهم، فإن زيارة مسجده صلى الله عليه و سلم مما يقول شيخ الإسلام بمشروعيته أيضاً، بل إنه يقول بمشروعية السفر إليه خاصة كما سبق دون السفر لزيارة قبره صلى الله عليه و سلم خاصة و ظاهر كلام البوطي أنه لا يفرق بين الزيارتين، كأسلافه السابقين، و من الدليل على ذلك قوله عقب ما سبق نقله عنه آنفاً: ((و جملة ما اعتمده ابن تيمية في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد …)))) و هذا إنما استدل به ابن تيمية لإثبات مشروعية السفر إلى المسجد دون القبر، فيرد البوطي استدلاله بأن الحديث كناية عن أن أولى الأماكن بالاهتمام للتوجه إليها من مسافات بعيدة، هذه المساجد الثلاثة بدليل أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يخص أماكن أخرى غير هذه المساجد بالزيارة (!) مثل زيارته عليه الصلاة و السلام مسجد قباء كل أسبوع.
فتأمل كيف يخلط بين الزيارة بسفر، و هو المنفي في الحديث الأول، و بين الزيارة بدون سفر، و هو المثبت في حديث قبا فلا تعارض بينهما، كما هو ظاهر، و هو ما ذهب إليه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لأنه يقول بمشروعية زيارة مسجد قباء و زيارة قبور البقيع و الشهداء و غيرها من القبور، و لكنه لا يجيز السفر إليها كما يدل عليه الحديث الأول، فهو قائل بالحديثين، بينما البوطي – هداه الله – ليس عنده من العلم ما يوفق بينهما لو كانا متعارضين – إلا بتعطيل دلالة الأول منهما بأنه كناية! و هذا خلاف ما فهمه السلف من الصحابة و غيرهم، فقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه نـهى رجلاً أراد الذهاب إلى الطور فقال له: ((دع عنك الطور فلا تأته)) و احتج عليه بحديث النهي عن شد الرحال، و ثبت نحوه عن غير واحد من الصحابة كما تراه مبسوطاً في كتابي ((أحكام الجنائز)) (ص 224 – 231) فلو كان الحديث يعني ما ذهب إليه البوطي ما استقام نـهي ابن عمر عن الذهاب إلى الطور، ترى آلبوطي أصاب أم ابن عمر؟! فاللهم هداك.
و ليس غرضي الآن مناقشة البوطي في كل ما جاء في هذه المسألة من تخاليط لأن لهذا مجالاً آخر و هو الذي سبقت الإشارة إليه في بيان الأخطاء الفقهية – و ما أكثرها – و إنما هو التنبيه فقط على افترائه على شيخ الإسلام ابن تيمية و تحذير القراء من أن يغتروا بمثله، و الله تعالى المسؤول أن يسدد خطانا، و يخلص نوايانا و يوفقنا للعمل الصالح الموافق للكتاب و السنة.
[15-] ثم قال الدكتور في حاشية (ص 521): ((هنالك أيضاً طائفة من الأحاديث الواردة عنه r في فضل زيارة قبرة لا يخلو معظمها من ضعيف أو لين، و هي و عن كانت ترتقي في مجموعها إلى درجة القوة، فقد آثرنا أن لا نسوقها مع هذه الدلائل التي ذكرناها حتى لا يتعلق المخالفون بما قد يطيب لهم التعلق به من لين أو ضعف فيها، فيجدوا بذلك منفذاً للانتصار لرأي ابن تيمية على ما فيه من شذوذ))!
أقول: لقد ذكرني هذا بالمثل المشهور: أحمق من نعامة! ذلك لأنـها إذا رأت الصياد أدخلت رأسها في الرمل لكي لا يراها الصياد لحماقتها و هكذا مع الدكتور، فإنه بإيثاره أن لا يسوق تلك الأحاديث، توهم أن ينجو من النقد و الكشف عن الخطأ، و ما هو بناجٍ، فالأحاديث المشار إليها معروفة الضعف و النكارة سواء ساقها أم لم يسقها.
و لو أنه أراد النجاة حقاً لاستغنى عن هذه الحاشية و لما سود بـها كتابه! و لم يفتح باب الانتقاد عليه و لكن يأبى الله تعالى إلا أن يتم نوره، و يظهر للناس الحقيقة الجلية و ما ينبغي الاضطلاع بـهذا العلم الشريف، حتى لا يغتروا بالمؤلف و بكتابه مرة أخرى، فيضلوا عن سواء السبيل. و يبدو أن الذي اضطره إلى هذا القول إنما هو شعوره بجهله و عجزه عن إثبات ما زعمه من القوة، فلم يسعه إلا الدعوى التي لا يعجز عنها أي جاهل، و لم يكتف بـها حتى لجأ إلى تبريرها بما يضحك الثكلى و ليس هذا فقط، بل إنه أعرض عن أقوال الأئمة الصريحة في تضعيف جميع طرق الأحاديث المشار إليها، و فيهم جماعة من كبار أئمة الشافعية الذين يتعصب لهم الدكتور عادة، كالإمام النووي و الحافظ ابن حجر العسقلاني فضلاً عن غيرهم من الحفاظ المحققين كما سأبينه بإذن الله تعالى، مفصلاً ما في قوله هذا من الجهل و التجاهل و الافتراء و التقليد الأعمى و اتباع الهوى.
لقد قلد في دعواه ارتفاع حديث فضل زيارة قبره صلى الله عليه و سلم إلى درجة القوة بعض الفقهاء المتقدمين المقلدين الذين لا علم عندهم بـهذا العلم الشريف مثل الأخنائي و السبكي و غيرهم من المتأخرين، و هو يعلم أن الذين ردوا عليهم من أهل المعرفة بـهذا العلم قد بينوا بطلان الدعوى المذكورة بما لا يدع شبهة، فهذا هو الأخنائي يقول: (( ورد في زيارة قبره أحاديث صحيحة و غيرها مما لم يبلغ درجة الصحيح، لكنها يجوز الاستدلال بـها على الأحكام الشرعية و يحصل بـها الترجيح)).
فرد ذلك عليه شيخ الإسلام ابن تيمية بوجوه يهمنا منها بعضها فقال رحمه الله (ص 87) و كأنه يرد على البوطي لتشابه ما بينه و بين الأخنائي!
(الثالث) أنه قول لم يذكر عليه دليلاً، فإذا قيل له: لا نسلم أنه ورد في ذلك حديث صحيح احتاج إلى الجواب و هو لم يذكر شيئاً من تلك الأحاديث فبقي ما ذكره دعوى مجردة تقابل بالمنع.
(الوجه الرابع) أن نقول: هذا قول باطل لم يقله أحد من علماء المسلمين العارفين بالصحيح، و ليس في الأحاديث التي رويت بلفظ: زيارة قبره حديث صحيح عند أهل المعرفة، و لم يخرج أرباب الصحيح شيئاً من ذلك، و لا أرباب السنن المعتمدة، كسنن أبي داود و النسائي و الترمذي و نحوهم، و لا أهل المسانيد التي من أهل هذا الجنس كمسند أحمد و غيره، و لا في موطأ مالك، و لا مسند الشافعي و نحو ذلك. و لا احتج إمام من أئمة المسلمين كأبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد و غيرهم بحديث فيه ذكر زيارة قبره، فكيف يكون في ذلك أحاديث صحيحة و لم يعرفها أحد من أئمة الدين و لا علماء الحديث؟ و من أين لهذا و أمثاله أن تلك الأحاديث صحيحة و هو لا يعرف هذا الشأن؟
(الوجه الخامس) قوله: و غيرها بما لم يبلغ درجة الصحيح … فنقول له لا نسلم أنه ورد من ذلك ما يجوز الاستدلال به، و هو لم يذكر إلا دعوى مجردة، فتقابل بالمنع.
(الوجه السادس) أن يقال: ليس في هذا الباب ما يجوز الاستدلال به، بل كلها ضعيفة بل موضوعة، كما بسط في مواضع، و ذكرت هذه الأحاديث، و ذكرت كلام الأئمة عليها حديثاً حديثاً، بل و لا أعرف عن أحد من الصحابة أنه تكلم بلفظ زيارة قبره صلى الله عليه و سلم البتة، فلم يكن هذا اللفظ معروفاً عندهم، و لهذا كره مالك التكلم به(49) بخلاف لفظ ((زيارة)) مطلقاً، فإن هذا اللفظ معروف عن النبي صلى الله عليه و سلم و عن أصحابه …))
أقول: فما الذي صرف الدكتور البوطي عن الاعتماد على هذا الكلام لشيخ الإسلام و هو أعلم من السبكي و غيره ممن يقلده البوطي بما لا يصح المفاضلة بينهما كما يقول مالك بكراهة التكلم بزيارة قبره صلى الله عليه و سلم فضلا عن غيره من أئمة الحديث كما يأتي. لولا الهوى و خوف أن يقال فيه ((وهابي))! أم أن الدكتور لضيق عطنه و قلة اطلاعه، لا علم عنده بوجهة نظر ابن تيمية هذه، و أقوال الموافقين له من العلماء، و هذا مما استبعده، و سواء كان هذا و ذاك فأحلاهما مر!
و كذلك ما الذي منعه من الانتفاع بنقد الحافظ محمد بن عبد الهادي للشيخ السبكي في كتابه ((الصارم المنكي في الرد على السبكي)). و قد تتبع فيه أحاديث السبكي في الزيارة حديثاً حديثاً و بين عللها، و أقوال أئمة الحديث فيها من (ص 10 – 171) و فصل القول فيها تفصيلاً لا يدع أي شك في قلب أحد من المنصفين بضعفها، و عدم ثبوت شيء منها إطلاقاً، و أنه ليس فيها ما يقوي بعضه بعضاً لشدة ضعفها و اضطراب أسانيدها، و تضارب ألفاظها، و لذلك فإني أرى لزاماً علي أن أوجز الكلام عليها هنا بمقدار ما يكشف عن عللها، و تقوم الحجة به على البوطي و أمثاله من المقلدين و المغترين بـها {ليحيى من حيَّ عن بينة} محيلاً لمن شاء التفصيل إلى كتاب الحافظ ابن عبد الهادي فإنه جمع فأوعى، و كتاب التلخيص لابن حجر (ج2/266 و 267) و إلى كتابي ((سلسلة الأحاديث الضعيفة و الموضوعة)) فقد كنت بسطت الكلام فيه على بعضها رقم (25 و 47 و 204).
الحديث الأول عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ: ((من زار قبري وجبت له شفاعتي)) و له عنه طرق:
الأولى: من رواية موسى بن هلال العبدي و هو مجهول، و قد اضطرب في إسناده فقال مرة: عن عبد الله بن عمر، و قال مرة: عن عبيد الله بن عمر عن نافع عنه. قال البيهقي:
((و سواء قال عبيد الله، أو عبد الله فهو منكر عن نافع عن ابن عمر لم يأت به غيره)) و قال فيه العقيلي: ((لا يصح حديثه و لا يتابع عليه)). ثم ساقه بإسناده و قال عقبه: ((و لرواية في هذا الباب فيها لين)). و في نقل الحافظ ابن حجر عنه أنه قال: ((و لا يصح في هذا الباب شيء)). و المعنى واحد، و هو أن طرقه كلها ضعيفة، و ذلك مما صرح به الحافظ في آخر كلامه على الحديث.
و عبيد الله – المصغر – ثقة، بخلاف أخيه عبد الله – المكبر – فإنه ضعيف و رجح ابن عدي أنه هو صاحب هذا الحديث و وافقه الإمام ابن خزيمة و صرح بأن الثقة لا يروي هذا الخبر المنكر كما قال الحافظ ابن حجر، و لذا قال النووي: ((إسناده ضعيف جداً)).
الثانية: من رواية عبد الله بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر.
و عبد الله بن إبراهيم و هو ابن أبي عمرو الغفاري متهم بالكذب و الوضع، و نحوه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فإنه ضعيف جداً، و هو راوي حديث توسل آدم عليه السلام بنبينا r و هو موضوع كما بينته في ((الأحاديث الضعيفة)) رقم (25) و قد قال النووي في هذه الطريق أيضاً: ((إسناده ضعيف جداً)).
الثالثة: من رواية مسلمة بن سالم الجهني عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن سالم عنه بلفظ: ((من جاءني زائراً لا تعمله حاجة إلا زيارتي كان حقاً علي أن أكون له شفيعاً يوم القيامة)).
و مسلمة هذا مجهول، و يقال فيه مسلمة بن سالم الجهني، قال أبو داود: ليس بثقة. و قد اضطرب في إسناده فرواه مرة هكذا. و قال مرة: عن عبد الله بن عمر عن نافع. و هذا هو الأشبه أنه من روايته عن عبد الله بن عمر العمري المكبر المضعف، فيكون الجهني هذا متابعاً لموسى بن هلال الذي في الطريق الأولى، إلا أن متابعته له مما لا يفرح بـها العلماء، لأنه غير ثقة كما عرفت، و لو نفعت لم يتقوى الحديث بـها لأن فوقهما عبد الله بن عمر الضعيف، على أنه ليس فيه زيارة القبر الشريف! فيمكن حمله على زيارته في حياته، و هذا مما لا شك في شرعيته. فتنبه و لا تكن من أهل الأهواء الغافلين!
ثم إن المحفوظ في هذا المعنى ما رواه أيوب عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله r ((من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليفعل فإني أشهد (و في رواية: أشفع) لمن مات بـها)) أخرجه أحمد و الترمذي و صححه و ابن ماجه و ابن حبان في ((صحيحه)). فهذا هو أصل الحديث و لفظه، فحرفه أولئك المجهولون و الضعفاء عمداً أو سهواً، و اغتر بـهم من لا علم عندهم!
الرابعة: من رواية حفص بن سليمان أبي عمر عن الليث بن أبي سليم عن مجاهد عنه بلفظ: ((من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي)) زاد بعضهم ((و صحبني)).
و هذا منكر جداً، حفص بن سليمان و هو الأسدي القاريء الغاضري متروك متهم بالكذب و الوضع، و قد تفرد به كما قال البيهقي، و ليث بن أبي سليم ضعيف مختلط، و هو مخرج في ((الضعيفة)) برقم (47).
الخامسة: من رواية محمد بن محمد بن النعمان بن شبل: حدثني جدي قال: حدثني مالك عن نافع عنه بلفظ: ((من حج البيت و لم يزرني فقد جفاني)).
و هذا موضوع كما قال ابن الجوزي و الذهبي و الزركشي و غيرهم كما تراه في ((الضعيفة)) (45)، و الآفة من محمد بن محمد، أو من جده النعمان بن شبل، و كلاهما متهم، و رجح ابن عبد الهادي الأول فليراجعه من شاء. و ليس فيه أيضاً ذكر زيارة القبر الشريف.
الحديث الثاني: عن عمر مرفوعاً بلفظ: ((من زار قبري، أو قال من زارني كنت له شفيعاً أو شهيداً)). يرويه سوار بن ميمون أبو الجراح العبدي: حدثني رجل من آل عمر عنه.
و هذا متن مضطرب، و إسناد مظلم، سوار هذا مجهول لا يعرف، و بعض الرواة يقلبه فيقول: ميمون بن سوار. و شيخه رجل لم يسم، و هو أسوأ حالاً من المجهول، و قد اضطربوا فيه، فبعضهم يقول: ((رجل من آل عمر)) كما في هذه الرواية، و بعضهم يقول: ((رجل من ولد حاطب)). و بعضهم يدخل بينه و بين سوار، هارون بن قزعة و هو مجهول أيضاً، و بعضهم يقول فيه هارون بن أبي قزعة، و ذكره العقيلي و الساجي و ابن الجارود في ((الضعفاء))! و قال البيهقي: ((هذا إسناد مجهول)).
الحديث الثالث: عن ابن عباس مرفوعاً بلفظ: ((من حج إلى مكة ثم قصدني في مسجدي كتب له حجتان مبرورتان)).
و هذا موضوع، آفته أسيد بن زيد الجمال الكوفي، قال ابن معين: ((كذاب، سمعته يحدث بأحاديث كذب)) و مع ذلك فليس فيه ذكر القبر مطلقاً.
و له عنه طريق آخر بلفظ: ((من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي)) و من زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيداً أو قال شفيعاً)).
و هذا موضوع أيضاً، في إسناده فضلة بن سعيد بن زميل مجهول لا يعرف إلا في هذا الخبر الذي تفرد به و لم يتابع عليه، و قال الذهبي: ((هذا موضوع)).
الحديث الرابع: عن علي مرفوعاً: ((من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، و من حج و لم يزر قبري فقد جفاني)).
و هذا موضوع، آفته أنه من رواية النعمان بن شبل المتقدم، اتـهمه الحافظ موسى بن هارون الحمال، و قال ابن حبان: ((يأتي عن الثقات بالطامات، و عن الأثبات بالمقلوبات)) و هو يرويه عن محمد بن الفضل بن عطية، و كان كذاباً، كما قال ابن معين، و قال أحمد: حديثه حديث أهل الكذب، و هذا يرويه عن جابر الجعفي، و هو رافضي متروك شديد الضعف، قال أبو حنيفة رحمه الله: ما رأيت أكذب منه.
الحديث الخامس: عن ابن مسعود مرفوعاً بلفظ: ((من حج حجة الإسلام، و زار قبري، و غزا غزوة، و صلى علي في بيت المقدس، لم يسأله الله فيما افترض عليه)).
و هذا حديث باطل ظاهر البطلان، و لذلك قال السيوطي و غيره: إنه حديث موضوع، و هو مخرج في ((الأحاديث الضعيفة)) برقم (204).
الحديث السادس: عن أبي هريرة مرفوعاً: ((من زارني بعد موتي فكأنما زارني و أنا حي)).
و هذا موضوع، في إسناده خالد بن يزيد العمري، قال ابن معين و أبو حاتم : ((كذاب)). و قال ابن حبان: ((يروي الموضوعات عن الأثبات)).
قلت: و السند إليه مظلم، فيه من لا يعرف.
الحديث السابع: عن أنس، و له عنه لفظان بطريقين:
الأول: بلفظ: ((من زارني محتسباً كنت له شهيداً و شفيعاً يوم القيامة)).
و في إسناده سليمان بن يزيد الكعبي، قال أبو حاتم: ((منكر الحديث)). ثم هو منقطع، لأن الكعبي هذا لم يسمع من أنس.
و الآخر بلفظ: ((ما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني فليس له من عذر)).
و هذا موضوع، في سنده سمعان بن المهدي، قال الذهبي: ((لا يكاد يعرف، ألصقت به نسخة مكذوبة رأيتها، قبح الله من وضعها)). قلت: و إسناده إليه ظلمات بعضها فوق بعض، و ليس فيه ذكر القبر أيضاً.
الحديث الثامن: عن رجل عن بكير بن عبد الله مرفوعاً: ((من أتى المدينة زائراً وجبت له شفاعتي يوم القيامة)).
و هذا باطل كما قال ابن عبد الهادي، و إسناده مرسل أو معضل، و فيه الرجل المبهم، و ليس فيه ذكر القبر.
قلت: هذه هي الأحاديث التي أشار إليها الدكتور البوطي، و تلك طرقها التي زعم أن الحديث يرتقي بمجموعها إلى درجة القوة! دون أن يجري أي دراسة حولها – لو كان يستطيعها – ليعلم شدة ضعفها و تنافر متونـها، فيحول ذلك بينه و بين الزعم المذكور، و لكن إذا كان لا يستطيع تلك الدراسة، فهل لا يحسن التقليد أيضاً؟ فهو بدل أن يقلد شيخ الإسلام الذي صرح بتضعيف الحديث من جميع طرقه كما رأيت، يقلد الأخنائي، أو بدل أن يقلد الإمام النووي الذي ضعف جداً طريقيه المتقدمين – و هما أشهر طرقه – قلد السبكي الذي قوى الحديث خلافاً لكل من تكلم على الحديث من المتقدمين عليه علماً و زمناً الذين جزموا بأنه حديث منكر كابن خزيمة و البيهقي و غيرهما ممن تكلموا على مفردات طرقه و العسقلاني و الذهبي و السيوطي، فضلا عن ابن تيمية و ابن عبد الهادي، فلو أن الدكتور كان يحسن التقليد على الأقل لقد هؤلاء لاختصاصهم بـهذا العلم و كثرة عددهم و تقدمهم، و لكن صدق الله العظيم {و من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور}.
و اعتقادي أن الدكتور يظن {و إن الظن لا يغني من الحق شيئا} أن أي حديث كثرت طرقه تقوى بـها! و هذا جهل مخالف لما هو مقرر في علم مصطلح الحديث، قال ابن الصلاح في ((المقدمة)) (ص 36 – 37) بعد أن ذكر الحديث الحسن لغيره و هو الذي جاء من أكثر من وجه ليس فيه مغفل كثير الخطأ: ((لعل الباحث الفهم يقول: إنا نجد أحاديث محكوماً بضعفها مع كونـها قد رويت بأسانيد كثيرة من وجوه عديدة مثل حديث ((الأذنان من الرأس)) و نحوه، فهلا جعلتم ذلك و أمثاله من نوع الحسن، لأن بعض ذلك يعضد بعضاً كما قلتم في الحسن على ما سبق آنفاً؟ و جواب ذلك أنه ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت، فمنه صنف يزيله ذلك، بأن يكون ضعفه ناشئاً من ضعف حفظ راويه، مع كونه من أهل الصدق و الديانة، فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه آخر عرفنا أنه مما قد حفظه، و لم يختل فيه ضبطه، و كذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك، كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ، إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر. و من ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك، لقوة الضعف، و تقاعد هذا الجابر عن جبره، و ذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي، متهماً بالكذب، أو كون الحديث شاذاً. و هذه جملة تفاصيلها تدرك بالمباشرة و البحث فاعلم ذلك فإنه من النفائس العزيزة)).
أقول: إي و الله إنه لمن النفائس العزيزة التي يغفل عنها كثير من المشتغلين بـهذا العلم، فضلاً عن غيرهم ممن لا معرفة لهم به مطلقاً، كهذا الذي نحن في صدد الرد عليه، و التحذير من آثار جهله، و لذلك فإنه لما لخص الحافظ ابن كثير كلام ابن الصلاح هذا في ((مختصره)) (ص 43) و أقره عليه، علق عليه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله بقوله: ((و بذلك يتبين خطأ كثير من العلماء المتأخرين في إطلاقهم أن الحديث الضعيف إذا جاء من طرق متعددة ضعيفة ارتقى إلى درجة الحسن أو الصحيح، فإنه إذا كان ضعف الحديث لفسق الراوي أو اتـهامه بالكذب، ثم جاء من طرق أخرى من هذا النوع ازداد ضعفاً، لأن تفرد المتهمين بالكذب أو المجروحين في عدالتهم بحيث لا يرويه غيرهم، يرفع الثقة بحديثهم، و يؤيد ضعف روايتهم و هذا واضح)).
قلت: إذا أمعن القاريء النظر في تلك الطرق المتقدمة لحديث الزيارة لم يجد فيها أي صفة من تلك الصفات التي ذكرها ابن الصلاح في الطرق التي يتقوى الحديث بـها، فليس فيها مثلاً راو واحد على الأقل هو من أهل الصدق، علمنا أنه ضعيف الحفظ، بل هم من المتهمين بالكذب، أو المعروفين بالضعف الشديد، أو من المجهولين، أو المبهمين مع عدم سلامة الحديث من الاضطراب و النكارة في المتن، كما أنه ليس فيها طريق واحدة مرسلة، أرسلها إمام حافظ!!
من أجل ذلك نجد كثيراً من الأحاديث الضعيفة، قد جزم العلماء بضعفها مع أن لها طرقاً كثيرة، و قد ضرب ابن الصلاح لذلك مثلاً بحديث: ((الأذنان من الرأس))، و فيه عندي نظر من وجوه أهمها أنني وجدت له طريقاً قوية الإسناد، و لذلك خرجته في ((صحيح أبي داود)) (123) و ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) برقم (26) و هذا مطبوع، فليراجعه من شاء.
و لذلك، فالأولى عندي التمثيل بحديث: ((من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من السنة كنت له شفيعاً يوم القيامة)) كما فعل الحافظ السخاوي في ((فتح المغيث)) (1/71) و قال عقبه: ((فقد نقل النووي اتفاق الحفاظ على ضعفه مع كثرة طرقه)).
و الجهل بـهذه القاعدة الهامة يؤدي إلى تقوية كثير من الأحاديث الضعيفة من أجل طرقها، بل و قد يؤدي إلى الالتحاق ببعض الفرق الضالة، فهذا مثلاً حديث: ((إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه))، فقد روي من حديث أبي سعيد، و عبد الله بن مسعود، و جابر، و سهل بن حنيف، و غيرهم، و مع ذلك فهو معدود في جملة الأحاديث الموضوعة(50). و مثله حديث: ((علي خير البشر، من أبى فقد كفر)) له طرق كثيرة أيضاً(51). و الأمثلة من هذا النوع كثيرة جداً لا تكاد تحصر، فراجع إن شئت كتابي ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) ففيها الشيء الكثير منها: (55 و 133 و 134 و 139 و 143(52) و 226 و 230 و 266 و 332 و 337 و 451 و 583 و 585 و 649 …).
أقول: هذه الأمثلة من الأحاديث الموضوعة ينبغي أن تكون عند الدكتور البوطي، صحيحة لأنه يصدق فيها قوله المتقدم: ((بعضها يقوي بعضاً …))!! {فهل من مدكر}؟
و في الختام أذكره بنصيحتي التي كنت قدمتها إليه مقرونة بالاستشهاد بكلام الإمام النووي قبيل هذا التذييل، راجياً أن لا أضطر مرة أخرى إلى إضاعة الوقت في الرد على جهالاته و افتراءاته، سائلاً المولى سبحانه و تعالى أن يصلح أعمالنا، و يخلص نوايانا، و يجمع بين قلوبنا، على كتاب ربنا، و سنة نبينا، إنه سميع مجيب.
دمشق 3 ربيع الأول سنة 1396
______________
________
__
(ملاحظة) في حواشي الكتاب، عند ذكر "قال راقمه" أو "قال مراد"، فالكلام الذي يليه هو لمعيد تنسيق الكتاب و ليس للشيخ رحمه الله!
(1) نشرت أولاً في مجلة التمدن الإسلامي الغراء (مجلد 33 و 34) ثم أفردت في رسالة، و ذلك قبل عشر سنين.
(2) قال راقمه: لعلها ((السفليين)).
(3) انظر مقدمتي لشرح العقيدة الطحاوية (ص 44 – الطبعة الرابعة).
(4) و هي ثماني محاضرات في السيرة النبوية و رسالة الإسلام، كان ألقاها في جامعة مدراس بالهند، و هي ذات فوائد هامة تدل على غزارة علم المؤلف رحمه الله تعالى و جزاه خيراً.
(5) ثم تبين لي أن الدكتور البوطي، قلد في هذا الكلام الدكتور السباعي رحمه الله تعالى. فقد قال في كتابه ((مذكرات في فقه السيرة)) (ص 10): ((تنحصر المصادر الرئيسية المعتمدة للسيرة على أربعة مصادر … القرآن الكريم، ثم السنة الصحيحة التي تضمنتها كتب أئمة الحديث، المعترف بصدقهم، و الثقة بـهم. و هي الكتب الستة: البخاري، و مسلم، و أبو داود، و النسائي، و الترمذي، و ابن ماجة، و يضاف إليها: ((الموطأ)) للإمام مالك و ((مسند الإمام أحمد))، فهذه الكتب في الذروة العليا في الصحة، و الثقة و التحقيق أما الكتب الأخرى، فقد تضمنت الصحيح و الحسن، و في بعضها الضعيف أيضاً))!
(6) انظر الكلام عليه و بيان أنه معارض للأحاديث الصحيحة في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) رقم (101).
(7) الأصل: محمد بن عبد الله بن عقيل، و هو خطأ صححته من ((ابن سعد)) و غيره.
(8) قال راقمه: كذا بالأصل و لعلها ((ما هممت)) و الله أعلم.
(9) و أزيد هنا فأقول: إن حديث عمار مخالف لحديث علي فإن فيه: ((… على ميعاديه أما أحدهما فغلبتني عيني، و أما الآخر فحال بيني و بينه سامر قومي))!
(10) قلت: و لذلك، فلا ينبغي أن يغتر أحد بما ذهب إليه ابن سيد الناس في مقدمة كتابه: ((عيون الأثر)) من توثيق الواقدي، فإنه خلاف ما عليه المحققون من الأئمة قديماً و حديثاً، و لمنافاته علم المصطلح الذي ينص على وجوب تقديم الجرح المفسر على التعديل، و أي جرح أقوى من الوضع؟! و قد اتـهمه به أيضاً الإمام الشافعي الذي يزعم البوطي أنه يقلده! و أبو داود و أبو حاتم، و قال أحمد: كذاب.
(11) قال راقمه: جميع الإحالات هي في الطبعة الأصل لهذا الكتاب فلا يستغرب إذا وجد اختلاف.
(12) ثم طبع و الحمد لله تعالى في المكتب الإسلامي.
(13) قال راقمه على الحاسب: صوابه أم سليم و ليس أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، و انظر صحيح البخاري غير مأمور.
(14) انظر كتابي ((حجاب المرأة المسلمة)) (ص 18) طبع المكتب الإسلامي.
(15) كذا في ((تخريج الإحياء)) (4/283) له، و قال: ((و كذا قال المزي لما سئل عنه))، و لا شك أن البوطي قرأ ((الإحياء)) و لو مرة واحدة، فهل لم يقرأ تخريج الحافظ العراقي عليه ليعلم منه الحديث الضعيف و ما لا أصل له، أم هذا علم لا قيمة له عنده لأنه صار علماً لمن ينبزهم الدكتور بـ ((الوهابية)) فهو لا يريد أن يتشبه بـهم!
(16) ثم وقفت على الطبعة الثالثة من كتاب الدكتور، فإذا به قد أقام هذا الحديث الصحيح مقام ذاك الحديث الباطل فأحسن، و لكنه أساء أيضاً حين لم يذكر صاحب الفضل عليه في ذلك، و هو الأستاذ الفاضل عيد عباسي فقد كان انتقده في كتابه ((بدعة التعصب)) (ص 286) و بين له بإيجاز أنه حديث لا أصل له، فكان على الدكتور أن يبين ذلك و يشكره عليه لقوله صلى الله عليه و سلم: ((من لم يشكر الناس لم يشكر الله)) و مع ذلك وقع هناك في طامة أخرى لم يسبق إليها، حيث رفع حديثاً إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من رواية البخاري، و هو عنده موقوف من قول عمر كما سيأتي في الفصل 7 من ((التذييل)) بإذن الله تعالى.
(17) قال كاتبه على الحاسب: في الأصل ((تجليته)) و الصواب ما أثبت، و الله أعلم.
(18) قال مراد: في الأصل ((تنظيماً)) بدل ((تعظيماً)).
(19) و أكد ذلك في مقدمة الطبعة بقوله: ((و أنا أعلم أنني لم أسجل في كتابي هذا من أحداث السيرة إلا أهمها و أصحها ((قال راقمه: في الأصل: أصححها)))). فهل صدق؟!
(20) قال مراد: في الأصل ((الانقطاع في موضوعين منه)).
(21) لم ترد في كتاب الدكتور، و استدركتها من البخاري.
(22) و هو في مختصري لصحيح البخاري برقم (118).
(23) بل صرح في ((المغني)) - (قال مراد: يعني و الله أعلم ((مغني المحتاج))) – بأنـها تحرم لأنه حي بنص القرآن!
(24) من فقهاء الشافعية في القرن العاشر، توفي سنة (988).
(25) قال راقمه: يعني الشربيني مؤلف ((مغني المحتاج)).
(26) قال راقمه: هذا الكتاب للشيخ الألباني ليس هو المعروف اليوم بـ ((ضعيف سنن أبي داود)) بل هو كتاب آخر، و الله أعلم.
(27) ثم في رسالتي الخاصة: ((التوسل أنواعه و أحكامه)) (ص 102 – 113).
(28) انظر الحديث التاسع عشر (ص 21).
(29) قال مراد: هكذا في الأصل و لعلها (267 – 276).
(30) قال مراد: كلمة غير واضحة بالأصل قرأتـها هكذا ((لينبه)).
(31) لقد اكتشف هذا الخطأ المطبعي ذلك الطالب الجامعي الذي سبقت الإشارة إليه في آخر الكلام على الحديث (14) ص 26 – 27، أليس كان أستاذه الدكتور أولى بـهذا الاكتشاف الخطير!
(32) و اعلم أيها القاريء الكريم أن الأستاذ الفاضل عيد عباسي كان نشر في كتابه ((بدعة التعصب المذهبي)) (ص 316 – 320) رداً على الدكتور البوطي في ثلاثة أحاديث كان الدكتور انتقدني فيها هذا أحدها، و الثاني حديث ابن عباس، و الثالث حديث عائشة، و كلاهما يأتي بعد هذا، و على الرغم من وضوح خطئه له و جهله بـهذا العلم، فإنه قد منعه كبره و غروره أن يتراجع عن الخطأ و يعترف بالحق كما هو شأن المؤمن الفاضل، و لكن الدكتور أبى أن يكون كذلك، فإنه لما اطلع على رد الأستاذ عيد المشار إليه (ص 318) و أكد له وجود الحديث في الصفحة (147) و زاد على ذلك أنه في باب ((ذكر أخذ رسول الله r من شاربه)) من ((الطبقات)) استكبر عن الاعتراف بالحق، فألحق في طبعة الكتاب الثالثة و قد صدرت بعد كتاب ((البدعة)) بعد قوله: ((لم نجدها في رواية ابن سعد)) الزيادة الآتية:
((و إنما هي من رواية ابن جرير، فلعله إنما أراد أن ينسبها إليه))!
قلت: فانظر إليه كيف يوهمني في قولي السابق: ((من الطرق الثلاث)) كي لا يعترف بخطئه في إنكاره وجود الزيادة عند ابن سعد أيضاً، على قاعدة رمتني بدائها فانسلت! أليس هذا هو الكبر الذي أخبر رسول الله r أنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة منه ألا و هو بطر الحق (أي رده بعد ظهوره) و غمط الناس، أي الطعن فيهم بغير حق، و هذا هو عين ما فعله البوطي هنا و في غير مكان، عامله الله بما يستحق.
ثم إن بعض الناس ليتساءل فيقول: ما دام أن الدكتور علم ثبوت الزيادة عند ابن جرير على الأقل، فما باله لم يعلق عليها بما يبين دلالتها على تحريم حلق اللحية الذي ابتلي به كثير من العلماء في هذا الزمان، و فيهم بعض الدكاترة ممن يحلقها بالمقراض (الماكينا) عملاً بمذهب العوام: ((خير الذقون إشارة تكون))! لو أن الدكتور عالج هذه البلية و بين حكم الله فيها أليس كان خيراً له، من أن يتعقب الألباني بجهل و ظلم (و الله لا يحب الظالمين)؟ فلعل الدكتور عنده من الجرأة العلمية ما يحمله على بيان ذلك مستدلاً بالكتاب و السنة، كما يتظاهر في كتابه هذا ((فقه السيرة)) في بعض المسائل!
(33) قلت: هذا الحديث هو الحديث الثاني الذي كان الأستاذ عيد عباسي بين خطأ الدكتور فيه و افتراءه علي، في كتابه القيم ((بدعة التعصب المذهبي)) كما سبقت الإشارة إليه قريباً (ص 52 – 56)، فما استجاب الدكتور لداعي الحق بل أصر و كابر و عاند، فأبقى تعليقه عليه بعجره و بجره و زاد عليه في الصفحة الثالثة مما يؤكد عناده و استكباره فقال عقبه:
((اللهم إلا أن رواية أحمد و ابن ماجة فيها: و استفتح من الآية التي بلغها أبو بكر، و ليس في رواية الشيخين هذه الجملة. و على كل حال فالحادثة واحدة و الحديث واحد، و لا ينبغي عند التخريج الاقتصار على ذكر الطريق الضعيف و السكوت عن الطريق الصحيح أو المتفق عليه لما في ذلك من الإيهام الواضح التي يتحاشاه علماء الحديث)).
قلت: فهو بـهذا الاستثناء المذكور – مع أنه سرقه من الأستاذ عباسي – يحاول أن يلف و يدور و يضلل القراء و يصرفهم عن الاطلاع على جهله! و ما درى الدكتور أصلحه الله أن بذلك كالباحث عن حتفه بظلفه، فإنه بتصريحه أن تلك الجملة ليست في رواية الشيخين قد تبين للقراء أن تعجب الدكتور مني لعدم عزوي لحديثهما إلى الشيخين تعجب باطل، و أبطل منه إصراره على اعتبار حديث عائشة الذي ليس فيه تلك الجملة و حديث ابن عباس و فيه الجملة حديثاً واحداً، و عليه جاز عنده أن يقول في حديث ابن عباس: ((رواه الشيخان)) فإن أجاز هذا اتضح جهله، و إن لم يجزه و هو الحق تبين عناده و إصراره على باطله على حد المثل السائر: عنـزة و لو طارت. و من ذلك إطلاقه الضعف في هذه الزيادة على حديث ابن عباس مع دعمنا إياه بالطريق الأخرى دون أن يجيب عنها بشيء مع أنه كان من قبل قد استنكر علي نسبة ضعف إليه بزعمه! فتأمل أيها القاريء الكريم كيف وقع هو منها فيما كان أنكره علي من قبل! تلك هي عاقبة الباغي الظالم (من حفر لأخيه بئراً وقع فيه).
و أما سكوتي عن حديث عائشة المتفق عليه، فلأنه لم يكن موضوع بحثي و تخريجي و هذا ظاهر جداً فلا داعي للإطالة، و من شاء الزيادة فليراجع ((ملحق بدعة التعصب المذهبي)) للأستاذ عيد عباسي (ص 150 – 151).
(34) أقول: و هذا هو الحديث الثالث من الأحاديث التي بين الأستاذ عيد عباسي خطأ الدكتور فيها كما سبقت الإشارة إلى ذلك قريباً (ص 52 – 53)، لكن الدكتور كعادته لا يعترف بالخطأ مهما كان جلياً، و لكنه في هذه المرة سحب توهيمه المتقدم إياي تحت ستار من اللف و الدوران، إلا أنه مع ذلك صرح بأن اللفظ الذي خرجته ضعيف، و غير عبارته السابقة، فزاد فيها و نقص فجعلها في الطبعة الثالثة (ص 503) هكذا:
((رواه البخاري في باب مرض الرسول صلى الله عليه و سلم … (- زاد فيها – الترمذي و النسائي و أحمد بطريق آخر بلفظ ((اللهم أعني على سكرات الموت)) و قد خرجه الأستاذ (!) الشيخ ناصر) فقال: ضعيف أخرجه الترمذي و غيره عن (!) طريق موسى بن سرجس بن محمد عن عائشة … الخ (- زاد أيضاً -: و إنما هو ضعيف بـهذا اللفظ فقط،، أما أصل الحديث فقد رواه البخاري بطريق صحيح و إذا كان للحديث الواحد طريقان فلا ينبغي الاقتصار في تخريجه على ذكر الضعيف منهما لما فيه من الإيهام لما سبق بيانه في صفحة (501) و لا يضير اختلاف يسير في اللفظ ما دامت الحادثة واحدة)).
قلت: فتأمل في هذا التعديل تجد فيه ما يأتي:
أولاً: حذفه التوهيم المذكور دون أن يلفت نظر القاريء لهذه الطبعة إلى خطئه فيه في الطبعة السابقة!.
ثانياً: تصريحه بضعف الحديث باللفظ المذكور، و هو ما كنت صرحت به ووهمني فيه!
ثالثاً: قوله: و لا يضير اختلاف يسير … الخ فيه غفلة عما ذكرته من ضعف سند هذا اللفظ، و مخالفته للفظ البخاري الصحيح، فهو حديث آخر، نعم لقد كان من تمام الفائدة أن أنبه عند تخريجي إياه على ذلك، و لكن ما شاء الله كان، و ما لم يشأ لم يكن، و له في ذلك الحكمة البالغة، و لعل من ذلك الكشف عن جهل الدكتور بـهذا العلم، و عن إصراره على الخطأ بعد تنبيهه، و لله في خلقه شؤون.
(35) قال راقمه: أصل العبارة هكذا: ((و ما إسناد لا يعرج عليه بل و ينتقده)) و لعل الصواب ما أثبت، و الله أعلم.
(36) قال راقمه: الأصل ((كتابـهما)) بدل ((كتابيهما)) في الأولى و الثانية.
(37) و هذا التقصير هو من قلمي أو إملائي فأستغفر الله منه.
(38) قلت: و نص كلامه فيه (2/340 – طبعة بولاق): ((و ما ذكرنا في هذا الكتاب حديث حسن – فإنما أردنا حسن إسناده عندنا – (قلت: يعني حسن لغيره بدليل تمام كلامه) كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب و لا يكون الحديث شاذاً، و يروى من غير وجه نحو ذلك، فهو عندنا حديث حسن)) قلت: و خفي قول الترمذي هذا على الحافظ ابن كثير فأنكره في كتابه ((اختصار علوم الحديث)) (ص 40) فكأنه لم يقع في نسخته من ((سنن الترمذي)). و قد رد ذلك عليه الحافظ العراقي و غيره، فراجع شرح الشيخ أحمد شاكر رحمة الله عليه.
(39) قلت: و هذا الذي نقله ابن دقيق العيد في غاية التحقيق، فهو بالاعتماد عليه حقيق بخلاف ما نقله اللكنوي في ((الرفع و التكميل)) (ص 144 – طبع حلب) عن الذهبي مما يفيد التسوية بين قولهم: ((له مناكير)) و ((منكر الحديث)) و إن أقره المعلق عليه؛ فإنه لا دراية له في هذا الفن، و إنما هو قماش جماع!
(40) قال راقمه: في الأصل ((من صححه وواقه)).
(41) قال راقمه: الأصل: مخطوطة.
(42) قال راقمه: لعل الشيخ يشير إلى كتاب البوطي ((اللامذهبية: أخطر بدعة تـهدد الشريعة الإسلامية)).
(43) قال راقمه: بناء على أن كلمة ((أكره)) في زمن أبي حنيفة على معنى التحريم ((كراهة تحريم))، و الله أعلم.
(44) قال راقمه: كذا هي و لم يتبين لي الصواب – و لعله ابن حبان - فلتراجع في ((الضعفاء و المتروكين)).
(45) قال راقمه: هي كذا ((عن)) و لعلها ((في)).
(46) قلت: و هو مخرج عندي في ((الأحاديث الصحيحة)) برقم (1904).
(47) قال مراد: في الأصل بعد كلمة ((قرن)) كلمة ((ثم)).
(48) قال مراد: في الأصل ((و أن)).
(49) قلت: و قد يستنكر الدكتور البوطي و أمثاله من ذوي الأهواء ثبوت هذا عن مالك، فماذا يفعل و هو في ((المدونة)) (2/132)؟
(50) انظر ((اللآلئ المصنوعة)) للسيوطي (1/425)، و ((تنزيه الشريعة)) لابن عراق (2/8) و ((الفوائد المجموعة)) للشوكاني (رقم 1198) و غيرها.
(51) ((تنزيه الشريعة)) (1/353).
(52) قال راقمه: في الأصل (134) و هي مكررة فلعلها كما كتبتها (143).