مسلك القران الكريم فى اثبات الوحدانية


مسلك القران الكريم في إثبات الوحدانية
 
د. علي بن محمد بن ناصر الفقيهي
 
عميد شئون المكتبات بالجامعة
 
 
 


 
 
ج - تذكير المخاطبين بالنعم التي أنعم الله بها عليهم:
 
من الأساليب التي سلكها القران الكريم لرد الفطرة إلى طبيعتها التي فطر الله الناس عليها، تذكيرهم بالنعم التي أسداها إليهم والتي يدركون بالحس أنهم لم يحدثوا منها شيئاً, وإنما الله هو الذي تفضل بها عليهم.
 
ثم يعقب ذلك بعرض بعض قصص الأنبياء في دعوتهم لأممهم لمثل ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من إخلاص العبادة لله وحده، وبيان ما حل بأولئك الذين لم يستجيبوا لدعوة أنبيائهم من العذاب، تحذيراً للمخاطبين أن ينزل بهم ما نزل بأولئك المكذبين وقد عرض القران الكريم كثيراً  من ذلك في سور متعددة نذكر من ذلك نموذجين:
 
الأول: قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} (المؤمنون: الآية 17-22)
 
وبعد أن عدد الله تبارك وتعالى هذه النعم، وهي في نفس الوقت آيات واضحات ودلالات على وحدانيته سبحانه وتعالى، اتبع ذلك بذكر الأنبياء مع أممهم وبيان ما حل بالمكذبين منهم قال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} إلى قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} ( المؤمنون: الآية 31 - 32).
 
إلى قوله:{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِين مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} ( المؤمنون: الآية 41-44).
 
وهكذا يقص الله تبارك وتعالى على هذه الأمة ما حل بالأمم السابقة التي كذبت رسلها فأهلكهم الله جميعاً فأصبحوا أحاديث وكأنهم لم يوجدوا {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} ( القمر: الآية 41-43).
 
النموذج الثاني: قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ} ( النحل: الآية 1-2).
 
ينزه الله تبارك وتعالى نفسه عن الشركاء فهو الواحد الأحد، ليس له شريك في الملك،{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} ( الحج: الآية 31).
 
ويقرر أمر النبوة، بأنزال الملائكة بالوحي من السماء، على من اختارهم واصطفاهم من عباده {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} ( الحج: الآية 75) لينذروا الناس ويبينوا لهم أن الإله المعبود هو الله، وحده وأن هذه الآلهة المزعومة والشركاء المدعوين من دونه لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً.{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ …}.
 
ثم يتبع ذلك بالأدلة على من يستحق العبادة، تلك الأدلة التي تخاطب العقل والوجدان معاً. أدلة ملموسة محسوسة يعيشها المخاطبون يشاهدونها بأبصارهم، ويذكرونها بعقولهم منها:
 
1-خلق السموات التي يدرجون تحتها
 
2- وخلق الأرض التي يعيشون عليها.
 
3- وخلق المخاطبين أنفسهم، فهم الدليل والمستدل عليه {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ}.
 
4- وخلق ما به استقامة حياتهم وصلاح معاشهم
 
يقول الله تعالى في ذلك: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} ( النحل: الآية 3-7).
 
هكذا يبين الله تعالى الأدلة على وحدانيته فالموجد لجميع المخلوقات يجب أن يكون هو المعبود وحده {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
 
ويخبر عن النقلة الهائلة بين خلق الإنسان من نطفة ضعيفة حقيرة مهينة لا تكاد تكون شيئاً مذكوراً، وبين أن يصبح خصيماً مبيناً، ومن يخاصم، يخاصم خالقه الذي أوجده من العدم:{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} (يس: الآية 78).
 
ثم يذكر الإنسان بأن من نعم الله عليه هذه المركوبات التي سخرها له، من الخيل والبغال والحمير، والتي يتخذها زينة، ويشير إلى ما سيخلقه مما لا يعلمه المخاطبون في عصرهم من أنواع المركوبات، والحاملات للأثقال التي يشق عليهم حملها، والأنواع المعدة للزينة {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ}
 
ثم يتبع ذكر الآيات المحسوسة والمشاهدة التي هي جزء من حياة الإنسان: ويطلب منه أن يتفكر ويتعقل هذه الآيات، ثم يتذكر لعله بذلك يشكر الله الذي أوجد له هذه النعم.
 
ويسرها له حتى يعبده وحده لأن الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة، بخلاف الذي لا يستطيع الخلق والإيجاد.
 
يقول الله  تعالى في ذلك: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} ( النحل: الآية10-16)
 
ثم يلفت أنظار المخاطبين الغافلين عن التعقل والتبدر في  هذه المشاهد، ويذكرهم بأن موجد هذه الأشياء وخالقها ومسخرها لهم هو المستحق للعبادة وحده، وينفي سبحانه التسوية بين المعبود الحق، والمعبودات الباطلة التي لا تخلق شيئاً وذلك في استفهام انكاري فيقول:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} ( النحل: الاية17-18).
 
ويختم هذا العرض لهذه الآيات ببيان علمه الشامل لما تكنه الصدور أو تظهره إذ لا فرق عنده سبحانه بين ماتوسوس به الأنفس، وبين ما تظهره فهو يعلم السر وأخفى {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}.
 
ويعقب ذلك ببيان حال الآلهة المدعوة من دونه، وأنهم عاجزون لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون فكيف يسوغ دعاؤهم، ومنهم أموات لا يشعرون بالوقت الذي فيه يبعثون.
 
{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (النحل: الآية 20-21)
 
أما الإله الحق فهو واحد، لا تعدد فيه لأن الآلهة يحصل به الفساد في الكون ولا ينكر الوحدانية إلا المتكبرون الكافرون باليوم الآخر.
 
{إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}( النحل: الآية 22)
 
فمن أسباب الإعراض عن الحق الكبر, والكبر غمط الحق، وقد بين تعالى  في آيات كثيرة أن جزاء المتكبرين النار.
 
وبعد هذا العرض الموجز لهذه النماذج التي سلكها القران الكريم لاثبات الوحدانية في الألوهية، تبين أن المشركين لم يدعوا لمعبوداتهم أنها تخلق أو ترزق أو تحي أو تميت، وإنما ذلك كله لله.
 
وكل الذين يطلبونه منها هو التوسط لهم عند الله، فهم يدعونها ويتقربون إليها بالنذور والقرابين لتقربهم إلى الله زلفى. {...مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ( الزمر: الآية 3)
 
فما عبادتهم تلك ؟ أوضحت الايات السابقة أن من عبادتهم لها:
 
1-                       دعاؤها
 
2-                        حبها والخوف منها - الاستشفاع بها.
 
3-            والعبادة في الإسلام ليست محصورة في الصلاة والصوم وأركان الإسلام مثلاً؟ لأن الله يقول {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} ( الذاريات: الآية 56).
 
فهل يستطيع البشر أن يصلوا فلا يفتروا، وان يصوموا الدهر فلا يفطروا، ليس ذلك في استطاعتهم ولم يهيئوا لذلك. فالإنسان مركب من روح وبدن ولكل مطالبه.
 
وإنما معنى العبادة أوسع من ذلك وقد بينت الآية التالية شمولها وهي قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: الآية 164-165).
 
ومن هنا يتضح شمول العبادة لأنواع كثيرة من أفعال العباد يصرفها كثير من الناس لغير الله ظناً منهم أن ذلك من الأمور الجائزة وهي من صميم العبادة التي لا يجوز صرفها لغير الله ومن ذلك:
 
 
 
1- الدعاء:
 
وقد نص الله تبارك وتعالى في كتابه أن الدعاء عبادة. قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} ( غافر: الآية 60).
 
وقال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً} مريم: (الآية 48-49).
 
فقد بين الله في الآيتين أن الدعاء عبادة, ففي الآية الأولى, قال: ادعوني … إن الذين يستكبرون عن عبادتي، فالعبادة هي الدعاء.
 
وقول إبراهيم: وأعتزلكم وما تدعون من دون الله … فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله. فدعاء غير الله عبادة والعبادة لا يجوز صرفها لغير الله.
 
وفي الحديث الدعاء مخ العبادة.
 
ولذلك فإن المشركين كانوا يخلصون الدعاء لله في وقت الشدة, كما في قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (يونس: الآية 22).
 
يقول الشيخ محمد الغزالي في كتابه عقيدة المسلم ص 64 تحت عنوان: توحيد العامة وما يعلوه من غبار. ينبغي لهذه الأمة أن تكون مثلاً عالياً في إسلام الوجه لله وإفراده بالنية والعمل. بيد أننا نلحظ - آسفين - أن هناك مسالك شائعة بين الجماهير الغفيرة من المسلمين، لها دلالتها الخطرة على فساد التفكير، وضلال الاتجاه واضطراب المقصد. ولا نحب أن نوارب في الكشف عن هذه العلة, فإن أي خلل في دعائم التوحيد معناه الخبل الذي يدرك موطن القيادة  الفكرية في هذا الدين الحنيف.
 
إذ التوحيد في الإسلام حقيقة وعنوان، وساحة وأركان، وباعث وهدف ومبدأ ونهاية.
 
قال: "ولسنا - كذلك - ممن يحب تصيد التهم للناس، ورميهم بالشرك جزافاً, واستباحة حقوقهم ظلماً وعدواناً.
 
ولكننا أمام تصرفات توجب علينا النظر الطويل، والنصح الخالص والمصارحة بتعاليم الكتاب والسنة كلما وجد عنها أدنى انحراف".
 
ثم يضرب الأمثلة على هذا الانحراف من واقع الأمة المسلمة في هذا العصر فيقول: "لقد اهتمت حكومة انجلترا - في سبيل مكافحة الشيوعية - بالحالة الدينية في مصر ! فكان مما طمأنها على إيمان المصريي: "أن ثلاثة ملايين مسلم زاروا ضريح أحمد البدوي بطنطا هذا العام".
 
قال: "والذين زاروا الضريح ليسوا مجهولين لدى، فطالما أوفدت رسميا لوعظهم، فكنت أشهد من أعمالهم ما يستدعي الجلد بالسياط لا ما يستدعي الزجر بالكلام. ثم يبين حالهم ولماذا جاءوا إلى صاحب الضريح، فيقول: جاءوا للوفاء بالنذور والابتهال بالدعاء. ولمن النذور ؟ ولمن الدعاء ؟ إنه أول الأمر للسيد".
 
فإذا جادلت القوم قالوا، إنه لله عن طريق السيد البدوي.
 
وأوضح بعد ذلك: أن من بديهيات الإسلام الأولى، أن الطلب ووسيلته جميعاً يجب أن يكون من الله
 
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: الآية 5)
 
"إذا سألت فاسأل الله" ( رواه أحمد والترمذي ).
 
أقول: إن ما ذكره الشيخ محمد الغزالي عن حال أولئك الملايين عند ضريح السيد البدوي، هو حال أكثر العالم الإسلامي في شرق الأرض وغربها، وقد شاهدت بعيني وسمعت بأذني من يطلب من السيد الإدريسي - وهو متمسك بالحلة الخضراء المكسي بها الضريح داخل المسجد - الولد والشفاء من المرض، ورد الغائب وكل ما لا يطلب إلا من الله الواحد الأحد.
 
إن هؤلاء إذا قلت لهم: قولوا: لا إله إلا الله. امتدت بها حناجرهم وارتفعت بها أصواتهم وقالوها أكثر من سبعين مرة. وهم مع ذلك سادرون في هذا العمل لأنهم لا يعرفون معناها، وماذا تريد منهم أن يلتزموا به أمام خالقهم عبادة وحكماً وسلوكاً.
 
أما الذين قال لهم رسول الهدى الله صلى الله عليه وسلم: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا.فمن وفقه الله، قالها وعمل بمقتضاها فلم يدع غير الله ولم يتحاكم إلى سواه.
 
ومن لم يوفق قال: أجعل الألهة إلهاٍ واحداً. وسل سيفه فكان الأب يقتل ابنه والابن يقتل أباه. فهل إن ذلك لمجرد النطق بلفظ: لا إله إلا الله...! لا..
 
لأن من كان في آخر لحظة من حياته كأبي طالب حين طلب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لا إله إلا الله ليحاج له بها عند الله، لم يقلها، فأبو جهل كان عنده يقول له: أترغب عن ملة عبد المطلب فكان آخر كلامه أن قال: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فكان من أهل النار، وأنزل الله فيه قوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ( القصص: الآية 56).
 
ومن هنا نداءنا إلى الأساتذة الفضلاء، وهم من قادة الفكر الإسلامي المهتمين بتوجيه شباب الأمة السلامية إلى الخير، الشباب الذي تعلق عليه آمال الأمة في قيادتها إلى ما فيه عزها وفلاحها في الدنيا والآخرة, أن يرجعوا أولاً لدراسة دعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم في مكة وهي ثلاثة عشر عاماً قضاها رسول الله صلى الله من عمر الدعوة، إلى أي شيء كان يدعو الناس، وما طريقته وأسلوبه في مخاطبة الأمة التي بعث فيها.
 
الواقع أنه مكث تلك الفترة لاصلاح قلوب الناس وتخليصها من الشركاء المتشاكسين، دعاهم إلى كلمة التوحيد (( لا إله إلا الله )) ووعدهم بأنهم إن قالوها دانت لهم العرب  والعجم، وكان المخاطبون يفهمون معناها، وما تضمنته من نفي واثبات.
 
وقد تحقق ذلك الوعد لمن قال تلك الكلمة {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ( النور، الآية 55 ).
 
 أولئك الذين رباهم رسول الهدى صلى الله عليه وسلم تلك التربية الفريدة في نوعها حتى عمرت قلوبهم بالإيمان، تلقوا الأحكام عند نزولها بصدور رحبة وإيمان راسخ، فلبوا داعي الله قدموا نفوسهم رخيصة في سبيله، يرجون إحدى الحسنيين وإلا فما الذي حمل الصحابي الجليل أن يرمي التمرات من يده ويتقدم للقتال حين علم أن ليس بينه وبين الجنة إلا الشهادة في سبيل الله. وما الذي حمل الغامدية ان تقدم نفسها للعقوبة حين ارتكبت معصية الزناة.
 
أولئك طبقوا قوله تبارك وتعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} ( الأحزاب: الآية 36 ).
 
وقد استمر التمكين للمؤمنين حين بقوا على الشرط - يعبدونني لا يشركون بي شيئا - إن تنصروا الله ينصركم.
 
أقول هذا لأدعو إلى كلمة قالها الشيخ الغزالي، عن حال هؤلاء الملايين من المسلمين الذين يتهافتون على زيارة الأضرحة مقدمين لها النذور والقرابين، يقول عن هؤلاء: (( ولو دعوا لواجب ديني لفروا نافرين، وإن كانوا أسرع إلى الخرافة من الفراش إلى النار )).
 
لماذا كانوا كذلك ونحن نرى أن الذين رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما دعوا للواجبات الدينية استجابوا لله ولرسوله، والناس هم الناس.
 
والجواب: إن قلوب أولئك نقيت من شوائب الشرك بالله فأصبحت خالصة له، لا يوجد بها شركاء متشاكسون.
 
وفي الحديث: "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجس كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب".
 
فبصلاح القلوب تنقاد الجوارح فالقلب ملكها، وفي المثل الشائع: الناس على دين ملوكهم.
 
 وقد بين الشيخ الغزالي في كتابه عقيدة المسلم ص 66-67 بأن القول بأن هؤلاء الذين يهرعون إلى هذه الأضرحة يعرفون الله، ويعرفون أنه وحده مجيب كل سؤال، وباعث كل فضل، ومن دونه لا إله إلا الله لا يملكون من ذلك شيئاً، إن هذا الدفاع لا إله إلا الله يغني شيئاً، لأن هذه المعرفة لا إله إلا الله تصلح ولا تقبل إلا إذا صحبها إفراد الله بالدعاء والتوجه والإخلاص، فإن المشركين القدماء  كانوا يعرفون الله كذلك.
 
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} ( يونس: الآية 31 – 32 ).
 
ومع أنهم يقولون (( الله )) بصراحة وجلاء فلم يحسبوا بهذا القول مؤمنين، لأن الإيمان - إذا عرفت الله حقاً - ألا تعرف غيره فيما هو من شؤنه. ولذلك يستطرد القران في مخاطبة هؤلاء:
 
{...فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} ( يونس: الآية 31 - 32 ).
 
إن العامة عندما يشدون الرحال إلى قبور تضم رفات بعض الناس. وعندما يهرعون بالنذور والحاجات والأدعية إلى من يظنون أنهم أبواباً لله، إنما يرتكبون في حق الإسلام مآتم شنيعة. ومهما قلبنا عملهم هذا من جميع وجوهه فلن نجد فيه ما يطمئن إليه ضمير المؤمن أبداً. ومحبة الصالحين وبغض الفاسدين من شعائر الإسلام حقاً.
 
ثم قال: ومظاهر الحب والبغض معروفة …. وهي مصادقة للأحياء أو منافرة، واستغفار للموتى أو لعنة. وأين من عواطف الحب والبغض هذا الذي يصطنعه المسلمون اليوم ؟؟ إن الواحد منهم يصادق أفسق الناس، وقد يقطع والديه - وهم أحياء - ثم تراه مشمراً مجداً في الذهاب إلى قبر من قبور الصالحين، لا ليدعوا له ويطلب من الله أن يرحم ساكن هذا القبر، بل ليسأل صاحب هذا القبر من حاجات الدنيا والآخرة ما هو مضطر إليه وذلك ضلال مبين. اهـ.
 
والإسلام بصفائه ونقائه، ومنهجه الذي سلكه في المحافظة على سلامة فكر وسلوك اتباعه قطع دابر كل وسيلة تصل الإنسان بالشرك، فالبناء على قبور الصالحين قباباً واتخاذ المساجد عليها الذي كان تقليداً قديماً قضى عليه الإسلام، إذ أن ذلك من مظاهر الوثنية، فقد ؟أرسل النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأمره أن يسوي بالأرض كل قبر مشرف، وأن يهدم كل صنم، فجعل الأضرحة العالية والأصنام المنصوبة سواء في إضلال الناس.
 
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر أمته عند وفاته مما صنعته الأمم السابقة: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا لا تتخذوا القبور مساجد أني أنهاكم عن ذلك".
 
وكان يرفع الخمرة عن وجهة في مرض الموت ويكرر هذا الدعاء: "اللهم لا تجعل قبري من بعدي وثناً يعبد".
 
يقول الشيخ الغزالي بعد ذكر هذه الأحاديث التي حذر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أتباع اليهود والنصارى: "ومع هذا التحذير كله ومع كثرة الدلائل التي انتصبت في الإسلام دون الوقوع في هذا المحظور فقد أقبل المسلمون على بناء المساجد فوق قبور الصالحين، وتنافسوا في تشييد الأضرحة حتى أصبحت تبن على أسماء لا مسميات لها بل قد بنيت على ألواح الخشب وجثث الحيوانات. ومع ذلك فهي مزارات مشهورة ومعمورة تقصد لتفريج الكرب وشفاء المرضى وتهوين الصعاب"[1]اهـ
 
 
 
2) أ- الحب القلبي:
 
حين نزل القران الكريم كان المخاطبون يتخذون انداداً من دون الله، حسية مثل الصنام المتخذة من الأحجار والأخشاب وغيرها، إذ كان على الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً. ومعنوية كالقلبية وغيرها من أوثان الجاهلية التي لا إله إلا الله يستطيع المرء الخروج عليها وان تأكد له خطأ سلوكها، فقد قال قائلهم في التمسك بما عليه قبيلته ولو كان ظلماً وعدواناً.
 
وما أنا إلا من غزية إن غوت
 غويت وإن ترشد غزية أرشد
 
هذه الأنداد يحبها المشركون حباً يجعلهم يقدمون محبتها على محبة الله.{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ…} ( البقرة: الآية 165 ).
 
فتسويتهم محبتها بمحة الله شرك أكبر، فكيف إذا قدموا حبها على حبه.
 
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} ( الأنعام: الآية  126 ).
 
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم ؟ قال "أن تجعل لله نداً وهو خلقك".
 
وقد أخبر الله عن حال كثير من الناس الذين يتخذون مع الله الأنداد، كيف تشمئز قلوبهم وتنقبض نفوسهم كلما دعوا إلى الله وحده إلها في العبادة. وإلى شريعته وحدها قانوناً في الحكم، وإلى منهج الله وحده نظاماً للحياة، أما إذا ذكرت المناهج الأرضية نظاماً للحياة وشريعة في الحكم فرحوا واستبشروا يقول تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} ( الزمر: الآية 45 ).
 
أما المؤمنون بالله فقد وصفهم الله بأنهم أشد حباً لله {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} أي المؤمنون بالله أشد حباً له من حب المشركين لآلهتهم [2]. لذلك فهم يقدمون أنفسهم رخيصة في سبيله فقد باعوها له {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ…} ( التوبة: الآية 111).
 
ب - محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
 
إن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من صميم الدين، ولا يؤمن أحد حتى يكون الرسول أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين.
 
ومن علامات حب المؤمن للرسول الله صلى الله عليه وسلم نصر دينه بالقول والفعل والذب عن سنته, والتخلق بأخلاقه، وتقديم ما شرعه وأمر به على هوى النفس وشهواتها، وكذلك كثرة ذكره بالصلاة عليه فمن صلى عليه مرة واحدة صلى الله عليه بها عشرا.
 
ثم أن محبة الرسول الله صلى الله عليه وسلم تستلزم طاعته واتباعه وبذلك يستحق العبد حب الله له.
 
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ( آل عمران: الآية 31 ).
 
فمن ادعى محبة الله وخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتاب الله يكذبه.
 
والمطلوب من العبد ديناً أن يحبه الله  ولا يحب الله عبده إلا إذا اتبع نبيه ظاهراً وباطناً، وصدقه خبراً، وأطاعه أمراً، وآثره طوعاً واختبارا.
 
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ …} ( النساء: الآية 59 ).
 
{…وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا …} (الحشر: الآية 7 ).
 
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده".
 
وفي رواية أنس رضي الله عنه: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين"[3].
 
وفي البخاري في كتاب الإيمان والنذور.. من حديث عبد الله بن هشام أن عمر بن الخطاب قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال عمر: فإنك الآن أحب إلي من نفسي. فقال: الآن يا عمر"[4].
 
ولاشك أن حظ أصحابه الذين كانوا معه من هذا الحب كان أتم، ذلك أن المحبة ثمرة المعرفة، وهم بقدره ومنزلته أعلم من غيرهم، والناس يتفاوتون في ذلك وقد عبر بعض الصحابة عن هذا الحب المكين بأقوالهم وأفعالهم.
 
يقول عمرو بن العاص رضي الله عنه: "وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه"[5].
 
هكذا كانت محبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يحبونه أكثر من أنفسهم، يقتدون به ويطيعون أوامره يجتنبون ما نهى عنه.
 
وما نشأت البدع إلا من تقديم هوى النفس على متابعة الرسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بسنته ولذلك سُمّي منتحلوها بأهل الأهواء.
 
{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ( القصص: الآية 50 ).
 
ولا يعصم من الهوى الإ طاعة الله والاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}.
 
يقول ابن القيم في النونية ص 579:
 
أمر الورى وأوامر السلطان
 فهو المطاع وأمره العالي على
 
أهلين والأزواج والولدان
 وهو المقدم في محبتنا علىالـ
 
النفس التي قد ضمها الجنبان
 وعلى العباد جميعهم حتى على
 
فهل ما يعلمه كثي من الناس بدعوى المحبة للرسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور لم يعملها الصحابة الذين عرفنا اجلالهم وتقديرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من مديح وإطراء يكون محبة.
 
ففي حديث عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله"[6].
 
ولكن ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم وخشيه على أمته وقع الناس فيه.
 
ففي نظم البوصيري قوله:
 
سواك عند حلول الحادث العمم
 يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به
 
فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
 إن لم تكن في معادى آخذاً بيدي
 
وقوله:
 
ومن علومك علم اللوح والقلم
 فإن من جودك الدنيا وضرتها
 
فإذا كانت الدنيا وضرتها من جود الرسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن بعض علومه علم اللوح والقلم لأن (( من )) للتبعيض، فماذا بقي للخالق جل وعلا، والله يقول لنبيه: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ..} وقالت عائشة رضي الله عنها لمسروق كما في صحيح مسلم 1/159 ح / 781 "ومن قال إن محمد صلى الله عليه وسلم يعلم ما في غدٍ فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}" ( النمل / 65 ).
 
فهذا الغلو والإطراء هو الذي حذر الرسول الله أمته صلى الله عليه وسلم منه. حيث قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم" وقد صار حظ أكثر هؤلاء منه صلى الله عليه وسلم مدحه بالأشعار والقصائد والغلو الزائد، مع عصيانهم له في كثير من أمره ونهيه[7].
 
 
 
3 - الشفعاء:
 
لقد سلك المشركون في اتصالهم بالله مسلك اتخاذ الوسطاء لهم عند الله.
 
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ( يونس: الآية 18 ).
 
تبين الآية الكريمة أن هؤلاء يعبدون آلهة لا تنفعهم ولا تضرهم في الدنيا حال عبادتهم إياها فقولهم عنها إنها تشفع لهم في المآل عند الله جهل شنيع، ولذلك أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخاطبهم خطاب المنكر عليهم.
 
{قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْض} كما بين لهم أن هذا زعم باطل فالشفاعة لا تكون عند الله إلا بإذنه.
 
{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} ( البقرة: الآية 255 ).
 
إن اتخاذ شفعاء يخافون ويرجون ويطلب منهم أن يشفعوا لهم عند الله شرك بالله، لأن الشفاعة لا تكون عند الله إلا بإذنه. والله لا يعلم لنفسه شريكاً ولا شفيعاً.
 
وقد اتخذ كثير من الناس هذا العمل المنافي لتوحيد الله وسيلة إلى الله وأسموه توسلا بالصالحين وقد لبس إبليس وأعوانه على كثير من الناس في هذا الباب وحرمهم من حق تمتع هو به فقد قال لهم: أ- إنكم عصاة والله إنما يتقبل من المتقين، فلو ذهب الإنسان ليدعو ربه وهو متلبس بالسيئات لم يجب الله سؤاله - لذا فلا بد من واسطة مقبولة ولا تكون تلك الواسطة إلا الولي الصالح.
 
ب- إن هذا العمل ليس شركاً لأن النية هي معيار الحكم على الأعمال ، وأنتم لم تنووا شركا.
 
ج- ثم إن مثل هذا العمل جائز فقد كان العلماء يتوسلون إلى الله بالأنبياء وغيرهم من الصالحين.
 
هذه بعض الشبه التي تلقى ليتقبل الناس مثل هذه الأعمال.
 
ونرى أن نبدأ أولاً بذكر التوسل المشروع، ثم نبين بعد ذلك وجهة الرد على الشبه التي سبق ذكرها والتي لبس بها على كثير من الناس فنقول: إن التوسل المشروع هو:
 
1- التوسل بالإيمان بذات الله – {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}. فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوله: "اللهم اني أسألك بأنك أنت الله الذي لاإله إلا هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواٍ أحد"[8].
 
2- التوسل بالعمل الصالح - كما في قصة الثلاثة الذين آواهم الغار، فانطبقت عليهم صخرة، فكل واحد منهم دعا الله بعمله الخالص الذي قدمه لله تعالى وطلب منه أن يفرج عنهم ما هم فيه وهكذا دعا الثلاثة حتى أزيحت الصخرة عنهم فخرجوا يمشون[9].
 
3- دعاء المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب، ولا فرق في ذلك بين الفاضل والفضول فقد طلب النبي صلى الله عليه وسلم من عمر بن الخطاب أن يدعو له، بل والمسلمون يدعون له ويطلبون له الوسيلة دائماً.
 
4- إذا توسمت في شخص ما أنه من أهل الصلاح والتقوى، وأحببت أن يدعو لك جاز لك ذلك فتطلب منه أن يدعو الله وأنت تؤمن على دعائه.
 
هذه الأنواع هي الأنواع المعروفة في هذا الباب وعمل بها سلفنا الصالح. أما تلبيس إبليس وأعوانه على الناس بأنهم عصاة والله يتقبل من المتقين فلا بد من واسطة، وهم يقولون هذا عند التوجه إلى الأضرحة والطلب من أصحابها ما لا يقدر عليه إلا الله فهذه مغالطة:
 
فالمشركون دعوا الله مباشرة بدون واسطة واستجاب الله دعاءهم.{دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ( يونس الآية 23,22).
 
وأبليس نفسه دعا ربه مباشرة بدون واسطة جبريل أو غيره من الملائكة ممن لم يعص الله وأجيب.
 
{قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} (الحجر: الآية 36-38 ).
 
فكيف يجوز هذا الحق للمشركين، ولإبليس وهو رئيس العصاة وقائد الكفار إلى النار ، ولا يسوغ لجمهور المسلمين العصاة أن يلجؤا إلى ربهم والله يقول:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ..} (غافر: الآية 60 )
 
بل القرآن يدعو العصاة والذين ارتكبوا فواحش وظلموا أنفسهم أن يلجؤا إلى الله ويستغفروه مباشرة.
 
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ..} (آل عمران: الآية 135).
 
{غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ …} ( غافر: الآية 3).
 
وأما كون النية هي معيار الحكم على الأعمال.
 
فالجواب: إن العمل الصالح المقبول يشترط فيه شرطان:
 
1- النية الخالصة {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}  "إنما الأعمال بالنيات".
 
2-            أن يكون موافقاً لما أمر به الله ورسوله. ودعاء الأموات والتقرب إليهم ممنوع شرعاً بل هو شرك بالله. {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ} ( الأحقاف: الآية 5 ).
 
والقول بأن العلماء كانوا يفعلون ذلك غير صحيح، فالعلماء ما كانوا يتوسلون بالموتى إطلاقاً، فإن الصحابة رضوان الله عليهم في زمن عمر بن الخطاب حين اجدبوا طلبوا منه أن يستسقي لهم فلما فرغ من الصلاة قال: اللهم إنا كنا نستسقي بنبيك فتسقنا والآن نستسقي بعم نبيك[10] قم يا عباس فادع الله لنا فقام ودعاء لهم والمسلمون يؤمنون على دعائه ومن دعائه: "اللهم لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولا يكشف إلا بتوبة وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث".
 
ولم يثبت عن الصحابة ولا التابعين ومن سلك منهجهم أنهم توسلوا بذوات الأحياء، إنما كان توسلهم بدعائهم، كما في قصة عمر هذه مع العباس.
 
4 – النية والقصد:
 
الأعمال الصالحة المقبولة عند الله تعالى: هي ما كانت خالصة لوجهه تعالى، موافقة لشرعه.
 
قال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}  {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}
 
وفي الحديث: "إنما الأعمال بالنيات".
 
وقد شاع عند الكثير من الناس القول بأن العمل لا ينظر إليه وإنما تعتبر النية المصاحبة له.
 
وهذا القول غير صحيح في الشريعة الإسلامية. وإنما العمل المقبول المثاب عليه عند الله يشترطه فيه شرطان:
 
1-            النية الصالحة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات". وهذا معنى قوله: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}. فإذا خالط هذه النية أمراً آخر بأن يعمل هذا العمل من أجل أن ينال دنيا، أو يثني عليه من يشاهده كان مرائياً. وذلك يحبط عمله هذا الذي صار فيه الرياء.
 
2- أن تكون صورته موافقة للشرع،وإلا كان مبتدعاً. وهذا معنى قول العلماء في العمل المقبول عند الله (( أن يكون خالصاً صواباً )).
 
يقول الله تعالى في ذلك منبهاً عباده إلى أن تكون أعمالهم التي يتقربون بها إليه تعالى  خالصة له.
 
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ( هود: الآية 15، 16 ).
 
قال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية إن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا وذلك أنهم لايظلمون نقيرا، فكل من التمس الدنيا بعمل أهل الآخرة أوفي الذي التمس في الدنيا من المثابة، وحبط عمله الذي كان يعمله، وهكذا روى عن مجاهد والضحاك وغير واحد، وقيل إن الآية نزلت في اليهود والنصارى، ولكن حكمها عام لكل من اتصف بهذا الوصف.[10-1]
 
 
 
5- حق التشريع:
 
قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: تلآية 31 ).
 
1- الاحبار جمع حبر وهم علماء اليهود.
 
2- الرهبان جمع راهب وهم علماء النصارى.
 
والرب هو الخالق المالك المتصرف في خلقه كيف يشاء. وهو المشرع لهم فهو أعلم بما يصلح حال عباده في حالهم ومآلهم {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}. وقد وصف الله من تصدى لذلك بأنه مفتر على الله كذاب في تشريعه لأن نص التحليل والتحريم لله وحده. {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} فهذا حق له تعالى لايجوز لمخلوق أن يتقدم بين يدي الله فيشرع لعباده من دونه، ان ذلك مشاركة الله فيما هو من خصائصه واللذين يتقبلون هذا التشريع وتطمئن نفوسه إليه ويعملون به هم مشركون بالله.
 
فاتخاذ الأخبار والرهبان أرباباً هو في التشريع إذ الأحبار والرهبان مخلوقون لله كغيرهم من البشر، إلا أنهم شاركوا الله في تشريعهم لخلقه بالتحليل والتحريم الذي هو من خصائص الخالق سبحانه وتعالى، يفسر هذا الحديث عدي بن حاتم رضي الله عنه الذي رواه الإمام احمد والترمذي وغيرهما حين جاء والرسول صلي الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية. قال: قلت إنهم لم يعبدوهم. فقال: "بلى إنهم حرموا عليهم الحلال واحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم".
 
وهكذا قال حذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس وغيرهما في تفسير {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}. إنهم اتبعوا فيما حللوا وحرموا. وقال السدي: "استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، ولهذا قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً} أي الذي اذا حرم الشيء فهو الحرام وما حلله فهو الحلال وما شرعه اتبع وما حكم به نفذ( لا إله إلا الله إله الا هو سبحانه عما يشركون"[11].
 
يقول سيد قطب في ظلال القرآن ج4/203  بعد أن نقل كلام ابن كثير وغيره في تفسير الآية: "ومن النص القرآني الواضح الدلالة، ومن تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو فصل الخطاب. ثم من مفهومات المفسرين الأوائل والمتأخرين، تخلص لنا حقائق في العقيدة والدين ذات أهمية بالغة نشير إليها هنا بغاية الاختصار.
 
 إن العبادة هي الاتباع في الشرائع بنص القرآن وتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فاليهود والنصارى لم يتخذوا الأحبار والرهبان أرباباً بمعنى الاعتقاد بألوهيتهم أو تقديم الشعائر التعبدية إليهم … ومع هذا فقد حكم الله - سبحانه عليهم بالشرك في هذه الآية - وبالكفر في آية تالية السياق - لمجرد أنهم تلقوا منهم الشرائع فأطاعوها واتبعوها … فهذا وحده - دون الاعتقاد والشعائر يكفي لاعتبار من يفعله مشركا بالله الشرك الذي يخرجه من عداد المؤمنين ويدخله في عداد الكافرين.
 
إن النص القرآني يسوي في الوصف بالشرك واتخاذ الأرباب من دون الله بين اليهود الذين قبلوا التشريع من أحبارهم وأطاعوهم واتبعوهم، وبين النصارى الذين قالوا بألوهية المسيح اعتقاداً وقدموا إليه الشعائر في العبادة. فهذه كتلك سواء في اعتبار فاعلها مشركا بالله، الشرك الذي يخرجه من عداد المؤمنين ويدخله في عداد الكافرين.
 
إن الشرك بالله يتحقق بمجرد إعطاء حق التشريع لغير الله من عبادة ولو لم يصحبه شرك في الاعتقاد بألوهية، ولا تقديم الشعائر التعبدية له".
 
ويخلص بعد ذلك إلى القاعدة المعروفة عند المفسرين والأصوليين أن العبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب لأن القرآن تشريع عام للبشرية كلها في كل زمان ومكان.
 
فيقول: "إن دين الحق الذي لا يقبل الله من الناس كلهم دينا غيره هو ( الإسلام ) والإسلام لا  يقوم إلا باتباع الله وحده في الشريعة - بعد الاعتقاد بألوهيته وحده وتقديم الشعائر التعبدية له وحده - فإذا اتبع الناس شريعة غير شريعة الله صح فيهم ما صح في اليهود والنصارى من أنهم مشركون لا يؤمنون بالله - مهما كانت دعواهم في الإيمان - لأن الوصف يلحقهم بمجرد اتباعهم لتشريع العباد لهم من دون الله بغير إنكار منهم يثبت فيه أنهم لا يتبعون إلا عن إكراه واقع بهم لا طاقة لهم بدفعه وأنهم لا يقرون هذا الافتئات على الله".
 


 
 

 

 

 

 

 

 

 

 

--------------------------------------------------------------------------------
 
[1] عقيدة المسلم ص 68 .
 
[2] ابن جرير 2/66 , طبعة ثانية 1373 هـ .
 
[3] خ / الإيمان – فتح الباري 1/58 ح 14-15.
 
[4] خ / الإيمان والنذور – فتح الباري ج /11/ 523 ح 632.
 
[5] مسلم : كتاب الإيمان 1/112 ح192.
 
[6] أخرجاه في الصحيحين.
 
[7] تيسير العزيز الحميد ص 186-187.
 
[8] حم 4/338 من حديث محجن بن الأذرع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وس /الدعاء 3 / 45 من حديث محجن.
 
[9] متفق عليه . خ / . م كتاب الذكر والدعاء / باب قصة أصحاب الغار 4/99. ح 100.
 
[10] خ/الاستسقاء \ باب سؤال لناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا / فتح الباري2 / 494 ح1010.
 
[10-1] ابن كثير 2/439.
 
[11] ابن كثير ح2 /248 – 349.

 

-نشر بمجلة الجامعة الاسلامية

Oakley MOD5 MIPS SNOW HELMET – ADULT - SneakersbeShops | Latest Releases , IetpShops - Women's Nike Air Jordan 1 trainers - burgundy and orange nike air max blue jean boots

الأقسام الرئيسية: