ايقاف النبيل على حكم التمثيل

إيقاف النبيل

علي

حكم التمثيل

تأليف

عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم

 

تقديم

الشيخ العلامة

دكتور

صالح بن فوزان الفوزان

 

الشيخ العلامة

دكتور

ربيع بن هادي المدخلي

 

 

 

 

 

قال علي أحمد باكثير – الكاتب المشهور :

(( إذا لم يوجد المسرح عن العرب في جاهليتهم ، فأحرى ألا يوجد لديهم بعد الإسلام ، الذي قضي علي تلك الوثنية ، وأعاد إليهم دين التوحيد كأصفى ما يكون .... )) إلخ . ا هـ .

( من (( الفنون والمسرح )) لأنور الجندي ص 22 )

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تقريظ

فضيلة الشيخ العلامة :

د. صالح بن فوزان عبد الله الفوزان

عضو هيئة كبار العلماء .

  الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام علي نبينا محمد – حثنا علي التمسك بسنته وسنة خلفائه الراشدين ، وحذرنا من محدثات الأمور – وعلي آله وأصحابه ومن سار علي نهجهم إلي يوم الدين .

وبعد : فقد اطلعت علي الرسالة القيمة التي ألفها فضيلة الشيخ : عبد السلام ابن برجس بن ناصر آل عبد الكريم بعنوان : (( إيقاف النبيل علي حكم التمثيل )) وما أقامه من الأدلة علي حرمة هذا العمل ، ، ورد شبهات من أجازه فوجدتها – والحمد لله – رسالة قيمة ، وافية في موضوعها . تعالج مشكلة قائمة ، قد شغلت بال كثير من العلماء والمتعلمين .

وقد أوضح الشيخ عبد السلام – جزاه الله خيراً – الحق فيها بما لا يدع مجالاً للشك في تحريم التمثيل ، لما فيه من المفاسد الكثيرة – وإن زعم أن فيه مصلحة جزئية فهي مغمورة بما فيه من المفاسد الراجحة علي تلك المصلحة – ومن المعلوم أن ما ترجحت مفسدته فهو حرام ، وأن درأ المفاسد مقدم علي جلب المصالح – مع أنني لا أرى فيه مصلحة قط ولكن هذا من باب التنزيل مع الخصم .

وأخيراً أقول : جزى الله أخانا عبد السلام خير اً علي ما قام به من هذا الإسهام العلمي الجيد . ونرجو أن يوفقه الله إلي إسهامات أخري في بيان الحق ، ورد الباطل ، ونشر العلم النافع ، وصلي الله وسلم علي نبينا محمد وآله وصحبه .

*****

 قاله وكتبه :

صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان

الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

 

 

 

 

تقريظ

فضيلة الشيخ العالمة

د. ربيع بن هادي المدخلي

الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله ، محمد ولآله وصحبه ، ومن أتبع هداه .

أما بعد ،

فقد أطلعت علي البحث العلمي القيم ، الذي نشط له الشاب الفاضل ، الغيور علي دينه ، الشيخ عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم . الذي وسمه بـ : (( إيقاف النبيل علي حكم التمثيل )) .

فسرني حسن عرضه ، وطريقة استدلاله ، وإشراقة عبارته وقوة حجته في إقامة الحق ،ودحض الباطل .

ولقد سلك في هذا البحث القيم علي النحو الذي أوجزته في الفقرات الآتية :

1-              تعرض لمعني التمثيل ،وأقسامه .

2-              ولأهم أضراره ، وفوائده التي يزعمها المجيزون المغالطون .

3-              وتعرض لنشأة التمثيل ، وبين أن جذوره تمتد إلي العصر اليوناني ، وتعليمات الكنيسة القديمة قبل الإسلام ، كما صرح بذلك جماعة متن الأدباء استمداداً من التاريخ .

4-              وضح أن المسلمين لم يعرفوا التمثيل من قيام دعوة محمد r إلي ما قبل خمسين ومائة عام .

وأن الغثاء والخونة الذين توافدوا علي الغرب هم الذين جلبوا هذا الداء العضال ، من جملة الأدواء التي نكبوا بها الإسلام والمسلمين بدل أن يقدموا للأمة : العلوم العصرية ، كالصناعات النافعة والاختراعات المفيدة .

5-              وأن الذين نقلوا العلوم اليونانية في العصر العباسي ، بما فيهم من النصارى ،والمنحرفين المحسوبين علي الإسلام ، كانوا أعقل وأسلم ذوقاً ، وأخلاقاً ومروءة ، فحين نقلوا علوم اليونان إلي البلاد الإسلامية ، تحاشوا الأدب اليوناني النصراني . ولعل ذلك إدراكاً منهم لما فيه من انحلال وفساد ، لا يمكن أن يقبله عامة الشعوب الإسلامية ، فضلاً عن العلماء ، والعقلاء .

6-              نقل المؤلف عن صاحب (( تأريخ اليونان )) النص الآتي :

(( تكمن الأصول الأولي للمسرح اليوناني في الاحتفالات الدينية ، التي كانت تقام في المناطق المختلفة في بلاد اليونان ، والتي كانت تدور حول عقيدة الإله (( ديونيسوس )) وهو اسم آخر للإله باخوس – الذي كان إلهاً للحصاد ، والثمار ، والكروم ، وإن كان قد أشتهر بصفته إلهاً للخمر .

واليونان كانوا يقومون بهذا النوع من الاحتفالات ، كمظهر من مظاهر الابتهاج والشكر للقوى الإلهية التي تتحكم في الطبيعة ، إذا كان المحصول وافراً . أو كمظهر للابتهال أو التضرع لهذه القوى الإلهية إذا قصر المحصول عن الوفاء .

ولم تكن هذه الاحتفالات بدعة اقتصرت علي بلاد اليونان ، وإنما عرفتها مجتمعات أخرى ومن بينها : مصر ، وسورية ، علي سبيل المثال لا الحصر – أي أعياد وثنية تقام لألهتهم المزعومة كما يفعل الوثنيون اليونانيون .

أيها الشباب المؤمن :

إن هذه المسرحيات والتمثيليات ، إنما هي احتفالات وأعياد وثنية نقلها إلي هذه الجزيرة – التي طهرها الله بدعوة التوحيد والسنة – من تربي في أحضان الإنجليز وبهر بحضارتهم وعاداتهم وتقاليدهم ، وأعيادهم ، إضافة إلي ما ترعرع عليه في أحضان الصوفية ، وما رضعه من خرافاتها ،وأساطيرها والنذور فكيف تلقي بزمامك إلي من هذا دينه وهذه تربيته ؟ فكيف ؟

هذا هو التمثيل : أنه مظهر من مظاهر الكفر والوثنية اليونانية :

أنه مظهر من مظاهر الابتهال والشكر للقوى الإلهية عند الوثنين . وأحياناً مظهر من مظاهر الابتهال والتضرع للقوى الإلهية في حالة الضراء والشدة التي تلم بعباد تلك الأوثان من اليونان والمصريين والسوريين ، وغيرهم ، أيام وثنيتهم .

لقد قضي الإسلام - دين التوحيد الخالص – علي هذه الوثنيات قضاءً مبرماً ، ومحاها محواً كاملاً من أذهان تلك الشعوب ، حتى لم تعد تخطر ببالهم ، فلم تذكر في كتبهم ، وتواريخهم ، ولا في حكاياتهم .

ولا يبعد أن تكون الشروط العمرية التي أشترطها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – علي النصارى ، ومنها : (( ألا يظهروا عيد الشعانين في دار الإسلام )) لا يبعد أن تكون شروطه من أهم أسباب القضاء علي التمثيليات والمسرحيات ، لأنها إغراق في الضلال والوثنية من عيد الشعانين .

أفتري الخليفة الراشد ، وإخوانه الصحابة الكرام ، يرفضون عيد الشعانين ، والمتعلق بحياة رسول كريم وهو عيسي عليه السلام ويقرون المسرحيات والتمثيليات التي هي طقوس وعبادات للأوثان ، وإغراق في الكفر والضلال من عيد الشعانين .

لقد أرتكب عبيد الاستعمار الغربي والشرقي ، ودعاة التغريب والتفرنج إحياء ونبش هذا الخبث والنتن بعد أن آماته الله علي يدي الخليفة الراشد وإخوانه من الصحابة الفاتحين .

لقد جر دعاة التغريب والتفرنج الولايات والمصائب علي هذه الآمة المسكينة خصوصاً أولئك الذين يرتكبون المقحمات والفظائع باسم الإسلام ، ويضفون علي هذه الفظائع النكراء صفة الإسلام والإسلامية .

فاشتراكية ماركس الشيوعية أشركوها في مسلمتهم الكاذبة الخائنة ، فسموها الاشتراكية الإسلامية .

والتمثيليات والمسرحيات الوثنية ألبسوها لباس الإسلام ، وجعلوها من شعاراتهم ومن لوازم دعوتهم الضالة فسموها بالمسرحيات الإسلامية والتمثيليات الإسلامية ...

والديمقراطية الكافرة وأساليبها من (( برلمانات )) و (( تحزبات )) و(( انتخابات )) و (( اضرابات )) و (( مظاهرات )) أسلموها وأدخلوها في حيز الإسلام .

وهكذا يتلاعبون بعقول هذه الأمة . وخاصة شبابها الغر ، الذي أفسدوا عقله وتصوره ، وأوهموه أنهم تقدميون ، وعلماء واقع ، وأهل التجديد .

وما تجديدهم إلا استيراد هذه الأباطيل . وما علمهم بالواقع إلا مهازل وأساطير . وأخيراً أقول : لقد أجاد الشيخ عبد السلام وأفاد ، وقد أقصي ما يملكه الناصح المخلص لأمة يتلاعب بعقولها أهل الأهواء نسأل الله أن يأخذ بنواصيهم وقلوبهم إلي الحق وإدراكه ، وإلي التمييز بين المحبين الناصحين والمختالين والمخادعين ، إن ربنا لسميع الدعاء ، والحمد لله رب العالمين .

وصلي الله وسلم علي نبينا محمد وعلي آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان .

***

قاله وكتبه :

ربيه بن هادي المدخلي

18/3/1413 هـ

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، وصلي الله وسلم علي رسول الله .

أما بعد :

فهذه هي النشرة الثانية من كتاب (( إيقاف النبيل علي حكم التمثيل )) نقدمه للقراء ، سائلين الله أن يطفئ به فتنة (( التمثيل )) التي ابتلي بها فئام من الناس ، فاتخذوا دينهم هزواً ولعباً ، وقنعوا بالسيادة الخيالية علي ردهات المسارح ، ودور الحفلات . ولا ريب أن هذه الظاهرة ظاهرة سوء وبلاء ، لو لم يأت في الشرع ما ينكرها، لكان العقل السليم ، والفطرة المستقيمة علي الصراط السوي ، تأباها ، وتترفع عنها ، إذ هي علامة للفاسق في عرف المجتمعات .

وأي عاقل يرضى أن يكون أضحوكة بين الجماهير علي خشبات المسرح ينزع فوقه جلباب الحياء ، ويدرع أفئدة الصبيان والسفهاء ، وكأن المسرح أرض رفع عن أوطئها القلم ، فلا تكليف ، ولا حساب .

وهذا يخف ‍ إذا ما قورن بما ينتهك من الجرائم ، ويواقع من الكبائر ، باسم (( التمثيل الديني )) علي منصة الملهى .

فلكم شوهد استحلال الكفر ، وفعله ، واقتراف الذنوب والمعاصي : من كذب ،ووصل شعر ، ويمين غموس ، واستخفاف بالدين وأهله : كل هذا تحت مظلة التمثيل الديني

ولقد حدثني من أثق به أنه شاهد تمثيلية أقيمت في كلية شرعية – تصور حال نجد قبل قيام الدعوة الإصلاحية – فقام أحد الممثلين بالسجود لهيكل قبر ، ليعلم الناس أن هذا الفعل كان سائداً في ذلك الوقت ... !!!

وقد شوهد من يمثل (( الملائكة )) في قصة قبيحة مضمونها : أن أهل الأرض كثر فسادهم ، فنزلت (( الملائكة )) وقالوا : يا أهل الأرض نحن أهل السماء ، لقد آذيتمونا بمعاصيكم .... !!!

وشوهد من يمثل دور الشيطان ... !! ومن يمثل دور (( كارتر )) و(( برجنيف )) و(( كمال أتاتورك )) في تمثيليات ملؤها سب للإسلام واستخفاف بأهله ، في جامعات إسلامية ، بمبرر : بيان خطر الكفار علي الإسلام !!!

فإلي الله المشتكي وعليه التكلي ، كيف تريد أمة بلوغ المجد وهم عن منهج السلف معرضون ، وللنصارى مقلدون ، ولهذه المهازل باعثون .

ولو استطردنا في ذكر ما يتعبدون الله به من هذه (( التمثيليات )) وأشباهها ، لكتبنا مجلدات ومجلدات .

ثم بعد هذه الحقائق اللائحة ، التي نطقت بها خشبات المسارح في الجامعات والدور الصيفية يخرج كتاب اسمه (( حكم التمثيل في الدعوة في الدعوة إلي الله )) ليصور التمثيل بصورة بريئة من الفحش والفسق تلاعباً بالعقول ، وتغطية للحقائق ، فيقول :

(( ومن أمثلة ذلك – أي التمثيل - : أن تقوم مجموعة من الشباب أمام الجمهور لتعلمهم – مثلاً – أركان الإيمان والإسلام ، فيلتف بعضهم حول بعض التفاف التلاميذ حول شيخهم ثم يدخل رجل يبدو عليه الجهل ، فيسأل عن أركان الإيمان ؟ فيقول : أن تؤمن بالله وملائكته ..... إلخ )) ا هـ .

فيا سبحان الله كيف أعرض الكاتب عن تلك الأمثلة التي ذكرت – وهي السائدة في عالم التمثيل – وانزوي علي هذا المثال الذي لا وجود له في حياة تمثيلهم ، وإن وجد فلا تتبناه المسارح الفردية ، التي لا يحضرها إلا قلة قليلة ، ولذا لم يفدني أحد من المتعبدين لله تعالي بهذا التمثيل أنه شاهد مثل هذه الرواية ولو وجدت لانفض الناس من حولها ولكرهوا ورود حياضها ، إذ ليس فيها أصول هذا الفن ، التي هي السر في إعجاب الناس به ، وفتنتهم فيه .

والذي دفعني إلي التنويه بهذه السقطة الجريئة في ذاك الكتاب ، أن الكاتب صور التمثيل حال الاستدلال علي تقريره ، بأنه مجرد ما ذكر من الأمثلة .

ففي رده علي العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني يقول :

(( وقد ضربت مثالاً أعيده هنا لإيضاح الصورة : لو قام اثنان أمام الجمهور العوام ، فقال الأول للثاني : السلام عليكم . فقال الثاني : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته . فقال الأول يا أخي هل تحسن الوضوء ؟ قال : نعم .

قال : فهلا علمتني . قال : حسناً ... )) ا هـ .

وأنا ألخص هنا ما أريد إيضاحه فأقول :

أولاً : أن ما صور به (( التمثيل )) هنا ،  ليس هو الصورة الحقيقية للتمثيل عند هذه الجماعة ، بل ولا يشكل في تمثيلهم ( 3% )

ثانياً : إن ما ذكره ينازع في تسميته تمثيلا ، إذ قد سماه النبي r تعليماً كما في حديث جبريل عليه السلام ، وفيه : (( هذا جبريل جاء ليعلمكم دينكم )) والتعليم يفارق التمثيل لغة واصطلاحاً . وبسط المسألة . له موضع آخر .

والتعليم يفارق التمثيل لغة واصطلاحاً . وبسط المسألة . له موضع آخر .

ثالثاً : إذا ضمن الكاتب أن التمثيل عندهم لا يعدو ما ذكر ، فأنا ضامن لهم عدم الكلام علي هذا التمثيل عندنا .

ثم قسم الكاتب (( التمثيل )) غلي أربعة أقسام هي :

1-              (( حكاية الماضين أو المعاصرين بأعيانهم ))

2-              حكاية شخصيات غير معينة ( كالنجار والحداد والمجاهد ) .

3-              القيام بأعمال وحركات معينة دون تعيين القائمين بها أو تسميتهم – ومثل لها بمسرحية الوضوء المتقدمة قبل قليل .

4-              (( القيام بحركات معينة صامتة )) ا هـ .

وقبل أن أبين مراده بهذا التقسيم أقول :

أن الأول والثاني : تقسيم صحيح .

أما الرابع فإنه داخل في القسم الأول إن كانت الحركات الصامتة حكاية للأعيان . وإن كانت حكاية لغير معين فهي داخلة في القسم الثاني . فكان جعله قسماً رابعاً من العبث .

أما القسم الثالث : فإنه لو جرد من المثال لقلنا فيه ما سبق في نظيره (( الرابع )) لأن هذه الحركات المعينة دون تعيين القائمين بها ، لابد وأن تكون حكايتها متخيلة ومختلقة فهذا هو القسم الثاني بعينه .

أما وقد مثل له فإننا نقول – مختصرين - : ما ذكره قسماً ثالثاً ، لا نسلم بأنه تمثيل ، لأننا لو سلمنا بذلك للزمنا أن نقول : أن حديث جبريل فيه طرفان : ممثلون وهم جبريل عليه السلام والنبي r . ومتفرجون : وهم الصحابة – رضي الله عنهم – إذا الصورة الواردة في حديث جبريل هي نفس الصورة التي ضربها مثالاً علي القسم الثالث ، لا فرق .

وبعد هذا العرض الموجز نقول : أن تقسيمه التمثيل إلي هذه الأقسام انتفع به في التخلص من فتوى العلماء في تحريم التمثيل ، فإنه يأتي إلي فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز ، أو الشيخ صالح الفوزان أو الشيخ الألباني ، فيقول : هذه تتناول النوع الأول من التمثيل وقد تتناول الثاني ....‍‍ وتلك تتناوال القسم الثاني فقط .... هكذا أبطل فتوى العلماء بوجهين :

الأول : أنه ذكر أقساماً ليست من التمثيل أصلاً .

الثاني : أنه حمل كلام العلماء علي غير ظاهره ، وهم أحياء وموجودون ،ولم يتعن سؤالهم بل نزل كلامهم علي تقسيم لا يرضونه في الجملة .

ولنقف وقفة قصيرة مع عرضه لفتوى الشيخ عبد العزيز بن باز يتجلى من خلالها ما ذكرنا .

قال الكاتب : (( سئل الشيخ عن حكم التمثيل فقال : (( إنه من الكذب كون أنه يمثل بأنه فلان أو فلان سواء كان طيباً أو خبيثاً ، هذا من الكذب )) والناظر المنصف إلي فتوى الشيخ يتبين له أن الشيخ ، يعني بالتمثيل تقمص الشخصيات وذلك في قوله (( كون أنه يمثل بأنه فلان أو فلان )) وعلي هذا ، فإنه لا يصلح إطلاق القول بأن الشيخ يحرم جميع أنواع التمثيل المذكور أنفا )) ا هـ بتصرف .

أقول :

أولاً : الشيخ عبد العزيز لا يرى القسم الثالث تمثيلاً ، وإنما يراه تعليماً ، فقد سألناه عما يذكره العلماء في مسائل الفرائض ، ونحوها – عندما أفتي بحرمة التمثيل لكونه كذباً – فقال : هذا تعليم وليس من هذا الباب . أو كما قال .

ثانياً : فتوى الشيخ معللة ، فإنه حرم التمثيل ، وقال أنه كذب . فهذا يدخل فيه القسم الأول عندك كما ذكرت . ويدخل فيه القسم الثاني من تقسيمك .

لأن من قال : ( أنا نجار ، أو طبيب ، أو مجاهد ) وهو ليس كذلك ، فقد كذب .

ثالثاً : تحقيقاً للأمر الثاني ، فإني كتبت سؤالاً لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – حفظه الله – قرئ عليه ، ملخصه : أنكم حرمتم التمثيل لأنه كذب ، كأن يقول الممثل أنا فلان بن فلان . فما رأي سماحتكم فيمن مثل نفسه نجاراً أو طبيباً ، ونحو ذلك ؟

فأجاب سماحته : لا فرق بين كونه يقول أنا فلان ، أو أنا نجار ، أو طبيب . الكل كذب ))

إذا تبين هذا ، فإن قول الكاتب (( فإنه لا يصح إطلاق القول بأن الشيخ يحرم جميع أنواع التمثيل )) خطأ بين ، وتحميل لكلام الشيخ ما لا يتحمله ، وكان الأولي بالكاتب أن يعرض تقسيمه للتمثيل ، علي العلماء الذين جعل فتاويهم قيده ، لينظر هل يوافقونه أم يعارضونه .

ثم قال استكمالاً لإيهان فتوى الشيخ (( بل أنه لما سئل عن تمثيل يقع بين اثنين يسمي أحدهما نفسه عبد الله ، والآخر عبد الرحمن . فيقابلان أمام الجمهور ، فيقول هذا : كيف حالك يا عبد الله ؟ ويجيب الآخر : بخير والحمد لله يا عبد الرحمن ... ؟

أجاب حفظه الله – بأنه لا يري في ذلك بأساً ، فكلاهما عبداً لله وللرحمن )) ا هـ .

هكذا يختارون هذه الصور للتمثيل ، إظهاراً له بمظهر البراءة . فهل ما ذكرته هو التمثيل الواقع لتسأل عنه الشيخ ؟

وهل هذا يعتبر تمثيلاً ؟ رجل يقول للآخر كيف حالك . فيجيب : بخير .... !! ثم ماذا أيها العقلاء ؟

إن هذا تحايل علي العلماء وتلبيس علي الإتباع .

فإن قال : إنما سقته ليعلم أن هذه الحالة ليست كذباً .

فنقول : هي كذلك ، يعرف ذلك طويلب العلم ، فكان السؤال عنها وتدوينها هنا ريبة ، إذا استغلت في إشاعة أن الشيخ لا يحرم جميع أنواع التمثيل . فإذا ما سئل الممثلون عن هذه الأنواع التي لا يحرمها الشيخ ، أجابوا بهذه الصورة وهم قائمون علي تمثيل المعارك الإسلامية ، والمؤامرات الكافرة ضد السلام ... وهكذا نسأل الله للجميع التوفيق والهداية وصلي الله وسلم علي نبينا محمد ، وعلي آله وصحبه أجمعين .

* * *

كتبه

عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم

الرياض 7/9/1412 هـ

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقدمة الطبعة الأولي

الحمد لله وصلي الله وسلم علي رسول الله .

أما بعد

فإن قضية (( التمثيل ))([1]) قضية طال الجدل حولها ، وتباينت آراء الناس فيها ، فمن مجوز علي الإطلاق ، ومن محرم ، ومن مقيد التحريم بصور ، والجواز بأخرى .

وقد أحببت المشاركة في هذه القضية بهذا المؤلف الوجيز مبينناً ما وقفت عليه من الأدلة المحرمة مجيباً عما تعلق به من رأي  الجواز ، والله أسأل التوفيق والإعانة ، إنه ولي ذلك والقادر عليه . وصلي الله علي نبينا محمد ، وعلي آله وصحبه أجمعين .

كتبه

عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم

19/10/1410 هـ

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فصــــــــــــل

في معني (( التمثيل )) وأقسامه

التمثيل الذي سنتناوله هنا فيه معني التصوير للشيء ومحاكاته .

قال ابن منظور في (( اللسان )) :

(( مثل له الشيء: صوره حتى كأنه ينظر إليه .... ومثلت له كذا تمثيلاً : إذا صورت له مثالة ، بكتابة وغيرها . وفي الحديث : (( أشد الناس عذاباً : ممثل من الممثلين )) ، أي مصور . يقال : مثلت – بالتثقيل والتخفيف – إذا صورت مثالاً . ومثل الشيء : سواه ، وشبهه به ، وجعله مثله ، وعلي مثاله . ومنه الحديث (( رأيت الجنة والنار ممثلتين في قبلة الجدار )) أي : مصورتين أو علي مثالهما )) . ا هـ .

  وقال جبران مسعود في (( الرائد )) :

(( مثل تمثيلاً ، وتمثالاً : الشيء بالشيء : شبهه به ، وجعله مثله .

الرواية : عرض مشاهدها علي (( المسرح )) .

دوراً في الرواية أو غيرها : عرض شخصية أحد أبطالها ، وتشبه به في أعماله وأحواله )) . ا هـ  ([2])

·                             وقد وضع أصحاب (( المعجم الوسيط )) ضابطاً للتمثيل في الاصطلاح،

·                             فقالوا : (( عمل فني منثور أو منظوم ، يؤلف علي قواعد خاصة ، ليمثل حادثاً حقيقياً أو مختلقاً قصداً للعبرة )) ا هـ .

ويمكن أن نعرف (( التمثيل )) – أيضاً – بأنه :

(( محاكاة شخص لآخر حقيقي أو خيالي قصداً للعبرة بتنظيم مسبق أمام جمهور من الناس ، حضروا لرؤيته ))

·                        والمثل هو : القائم بأعمال التمثيل أمام الجمهور من الناس .

قال نجيب اسكندر في (( معجم المعاني )) :

ممثل (( اللفظة الاصطلاحية : مشخص  ( مشخصاتي ) استعملتا أول ظهور التمثيل )) ا هـ .

  وقال في (( المعجم الوسيط )) - - إعداد مجمع اللغة العربية بالقاهرة : (( الممثل هو من يزاول مهنة التمثيل )) ا هـ .

·                        والهدف من التمثيل : التأثير علي الآخرين بخير أو شر .

وقد عدد الكاتبون : أهدافه وفوائده ، كما ذكر بعضهم مساوئه وأضراره .

فمن الفوائد التي ذكرت له ([3])

1-                    أداة تسلية ولهو ، وقضاء الأوقات ، وملء الفراغ .

2-                    وسيلة لطرح قضايا المجتمع ، وحلها ، ونقل العادات الغريبة إليه .

3-                    بث الوعي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في المجتمع .

ومن أضراره ([4])

1-                    الوقوع في حبال الشيطان ، والتلفظ بما يسخط الله ، والقيام بأعمال الكفرة والمشركين ، والرضي بالكفر والفساد .

2-                    نشر الفجور ، وبث الرزيلة ،وإشاعة الفساد ، وإيجاد عقد جنسية والرضي بالمنكر ، والتعويد علي الحرام ،وإثارة الشهوة .

3-                    تنمي عند المشركين – أحياناً – الغرور والكبرياء ، وتنمي بعض العادات السيئة ويتمرس الممثل علي صفات سلبية ، كالخداع ، والكذب، وتقمص شخصيات الآخرين ثم الاستهزاء بهم ، وقد يصبح الممثل مع الزمن مستهزئاً بالقيم .

4-                    قلب حقائق التاريخ – أحياناً – وتشويه شخصياته ، واعتبار الأسطورة حقيقة مسلمة عند المتفرج ..

 

* * * * ** * *

 

 

أقسام التمثيل

من حيث موضوعه

ينقسم التمثيل من حيث موضوعه إلي قسمين :

القسم الأول – التمثيل الديني :          

وتسميتنا له تمثيلاً دينياً لا تدل علي أمر الدين به ، ولا إباحته له . ولكن تمشياً مع عرف الناس ، حتى يتضح الحكم الشرعي الذي نحن بصدده في شأن هذا التمثيل

قال الأديب أحمد شفيق باشا – رئيس الديوان الخديوي ووكيل الجامعة المصرية – في كتابه (( مذكراتي في نصف قرن )) 1/77 عندما تكلم عن الحياة الاجتماعية في عهد الخديوي إسماعيل :

(( الحفلات الدينية : وفي تسميتها : حفلات دينية ، مجاز ارتكبناه تمشياً مع الاعتقاد العام ، وأن كنا نري أنها ليست من الدين في شيء [ إلا في المصدر الأصلي في إقامتها ] ([5])  ا هـ .

وقال عبد الله بن الصديق في رسالته (( إزالة الالتباس عما أخطأ فيه كثير من الناس )) 41 : (( وكون الجماعات الدينية يفعلونه – أي التمثيل – لغرض ديني كما يزعمون  لا يخرجه عن وضعه الأصلي ،وحكمه الأساسي ، بل إدخاله في الدين عدوان منهم لا يجوزه الشرع ... )) . ا هـ .

القسم الثاني – تمثيل غير ديني :

ويشمل ما عدا القسم الأول ، كالتمثيل الاجتماعي ، والجنسي والتربوي المعاصر .... إلخ .

وهذا القسم لا نطرقه بالبحث ، إذ الخلاف القائم علي أشده إنما هو في القسم الأول ولئلا يطول البحث ، ولأن إسقاط التمثيل الديني يقضي بإسقاط غيره من باب أولي .

* * * ** ** *

 

 

 

 

أقسام التمثيل

من حيث صوره

ينقسم التمثيل من هذه الحيثية إلي قسمين :

القسم الأول

تمثيل واقعة حقيقية

ماضية كانت أو معاصرة

كتمثيل فتح قسطنطينية ،وحرب الصليبين ، ومؤامرة (( اليهود )) لاحتلال الأراضي العربية ، ودور كمال أتاتورك في إسقاط الخلافة العثمانية .

القسم الثاني

تمثيل الخيال

وذلك باب يؤلف أحد الكتاب رواية لا وجود لها خارج الذهن . فتوكل إلي جماعة ليخرجوا هذه الرواية بأعمالهم علي منصة (( المسارح )) فيتقمص كل شخص منهم دوراً تكتمل به الرواءة سواء قام به جامعاً بين القول والعمل ، أو مقتصراً علي العمل – وهو ما يسمي بالتمثيل الصامت - .

أما تعليم الأمور الشرعية عن طريق المحاورات فليس تمثيلاً ، وإنما هو وسيلة للتعليم قام الدليل الشرعي عليها ، مع مراعاة أن استخدامها إنما يكون غالباً مع جاهل أو مبتدئ ، أو صغير ، فإن الشارع جاء بها في مواضع يسيرة – تعليم جبريل ، تعليم الصلاة – وذلك خشية من النسيان لهذه الأمور الأساسية في الدين ، مع حداثة العهد بالإسلام .... وغير ذلك من المقاصد .

ولذا نرى هذه الظاهرة التعليمية تقلصت فيما بعد ، لاستقرار هذه الأمور عند الخاص والعام الصغير والكبير الذكر والأنثى .

علي أن المنهج النبوي في العموم : تعليم بالقول ، والمحافظة عليه بالعمل كما هو متقرر في كتب السنة النبوية .

 

 

 

فصــــــــــــل

في نشأة التمثيل

تمتد جذور التمثيل إلي العصر اليوناني ، وتعليمات الكنيسة النصرانية القديمة – قبل الإسلام كما صرح بذلك جماعة من علماء الأدب .

أما المسلمون فلم يعرفوا هذا العمل منذ قيام دعوة نبينا محمد r إلي ما قبل خمسين ومائة عام – تقريباً – يوم انفتح الشرقيون علي علوم الغرب وحضارته وثقافته ،وعندئذ اكتسبوا هذا العمل منهم وتعلموا أصوله وقواعده في مدارسهم ، ثم نقلوه إلي بلادهم الإسلامية ، ليكون نواة لما نشاهده الآن من تمثيليات (( دينية )) وغير دينية .

      قال (( بطرس البستاني )) في كتابه (( أدباء العرب في الأندلس وعصر الانبعاث )) :

(( لم يترك العرب في الدولة العباسية علماً من العلوم اليونانية إلا نقلوه ، واطلعوا عليه ، واستغلوا به ، ما خلا الأدب ، فإنهم استغنوا بما لديهم، فلم تصل إليهم ملاحم اليونان ،ولا قصصهم التمثيلية .

ولو قدر لها الوصول ، لما كان الحكم الإسلامي يوم ذاك يعمل لإحياء التمثيل شأن الكنيسة المسيحية في القرون المتوسطة ، لأن التمثيل عندهم تزوير لعظماء الرجال ... )) ا هـ ([6]) - 

وقال صاحب (( تاريخ اليونان )) :

(( تكمن الأصول الأولي للمسرح اليوناني في الاحتفالات الدينية التي كانت تقام في المناطق المختلفة في بلاد اليونان والتي كانت تدور حول عقيدة الإله ديونيسوس Dionysos  ( وهو اسم آخر للإله باخوس Bakkos  ) الذي كان إلهاً للحصاد والثمار والكروم ، وإن كان قد اشتهر بصفته إلهاً للخمر .

واليونان كانوا يقومون بهذا النوع من الاحتفالات كمظهر من مظاهر الابتهاج والشكر للقوى الإلهية التي تتحكم في الطبيعة ، إذا كان المحصول وافراً ، أو كمظهر للابتهال والتضرع لهذه القوى الإلهية إذا قصر المحصول عن الوفاء المنتظر .

ولم تكن هذه الاحتفالات في الحقيقة بدعة اقتصرت علي بلاد اليونان ، وإنما عرفتها مجتمعات أخري من بينها مصر وسورية علي سبيل المثال لا الحصر .

ففي مصر كانت تقام في بداية الربيع احتفالات تمثل تناوب الفصول ،،تدور حول الإله أوزريس ( الذي أرتبط أسمه بالحبوب والحصاد) تمجد عودته للحياة بعد أن قتله أخوه الإله الشرير (( ست )) . وفي هذه الاحتفالات كانت القصة الكاملة تمثل في شكل ديني شعبي تبين كيف قتل (( ست )) أخاه (( أوزيريس )) ، ثم كيف سعت الألهة إيزيس ( زوجة أوزيريس ) بكافة الطرق حتي أستعادت جثة زوجها وأعادت إليه الحياة ، وكيف تم الانتقام من (( ست )) وفي سورية كانت تقام احتفالات مماثلة تدور حور أسطورة مماثلة كذلك مؤداها أن الإله بعل ( أو آذون أدونيس ) قد قتله خنزير بري ، ثم حاولت زوجته الإله عشتار ( أو عشتروت ) إعادته للحياة حتى تعود الحياة تعود الحياة إلي الطبيعة التي ماتت في الشتاء . )) ا هـ

وقال أحمد حسن الزيات في كتابه (( تاريخ الأدب ))([7])

التمثيل بمعناه الحديث لم تعرفه اللغة العربية إلا في أواسط القرن الماضي وكان (( اللبنانيون )) أسبق الشرقيين إلي اقتباسه لتخرجهم في المدارس الأجنبية ودراستهم للآداب الفرنجية .

وأول من فعل ذلك منهم ( ....... ) فقد مثل أول رواية عربية : سنة 1840 م ... إلخ ([8])

هذا هو كلام أهل الاختصاص في إرجاع هذا العمل إلي مصدره الأول .

* * *  *

أما علماء الشرع فلهم نصيب – أيضاً – في تبيين أصله ومنشئه .

قال شيخ الإسلام – رحمه الله – في التعريف بعيد (( الشعانين )) عند النصارى : أن ذلك مشابهة لما جري للمسيح – عليه السلام – حين دخل بيت المقدس .... وكان اليهود قد وكلوا قوماً معهم عصى ، يضربونه بها ، فأورقت تلك العصي ... فعيد (( الشعانين )) مشابهة لذلك الأمر . وهو الذي سمي في شروط عمر – رضي الله عنه – وكتب الفقه : أن لا يظهروه في دار الإسلام )) . ا هـ ([9]) .

وقال عبد الله بن الصديق في رسالته (( إزالة الالتباس )) :

(( التمثيل لا يعرف إلا عن طريق الأوربيين وهم الذين أظهروه في الشرق )) . ا هـ .

قال أحمد بن الصديق في رسالته (( إقامة الدليل علي حرمة التمثيل ))

(( فهو مما ابتدعه الكفار )) . ا هـ .

وقد علم مما تقدم أن التمثيل نشأ عن اليونان ، فالنصارى ، فالحضارة الغربية الكافرة ، وأنه من خصائصهم وشعائرهم . وأن العرب لم يعرفوه إلا بعد الانفتاح علي العالم الغربي ،والإعجاب بحضارته وتقييم الأفعال والأخلاق بميزانه .

ويوضح زكي طليمات ([10]) أسباب عزوف المسلمين عن فن (( التمثيل )) فيقول :

إن من أبرز الأسباب التي تصرف الذهنية الإسلامية عن الأخذ بأسباب التعبير عن طريق (( المسرحية )) للدعاية والتفسير هو : أن العقيدة الإسلامية علي وضوح أركانها ، وجلاء تعاليمها ومنطق أحكامها ، عقيدة لا يشوبها لبس ولا غموض ، يتطلبان تحايلاً في التفسير ... إلي أن قال : مثل هذه العقيدة القوية في معنوياتها ، البسيطة في شعائرها ، القائمة علي مناهضة كل مظهر من مظاهر تعدد الأرباب ، وما يتصل به من فنون السحر ، لإحياء طقوسه ، ومناسكه ، لا يمكن أن تتمخض عن فن تمثيلي )) . ا هـ .

فإذا أضفنا إلي ذلك أن العرب بطبيعة عقلهم ينظرون إلي الكليات ، عفنا إلي أي مدي نجد التباين الضخم بين الأدب العربي ، والآداب الأجنبية في مجال القصة والمسرح . ا هت . نقلاً عن كتاب (( كتاب الفنون والمسرح )) لأنور الجندي ص 20-21 .

ويقول أحمد باكثير معللاً عدم وجود فن التمثيل عند العرب :

(( إذا لم يوجد المسرح عن العرب في جاهليتهم ، فأحرى ألا يوجد لديهم بعد الإسلام ، الذي قضي علي تلك الوثنية ، وأعاد إليهم دين التوحيد كأصفى ما يكون . وتقديس الأشخاص من مظاهر الوثنية ،والإسلام ينهى عن ذلك نهياً تاماً ، مما أدي إلي عدم ظهور (( الدراما )) لأن نشأة (( الدراما )) في عهودها الوثنية كانت قائمة علي تقديس من كانوا ملوكاً أو أبطالاً ، ثم ألهوهم بعد وفاتهم )) . ا هـ ([11])

قال أنور الجندي :

(( وبالجملة فقد كانت هذه الفنون المختلفة ، ومنها (( القصة )) و (( المسرح )) دخيلة علي الأدب العربي ، والفكر الإسلامي ، لأنها نتاج مجتمعات أخرى ، وقائمة علي ظروف وأوضاع لم يعرض لها المجتمع الإسلامي القائم علي روح التوحيد الخالص ، والذي يعتبر الأخلاق جزء لا يتجزأ من العقيدة الدينية )) . ا هـ . ([12])

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فصــــــــــــل

وقد رمي جماعة من المستشرقين : الأدب العربي بالتأخر ، لعدم وجود فن (( التمثيل )) فيه ، مما أثار نزعة عرقية عند أدباء العرب ، فراحوا ينبشون الكتب ، بغية الحصول علي وثيقة (( تمثيلية )) عند المتقدمين يرفعون بها ما عابهم به المستشرقون . ([13])

ولكنهم لم يظفروا بنص واحد يفصح عن وجود التمثيل بأصوله الحاضرة عند المسلمين ، بينما وجدوا ما يعتبرونه نواة للتمثيل عند العرب ، وفيما يلي ذكر بعض ذلك ، لرفع اللبس ، الذي قد ينجم عن قولهم : (( إن التمثيل أصلاً عند المسلمين ))

فمن ذلك ما ذكره أحمد بن الصديق في (( جؤنة العطار )) ج 1/7 نقلاً عن (( العقد الفريد )) : (( أن بعض الصوفية في زمن المهدي العباسي كان يصعد تلاً ثم يقول : ما فعل النبيون ... ؟ أليسوا في أعلى عليين ... وهكذا يأتي بكبار الصحابة والخلفاء ويحاكم كلاً منهم ويقضي فيه قضاءه ا هـ بتصرف .

وهذه القصة لا تدل علي وجود التمثيل عند العرب لوجوه :

أولاً : من ذكرها هو ابن عبد ربه – فيه تشيع شنيع . والقصة فيها سب لمعاوية رضي الله عنه – فلا يبعد أن ذلك من اختلاف الشيعة .

ولما تكلم صاحب (( العقد )) علي خالد بن عبد الله القسري قال فيه ابن كثير :

(( وقد نسب إليه صاحب العقد أشياء لا تصح ، لأن صاحب العقد كان فيه تشيع شنيع ، ومغالاة في أهل البيت ... )) ا هـ  ([14])

ثانياً : علي تقدير ثبوتها في ذاك الزمن ، فإنها تصرف فرد صوفي ، لا يجوز أن ينسب عصره إلي ذلك الفعل لمجرد فعله ، لا سيما وأنه لم ينتشر . وعند الصوفية ما هو أحط من هذا الفعل ، يعرفه من نظر في سيرهم . وما أحسن ما قاله عمر الدسوقي في كتابه (( المسرحية )) علي هذه القصة :

(( ويذكرنا ما كان يفعله هذا الصوفي ... بالمسرحية الأخلاقية التي عنيت بها الكنيسة )) . ا هـ ([15])

ثالثاً : لو أن هذه القصة علي تقدير ثبوتها – بلغت العلماء وأهل الفضل لأنكروها – قطعاً – لما فيها من المنكرات ، كجعل هذا الصوفي نفسه في منزلة الرب – تعالي وتقدس – وسب الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنهما – وغير ذلك .

فهذه أوجه فيها نفي وجود التمثيل عند العرب بهذه القصة وفيها إبطال الاستدلال بهذه القصة أو الاستئناس بها علي التمثيل – إن صحت - .

ومما ذكروه أيضاً ما يسمي (( خيال الظل )) وهو نوع من أنواع اللهو بالدمى جمع دمية ، وهي : الصنم ([16]). وهي شبيهة بلعب الأطفال المجسمة الآن .

وهي ثلاثة أنواع :

الأول : الدمى التي تحرك بالأسلاك .

الثاني : الدمى التي تحرك بالأيدي

الثالث : خيال الظل ([17])

وقد عرف (( لاندو )) خيال الظل فقال :

(( هو نوع من العروض المسرحية تعتمد علي تسليط الظلال علي شاشة تظهر الأشكال أمام المشاهدين )) ا هـ .

وقال العلامة أحمد تيمور في كتابه (( التصوير عند العرب )) :

(( تماثيل خيال الظل : لعبة معروفة تتخذ شخوصها من جلود ، وتحك بعصي من وراء ثوب أبيض مشدود ، فيظهر خيالها فيه .

ويقال أن أصلها من لعب الهند القديمة :

وأقدم ما وصل إليه علمنا عن اشتغال العرب بها ، أنها كانت من ملاهي القصر بمصر ، مدة الفاطميين .... )) . ا هـ .

وترجع أقدم نصوص (( خيال الظل )) – عند العرب – إلي أواخر القرن السابع الهجري ، حيث كتب الطبيب المصري محمد بن دانيال ( 647 هـ -710 هـ ) ثلاث روايات بالشعر والنثر المسجوع . أولها : (( طيف الخيال )) ، وثانيها : (( عجيب وغريب )) وثالثها : (( المتيم ))

قال الكاتب (( لاندو )) عن روايته (( عجيب وغريب )) :

(( وفي المسرحية ليس هناك حبكة مفتعلة ، وإنما تدور المسرحية حول مواقف من حياة الأشخاص ، مما يذكرنا بقصص المقامات والقصص الشعبية )) . ا هـ . ([18])

فما كتبه ابن دانيال لم يمثل علي مسرح ، وإنما هو محفوظ في القرطاس ، شأن المقامات الأدبية والروايات القصصية ذلك الوقت .

ومما يجدر إيراده هنا ما ذكره السخاوي في كتابه (( التبر المسبوك في حوادث شهر ذي القعدة من سنة 885 هـ حيث قال :

(( وفي يوم الثلاثاء العشرين منه حرق السلطان ما مع أصحاب (( خيال الظل )) من الشخوص ، ونحوها ، وكتب عليهم قسائم في عدم العود لفعله .

ونعم الصنع جوزي خيراً )) ا هـ كلام السخاوي ([19]) .

وفي (( درر الفوائد المنظمة )) للجريري : أن أحد السلاطين حمله معه ، لما ذهب إلي الحج سنة 778 هـ ، فأنكر الناس ذلك عليه )) . ا هـ  ([20])

وقد ذكر بعض المؤرخين بيتين من الشعر ورد فيهما ذكر (( خيال الظل ))

هما

رأيت خيال الظل أكبر عبــــــرة          لمن كان في علم الحقيقة راقي

شخوص وأشباح تمر وتنقضي الكل يفني والمحـــــــرك باقي

وقد أختلف في نسبتها ، فنسبها الأتابكي ( 874 هـ ) في (( النجوم الزاهرة )) ( 6/176 ) إلي ابن الجوزي ( 597 هـ ) .

ونسبها المرادي ( 1206 هت ) في (( سلك الدرر )) ( 1/133 ) إلي الإمام الشافعي ( 204 هـ )

وعلي كل فإن نسبة البيتين لأحدهما تحتاج إلي توثيق ، ولا أظن ثبوتها عنهما ، وذلك لأن خيال الظل بمعناه الذي نقل إلينا فيه منكر متفق علي تحريمه هو الصور المجسمة ( الأصنام الصغيرة ) وينزه الإمام الشافعي ، وابن الجوزي عن ضرب العبر بذلك .

والناظر في نسبة كثير من المقطوعات الشعرية ، المنثورة  في كتب الأدب والتاريخ ، يري عجباً من اضطراب النسبة إلي قائل البيت حتى أن البيت الواحد لينسب إلي أربعة أو خمسة ، مما يدفع إلي عدم الجزم بنسبته لواحد بعينه .

ومما ذكروه – أيضاً – أصلاً للتمثيل : فن القصة . فإنها موجودة عند المتقدمين..

وحتى لا أطيل في الكلام عن فن القصة أكتفي بنقل كلام لأنور الجندي في كتابه (( الفنون والمسرح )) تحت عنوان : ( القصة فن دخيل ) قال :

(( ولا شك الآن أن هدف القصة في الآداب الغربية هو : إعطاء الشعوب جرعة من الخيال ، للتعويض عن الواقع ، وأن القصة الخرافية الوثنية هي اللذة الكاذبة ، التي تعطي الوهم بدلاً من إعطاء الحقيقة .

أما المسلم فإنه لا يحتاج إليها ، لأنه يعيش في جو من الوضوح والصراحة بين أوامر الدين ونواهيه .

لقد عرف الأدب الإسلامي العربي (( الصدق )) القصصي فيما روى القرآن من قصص وما وجه إليه الفكر من التحرك داخل إطار الواقع ، لا يدخل في إطار الشر والإباحة .

ولذلك فقد كان الإسلام حريصاً علي أن يعيش المسلم في واقعه وأن لا يتخذ وسائل الخداع الكاذبة المخدرة سبيلاً إلي إخراجه إلي عالم الأوهام .

ولقد قدم القرآن الكريم للمسلم القصة الصادقة بعيداً عن الأسطورة والخيال الوثني والوهم ... وما زال مفهوم القصة الإسلامي في اللغة العربية وهو : الإخبار بالواقع المجرد ، وتتبع آثار الحقيقة ، ولا يفهم منه تأليف الحكايات ، أو تلفيق الوقائع ، أو اصطناع الأخبار المكذوبة التي تصدر عن الكبت والظلم ...

قال : ون هنا فإن النقد الأدبي الإسلامي المصدر يرفض أمثال قصص (( شهرزاد )) و (( ألف ليلة وليلة )) وغيرها من الأساطير ، لأنها لا تمثل مفهوم الإسلام الصحيح .

وغاية ما يقال في هذا : إن الإسلام عزل المجتمع الإسلامي عن الإباحيات والخياليات المغرقة في الخرافات ، وطبع الفكر الإسلامي ،والمجتمع بطابع التوحيد والفطرة والواقعية بعيداً عن المغالاة والإسراف .

أما المسرح فإنه دخيل وافد ، وليس فنا أصيلاً لا في الأدب العربي ، ولا في المجتمع العربي الإسلامي )) . ا هـ ([21])

هذا وإن هناك وقائع ذكرت ، لتقرير وجود نواة (( التمثيل )) عند العرب ، غير ما ذكر ، إلا أنني أذكر خلاصة خرج بها الأستاذ عمر الدسوقي – رئيس قسم الدراسات الأدبية بكلية دار العلوم – في كتابه (( المسرحية – نشأتها وتاريخها وأصولها )) ، بعد أن عرض ما يدل علي وجود أصول التمثيل عند العرب ، قال :

(( ومهما يكن من أمر فإن المسرحية الحديثة – كما عرفتها أوربا – لم تدخل مصر إلا بعد عصر النهضة ، وبعد اتصالها بالأدب الغربي )) . ا هـ . ([22])

وهذا الذي خرج به الأستاذ هو الحق الذي لا مرية فيه . وهو الذي لا يليق بالمسلمين ولا بالعرب سواه .

قال الدكتور محمد يوسف نجم – رئيس دائرة اللغة العربية وآدابها وأستاذ الأدب العربي الحديث في الجامعة الأمريكية ببيروت :

(( المسرح بمعناه الاصطلاحي الدقيق ، فن جديد ، ولج باب حضارتنا في النهضة الحديثة التي أعقبت الحملة الفرنسية علي مصر . وإذا أردنا الحديث عن المسرح ، كفن له أصوله وأدبه ، فعلينا أن نسقط من حديثنا ألوان الملاهي الشعبية التي قد تحوي مشابه من الفن ولكنها تختلف عنه اختلافاً كبيراً ، إذ لابد من التحديد الدقيق الذي يهيئ لنا تمييز هذا الفن عن غيره من ألوان التسلية الشعبية ، كخيال الظل والقره قوز  وأعمال المقلدين والشعراء الشعبيين ، فمثل هذه الألوان ، لا تندرج في سجل هذا الفن وإن حوت بعض عناصره التشكيلية )) . ا هـ ([23])

وقد قرأت في الفصل الماضي ما قاله جماعة من أدباء العرب – نصارى ومسلمين – عن نفي وجود هذا الفن بصوته الحالية – دينية كانت أو غيرها – عند المسلمين إلي عصر النهضة الأدبية الحديثة المهجنة .

وأخيراً أختم هذا الفصل بما كتبه محمد السنوسي ( 1313 هـ ) في (( الرحلة الحجازية )) له ، عندما تكلم عما شاهده من (( التياترو )) – التمثيل – في بلاد النصارى ، فقال – وهو لا يري مانعاً من إقامة التمثيل :

(( قلت وبالوقوف عند حد الصدق ، وسلامة القصد ، لم يبق مانع في الحكاية بالمثال في المسارح .

هذا وإن نظرنا إلي مجرد العمل ، أما إن نظرنا إلي ما يصحبه من الاجتماع الذي لا ينبني إلا علي النساء والغلمان من اللاعبين المتفرجين . ونظرنا إلي أنه عمل جاهلي في الأصل ، نصراني في الحالة الراهنة ، فأصول شريعتنا الإسلامية تمعه بدون نزاع .

وكذلك تشخيص الروايات للسخف مما نهي عنه . وفي الحديث : (( ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك منه ويل له ويل له )) . وهو من اللغو المجتنب لا محالة )) . ا هـ ([24])

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فصـــــــــــــل

والمقصود بكتابة هذه الوريقات بيان الحكم الشرعي ، للتمثيل (( الديني )) دون غيره من أنواع التمثيل .

وقد أفتى بحرمة إقامة التمثيل المسمى ب (( الديني )) جماعة من العلماء ، استناداً علي ما جاء في كتاب الله ، وسنة رسول الله r ، وذلك لما يقوم بالتمثيل من المخالفات الشرعية ،والأعمال المنهية ، كما ستراه في العرض الآتي – إن شاء الله .

ومن  نظر إلي التمثيل وعرف حقيقته ، ثم نظر إلي أدلة الشرع ، علم أن هذا العمل مشتمل علي محرمات ومنكرات ، وربما مكفرات ومخرجات لا يليق بمؤمن من انتهاكها وهو مقر بخطئه فضلاً عن انتهاكها بزعم أن الشرع يؤيده ويعضده .

وقبل الشروع في ذكر الأدلة علي حرمة هذا العمل والإجابة علي شبه المخالف ، أذكر بعض العلماء الذين قرروا حرمته وأغلظوا فيه حتى يعلم أننا لهم تابعون ، علي طريقهم سائرون .

فمنهم الشيخ : عبد العزيز بن عبد الله بن باز . رحمه الله

ومنه الشيخ : محمد ناصر الدين الألباني . رحمه الله

ومنه الشيخ : عبد الرزاق عفيفى . رحمه الله .

ومنه الشيخ : حماده الأنصاري . رحمه الله .

ومنهم الشيخ : صالح بن فوزان الفوزان .

ومنهم الشيخ : ربيع بن هادى المدخلي .

ومنهم الشيخ : بكر بن عبد الله أبو زيد .

ومنهم الشيخ : عبد المحسن العباد .

ومنهم الشيخ : حمود بن عبد الله التويجري . رحمه الله .

ومنهم الشيخ : صالح بن عبد الرحمن الأطرم .

ومنهم الشيخ : عبد الله الدويش . رحمه الله .

ومنهم الشيخ : عبد الرحمن عبد الخالق .

ومنهم الشيخ : عبد الله بن حسن بن قعود .

ومنهم الشيخ : عبد الرحيم الطحان .

ومنهم الشيخ : محمد بن عبد الله الحكمي .

 

فصـــــــــــــل

الدليل الأول علي تحريم التمثيل

إن (( التمثيل )) شعيرة من شعائر الوثنية اليونانية ، والكنيسة النصرانية ، يقوم بها أولئك تقرباً إلي آلهتهم وهؤلاء إحياء لسيرة عيسى بن مريم – عليه وعلي نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم – كما تقدم هذا قريباً .

وما دام أن الأمر كذلك ، فإن إقامة هذه التمثيليات موروث عنهم ومقتبس من طقوسهم وشعائرهم .

أما المسلمون من لدن زمن نبينا محمد r إلي وقت قريب فإنهم لم يقيموها ، لا تعبداً ، ولا عادة .

بل لما وفد إلينا التمثيل من البلاد الغربية ، وقام أحد المعجبين بهم ، بإنشاء مسرح للتمثيل بدمشق ، عرض عليه بعض الروايات الغنائية ، أنكر عليه بعض الشيوخ إتيانه بهذه البدعة وشكوه إلي حكومة (( الآستانة )) فمنع من الاستمرار في هذا العمل ([25]) .

ومن القواعد المقررة والأمور المسلمة ، أن مخالفة الكفار في تقاليدهم وعاداتهم مطلب شرعي ، ومقصد إسلامي ، فكيف بعباداتهم وشعائرهم ؟

وقد ثبت أن أصل التمثيل شعيرة من شعائرهم ، وهو الآن من عاداتهم ، فيجب علي المسلم الابتعاد عنه ، تديناً ، لما في ذلك من مخالفتهم ومنابذتهم .

وقد أجمع العلماء علي تحريم مشابهتهم في عباداتهم ،وشعائرهم .

بل قد نهي النبي r المسلمين عن الصلاة لله في وقت عبادة الكفار ، قطعاً لمادة التشبه ، وتنويهاً ببشاعة جرمها .

قال تعالي )  وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ  ( [ المائدة : 51 ] .

وقال تعالي :

 )فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ( [ التوبة : 69 ]

وفيها التوبيخ لمن تشبه بأهل الكفر والفسوق في شيء من قبائحهم ومنكراتهم .

وفي المسند وسنن أبي داود عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله r قال : (( ومن تشبه بقوم فهو منهم )) .

قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية : (( وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم ، كما في قوله تعالي : )  وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ  ( [ المائدة : 51 ] .

ثم قال شيخ الإسلام :

(( وبكل حال : يقتضي تحريم التشبه بعلة كونه تشبها .

والتشبه : يعم من فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه . وهو نادر .

ومن تبع غيره في فعل ، لغرض له في ذلك ، إذا كان أصل الفعل مأخوذاً عن ذلك الغير .

فأما من فعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضاً ولم يأخذ أحدهما عن صاحبه ، ففي كون هذا تشبهاً نظر . لكن قد ينهى عن هذا ، لئلا يكون ذريعة إلي التشبه ولما فيه من المخالفة ([26]) . كما أمر بصبغ اللحى ، وإخفاء الشوارب ،مع أن قوله r : (( غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود )) ، دليل علي أن التشبه بهم يحصل بغير قصد منا ، ولا فعل ، بل بمجرد ترك تغيير ما خلق فينا وهذا أبلغ من الموافقة الفعلية الاتفاقية ... )) إلخ كلامه رحمه الله .

وإذا نظرت إلي هذا التقرير البديع في مسألة التشبه ، ثم أعملت النظر في تتبع أصول (( التمثيل )) وإلي أي ملة يرجع ، وفي أي قوم ينتشر ، ومن أي بلد وفد إلينا ، تيقنت حرمته ،ونكارته ، وقنعت بوجوب هجره وتركه .

وإذا تقرر أن التمثيل من عبادات الكفار ، ثم سار من عاداتهم ، وتقرر ضابط المشابهة عند أهل السنة والجماعة ، فلا بأس بإيراد بعض الأدلة الصحيحة الصريحة الناهية عن التشبه بالمشركين في كل ما هو من خصائصهم .

فمن ذلك قول الله تعالي :

)  ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ  لاَ  يَعْلَمُونَ ( [ الجاثية : 18 ]

قال شيخ الإسلام : (( وأهواؤهم : هو ما يهوونه ، وما عليه المشركون من هديهم الظاهر ، الذي هو من موجبات دينهم الباطل ، وتوابع ذلك ، فهم يهوونه ، وموافقتهم فيه إتباع لما يهوونه .

ولهذا : يفرح الكافرون بموافقة المسلمين في بعض أمورهم ، ويسرون به ، ويودون أن لو بذلوا عظيماً ليحصل ذلك .

ولو فرض أن ليس الفعل من إتباع أهوائهم ، فلا ريب أن مخالفتهم في ذلك أحسم لمادة متابعتهم ، واعون علي حصول مرضاة الله في تركها . وأن موافقتهم في ذلك قد تكون ذريعة إلي موافقتهم في غيره ، فإن من حام حول الحمى أوشك أن يواقعه ... )) إلخ  ا هـ (( الاقتضاء 1/85 )) .

ومن ذلك قوله تعالي :

) وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ   ( [ الرعد : 37 ]

قال شيخ الإسلام : ومتابعتهم فيما يختصون به من دينهم ، وتوابع دينهم ، اتباع لأهوائهم . بل يحصل إتباع أهوائهم بما هو دون ذلك .

ومن ذلك قوله تعالي :

) ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتب من قبل فطال عليهم الأمد ... ( الآية .

قال ابن كثير – رحمه الله - : (( ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية )) ا هـ (( التفسير  4/310 ))

ومن ذلك ما ثبت عن عمرو بن عبسة أنه قال : (( قلت يا نبي الله أخبرني عما علمك الله ، وأجهله . أخبرني عن الصلاة . قال r (( صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار . ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح ، ثم أقصر عن الصلاة ، فإن حينئذ تسجر جهنم ، فإذا أقبل الفيء فصل ، فإن الصلاة مشهودة محضورة ، حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس ، فإنها تغرب بين قرني شيطان ، وحينئذ يسجد لها الكفار ))رواه مسلم .

فقد نهي الرسول r عن الصلة وقت طلوع الشمس ، ووقت الغروب معللاً بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان ،وأنه يسجد لها الكفار حينئذ .

ووجه الدلالة من الحديث يتبين بعد معرفة ثلاثة أمور :

أولاً : أن كل مؤمن لا يقصد السجود إلا لله تعالي .

ثانياً : أن أكثر الناس لا يعلمون أن طلوع الشمس وغروبها بين قرني شيطان .

ثالثاً : أن أكثر الناس لا يعلمون أن الكفار يسجدون لها ذلك الوقت .

إذا تبين هذا ، فإن النبي r نهي عن الصلاة في هذه الأوقات – مع استقرار الأمور الثلاثة المذكورة – قطعاً لمادة التشبه ، وسداً للذريعة )) .

فإذا كان هذا في عبادة الله محضة ، فما الظن بمشابهتهم في عبادة وثنية ، وطقوس شركية ، أو عادة من خصائصهم – كما هو الحال في التمثيل – لا ريب أن هذا بالنهي أولى ، وبالاجتناب أحرى .

ومن ذلك – أيضاً – ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي غطفان المري قال :

سمعت عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – يقول حين صام رسول الله r يوم عاشوراء ، وأمر بصيامه : قالوا يا رسول الله ، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى . قال رسول الله r : (( فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع )) قال : فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله r .

وروى سعيد بن منصور عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال : (( صوموا التاسع والعاشر ، خالفوا اليهود )) .

ومن ذالك ما رواه مسلم عن جبير بن نفير عن عبد الله بن عمرو قال : رأي رسول اللهr علي ثوبين معصفرين فقال : (( إن هذا من ثياب الكفار فلا تلبسها ))

قال شيخ الإسلام : (( علل النهي عن لبسها بأنها : من ثياب الكفار . وسواء أراد أنها مما يستحقه الكفار ، بأنهم يستمتعون بخلاقهم في الدنيا ، أو مما يعتاده الكفار لذلك )) .

كما أنه في الحديث قال : (( إنهم يستمتعون بآنية الذهب والفضة في الدنيا وهي للمؤمنين في الآخرة )) .

ولهذا كان العلماء يجعلون اتخاذ الحرير ،وأواني الذهب والفضة تشبهاً بالكفار.

ففي الصحيحين عن أبي عثمان النهدي قال : كتب إلينا عمر – رضي الله عنه – ونحن بأذربيجان :

(( ... وإياكم والتنعم وزى أهل الشرك ... )) هذا لفظ مسلم . وروي أبو بكر الخلال أن حذيفة أتى بيتاً ، فرأي شيئاً من زى العجم ، فخرج وقال : (( من تشبه بقوم فهو منهم )) .

وقال السواق : كنا في وليمة ، فجاء أحمد بن حنبل ، فلما دخل نظر إلي كرسي في الدار عليه فضة . فخرج فلحقه صاحب الدار ، فنفض يده في وجهه ، وقال : زى المجوس زى المجوس )) !! ا هـ (( الاقتضاء 1/317 بتصرف )) .

فإن كان هذا من مشابهتهم في لباسهم ،وأثاث بيوتهم ، فما يكون حال (( التمثيل )) الذي هو بهم أخص من الثوب المعصفر .

ومن ذلك ما رواه البخاري عن مسروق عن عائشة – رضي الله عنها – أنها كانت تكره أن يجعل يده في خاصرته ، وتقول : (( إن اليهود تفعله )) .

قال شيخ الإسلام – لما ذكر الأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة في أماكن العذاب :

(( فإذا كانت الشريعة قد جاءت بالنهي عن مشاركة الكفار في المكان الذي حل بهم فيه العذاب ، فكيف بمشاركتهم في الأعمال التي يعملونها )) ا هـ

والأدلة علي تقرير هذا الأصل كثيرة جداً في الكتاب والسنة والآثار والإجماع وقد أستقصي طرفاً منها شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (( اقتضاء الصراط المستقيم )) فيجدر بكل طالب حق أن يكون هذا الكتاب من مقروءاته .

ولو لم يكن في الأدلة المحرمة لهذا (( التمثيل )) إلا هذا الدليل لكان كافياً في إثبات حرمته قطعاً ،وإبطال قول من قال بالجواز تعلقاً بشبه لا تثبت أمام هذا الدليل الجبل ، الذي بني عليه العلماء أحكاماً كثيرة وأخذوا منه قواعد صلبة تحكم سير المستجدات في بحر الفقه الإسلامي .

ومن العجب أن بعض القائلين بجواز التمثيل قد منعوا أموراً لأنها مشابهة للكفار في عاداتهم وتقاليدهم . وهاهم يجيزون التشبه بهم في عباداتهم وشعائرهم ... !! فإلي الله المشتكي من هذا المنهج المضطرب الذي يحكمه السذاجة أو الهوى ، وكم قد جني هذا المنهج البائس علي أهل السنة والجماعة ،وزعزع قواعدهم الراسية ، حتى نال منها المبتدعة ،وضربوا بعضها للعض .

ولقد صدق رسول الله r حينما قال : (( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبرا وذراعاً بذراع . حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه )) . قالوا يا رسول الله : اليهود والنصارى ؟ قال : (( فمن ؟ )) . أخرجه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري .

 

 

 

 

 

 

 

فصـــــــــــــل

الدليل الثاني علي تحريم التمثيل

 

إن التمثيل لا يخلوا من حالتين :

·       إما أن يكون أسطورة خيالية ، لا واقع لها ولا حقيقة

·       وإما أن يكون واقعة سالفة ، قام بها أشخاص معينون ، علي سبيل الحقيقة .

·       وعلي كلا الحالتين فهو حرام ، بدلالة الكتاب والسنة وإجماع العلماء .

أما الحالة الأولي :

فهي كذب والكذب محرم . ووجه كونها كذباً أمور منها :

1-   تسمية القائمين بها بغير أسمائهم

2-   الانتساب إلي غير الأب الحقيقي .

3-   تقمص شخصية غير شخصية الممثل كقاض ، أو طبيب ، وبائع ...

4-   الأيمان التي تقع علي أمر ماض أو حاضر يعلم كذبه و (( تخيله )) .

5-   التظاهر بالأمراض والعاهات ، أو الجهل ، أو الخبال ، وقد علم ضده .

6-                    الخروج بمظهر الصلاح الكامل ، أو الفساد الكامل ، أو الوسط . فالأول إن سلم من الكذب فهو تزكية . والثاني إن سلم – أيضاً – من الكذب فهو هتك لستر الله .

وهذه الأوجه وغيرها مما يتضمن الكذب ، لا تخلو منها (( تمثيلية )) قط ، لعدم تصور الإبداع من غيرها .

فمنع التمثيل لهذا الدليل قوي ، فإن النبي r حرم الكذب ،ولم يرخص فيه ، إلا في مواضع سيأتي تناولها ، وخلاف العلماء في المراد بها .

فعن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – أن النبي r قال (( أربع من كنا فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق )) ،وفيه : إذا حدث كذب )) أخرجه الشيخان .

وعن سعد بن أبي وقاص رفعه (( يطبع المؤمن علي كل شيء إلا الخانة والكذب )) . أخرجه البزار . وقال الحافظ : سنده قوي ،ورجح الدارقطني وقفه .

شبهة :

قد يقول قائل : إن المشاهدين (( للتمثيل )) يعلمون أن (( الممثل )) ليس هو (( الممثل )) فلا تحصل مضرة ، ولا يترتب علي ذلك أكل مال مسلم ، ولا أخذ حقه .

والجواب أن الأحاديث الدالة علي تحريم الكذب عامة ، فلا تخصص إلا بما خصصه الشرع ، والصورة المذكورة لم يأت دليل صحيح صريح في تخصيصها ، فلا عبرة بالتخمين ، ولا وجه للتخصيص . ولو فتح باب الكذب الذي لا مضرة فيه ، لامتطاه أناس رواغون ،وحصل به المفاسد ما لا يخفى .

وقد جاء ما يدل علي تحريم الكذب مطلقاً في قول جماعة من الصحابة ففي (( الأدب المفرد )) للبخاري و (( تهذيب الآثار )) لابن جرير ، عن ابن مسعود رضي الله تعالي عنه – قال : لا يصلح الكذب في جدولا هزل ، ولا أن يعد أحدكم ولده شيئاً ثم ينجز له . وفي لفظ : والذي لا إله غيره لا يصلح الكذب في هزل ولا جد . اقرأوا إن شئتم : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ( [ التوبة : 119 ]

 وفي سنن أبي داود عن أبي أمامة – رضي الله عنه – مرفوعاً : (( أنا زعيم بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب ولو كان مازحاً )) .

وفي الصحيحين عن أسماء أن امرأة قالت : يا رسول الله إن لي ضرة ، فهل علي جناح إن تشبعت من زوجي غير الذي يعطيني ؟ قال : المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور )) . وسيأتي الكلام عن هذا الحديث مفصلاً إن شاء الله .

وفي سنن أبي داود من حديث عبد الله بن عامر قال : أتي رسول الله r في بيتنا ،وأنا صبي ، قال : فذهبت أخرج لألعب . فقالت أمي تعال أعطيك . فقال رسول الله r : (( إما إنك لو لم تعطه شيئاً ، كتبت عليك كذبة )) حسنه العلامة العراقي ، والشيخ الألباني .

وقال : وله شاهد من حديث أبي هريرة بلفظ : (( من قال لصبي تعال هاك ، ثم لم يعطه شيئاً فهي كذبة )) .

قال العلامة الروياني في (( البحر ))

من كذب قصداً ردت شهادته ، وإن لم يضر غيره ، لأن الكذب حرام بكل حال ... )) . ا هـ .

بواسطة نقل الهيتمي عنه في (( الزواجر )) 2/195  .

وروي عن علي – رضي الله عنه – أنه قال : (( إن أصحاب الشطرنج أكذب الناس – أو من أكذب الناس – يقول أحدهم قتلت وما قتل ))

ومن المعلوم أن أصحاب الشطرنج يعملون – ويعلم المتفرجون عليهم – بأنهم ما قتلوا أحداً . ومع ذلك قال فيهم علي – رضي الله عنه  - ذلك .

شبهة أخرى :

قد يحتج محتج بقول النبي r : (( ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيراً وينمي خيراً )) علي جواز التمثيل لما فيه من الإصلاح العام.

والجواب: أن لفظ الحديث لا يساعد علي هذا المحمل. فإن قوله : (( بين الناس )) يدل علي وجود الشحناء والخصومة بينهم ، وأن المصلح بينهم يجوز له – خاصة – إزالة هذا الشجار بالأخف فالأخف ، فإن لم يندفع بالصدف ، انتقل إلي التعريض أو الكذب . أشار إلي هذا شراح الحديث .

وتخصيص الجواز للمصلح ، مع الحالات الأخرى المنصوص عليها ، دليل صريح علي المنع من استعمال الكذب في غيرها .

هذا علي التسليم بأن المراد بالكذب هنا : الإخبار بخلاف الواقع . أما علي القول الآخر ، وهو أن المراد بالكذب هنا : التعرض فلا حاجة بنا إلي الجواب عن هذه الشبهة .

والقول بالمراد بالكذب هنا : التعريض ، قول وجيه ، نصره جمع من العلماء .

قال ابن جرير الطبري  في (( تهذيب الآثار )) :

(( والصواب من القول في ذلك عندي : قول من قال : إن الكذب الذي أذن فيه النبي r في الحرب ،وفي الإصلاح بين الناس ،وعند المرآة ، يستصلح به : هو ما كان من تعريض بنجاته نحو الصدق ، غير انه يتحمل المعنى الذي فيه الخديعة للعدو ... )) إلخ .

ثم قال :

(( ... فأما صريح الكذب فذلك غير جائز لأحد في شيء ،كما قال عبد الله ابن مسعود : لا يصلح الكذب في جد ولا هزل . للأخبار التي ذكرتها عن رسول الله r فيما مضى بتحريمه الكذب )) . ا هت .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في (( الرد علي البكري )) :

(( الوجه السابع : أني قال : هذه الكلمات من باب المعريض والمعرض يقصد معني والمستمع يفهم غيره . والكلام مبدوءة عناية المتكلم ، ومنتهاه إفهام المستمع ، فالمعرض إذا عني حقاً والمستمع فهم باطلاً ، كان الكلام صدقاً باعتبار ... ([27]) كذباً باعتبار الإفهام .

ولهذا لم يرخص في المعاريض فيما يجب بيانه لمثل البيع والشهادة والإفتاء ونحو ذلك باتفاق ،ويجوز للمظلوم التعريض في الأيمان وغيرها.

وأما من ليس بظالم ولا مظلوم ففيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره : قيل يجوز له التعريض . وقيل : لا يجوز مع اليمين ، ويجوز بدونها .

فقول إبراهيم - عليه السلام - : ) إني سقيم ( .

قيل : أراد سقيم القلب من كفركم .

وقوله : ( الأخت ) أراد أختي في الدين كما جاء ذلك مصرحاً به في الحديث الصحيح .

وقوله ) بل فعله كبيرهم هذا ( قيل : أنه قصد تعليقه بالشروط ،وهو قوله ) إن كانوا ينطقون ( .

ومن هذا قول نائب يوسف : ) إنكم لسارقون ( فإن يوسف أمره بالنداء ، لكن مراد يوسف : سارقون ليوسف من أبيه وهو صادق فيما عناه .. )) إلخ . ا هـ ص 374 .

وذكر ابن مفلح في (( الآداب الشرعية ))(( أن حنبلاً قال : قال أبو عبد الله : الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل . قال : فقلت له : قول النبي r : (( إلا أن يصالح بين اثنين أو رجل لامرأته يريد بذلك رضاها )) . قال : لا بأس به أما ابتداء الكذب فهو منهي عنه وفي الحروب كذلك . قال النبي r (( الحرب خدعة )) .

وكان النبي r إذا أراد غزوة وري بغيرها ، لم ير بذلك بأساً في الحروب فأما الكذب بعينه فلا . قال النبي r : (( الكذب مجانب للإيمان )) . ا هـ . [1/23].

شبهة أخري :

قد يقال بأن هذا ليس كذباً ، وذلك لأن المشاهدين يعلمون أن الممثل غير الممثل ،وإنما هو يحكي أفعاله .

والجواب : أما كون المشاهدين يعملون أن الممثل غير الممثل ، فهذا لا يغير الحكم الشرعي . إذا الممثل يخرج علي أنه هو فلان وليس هو . ولذا فهو يدعي بأسم الممثل ،فيقال له يا صلاح الدين ، أو يا شيخ الإسلام . فيجب علي أنه صلح الدين وشيخ الإسلام .

وقد أطلق الله علي المنافقين الكذب ،وهو يعلم كذبهم فقال تعالي :

) إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ( [ المنافقون : 1 ]

فما المانع الشرعي من إطلاق الكذب علي رجل تعلم أنه كذب ؟ وأما كون الممثل يقول : أنا إنما حكيت الممثل ، فقد ورد النهي عن المحاكاة ، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالي .

شبهة أخري

تعلق بعضهم بقاعدة ( الوسائل لها أحكام المقاصد ) فجوز الكذب هنا لأنه وسيلة للدعوة إلي الله تعالي .

والجواب : أن الوسائل لابد من شرعيتها – واجبة مندوبة ، مباحة – أما إن كانت الوسيلة محرمة فيجب اجتنابها ، أو مكروهة فينبغي اجتنابها .

فالخطأ إنما نتج من عدم فهم لفظة : ( الوسائل ) وإلا لو فهمت علي الوجه الصحيح لما حصل إشكال .

قال ابن القيم – رحمه الله تعالي - : (( ... قد يكون الشيء مباحاً ووسيلة مكروهة – كالوفاء بالطاعة المنذورة – وهو واجب ، مع أن وسيلته – وهو النذر – مكروه منهي عنه .

وكذلك الحلف المكروه مرجوح ، مع وجوب الوفاء به ، أو الكفارة وكذلك سؤال الخلق عن الحاجة ، مكروه ، ويباح له الانتفاع بما أخرجته له المسألة . وهذا كثير جداً .

فقد تكون الوسيلة متضمنة مفسدة ، تكره ، أو تحرم ، لأجلها ، وما جعلت وسيلة إليه بحرام ، ولا مكروه )) . ا هـ .

·       *  * ** * *

 

 

 

الحالة الثانية من حالات التمثيل :

إذا كان (( التمثيل )) لواقعة سالفة ، فإن وجه تحريمه أمور ، منها :

1-                      الكذب ، فإن (( الممثل )) يقول : هو فلان بن فلان ، وليس كذلك . وقد تقدم الكلام علي هذا

2-                      التشبع بما لم يعط ، كأن يتقمص شخصية (( صلاح الدين الأيوبي )) أو (( شيخ الإسلام ابن تيمية )) فيظهر بمظهر القوة والشجاعة أو العلم والإدراك وليس هو كذلك .

3-                      الإفضاء إلي استنقاص الأموات وذكر مساوئهم .

وقد ورد النهي عن ذكر مساوئ الموتى . ووجه ذلك أن (( الممثل )) قد ينتقص أحد الشخصيات قاصداً الإتيان بتمثيل الواقعة كما كانت كما هو الحاصل فيمن يمثل دور الإمام أحمد وموقفه من المحنة حيث قام (( الممثل )) لدور (( المأمون )) بسبه وإهانته . كما قام (( الممثل )) لدور الجلاد بجلده ... إلخ .

4-                      الغيبة : وهي ووجه اشتمال هذا التمثيل عليها واضح ومنها :

المحاكاة : وهي تقليد شخص لأخر في حركاته وسكناته ، علي وجه الانتقاص . ووجه ذلك أن (( الممثل )) يحاكي شخصاً في معايبه الخلقية أو الخلقية ، ليبرز الواقعة للمشاهدين كما هي .

وقد روي أبو داود – وغيره – عن عائشة رضي الله عنها قالت : ... وحكيت له - r - إنساناً . فقال : (( ما أحب أني حكيت إنساناً ،وأن لي كذا وكذا ))

قال ابن الأثير :

(( أي فعلت مثل فعله )) . ا هـ من النهاية [ 1/421 ]

وقال النووي في الغيبة المحرمة :

(( ومن ذلك المحاكاة ، بأن يمشي متعارجاً ، أو مطأطئاً ، أو غير ذلك من الهيئات ، مريداً حكاية هيئة من ينتقصه بذلك . فكل ذلك حرام بلا خلاف )) ا هـ . من الأذكار  ص 490 .

 

 

 

فصـــــــــــــل

الدليل الثالث علي تحريم التمثيل

عن أسماء – رضي الله عنها – أن امرأة قالت : يا رسول الله ، إن لي ضرة فهل علي جناح إن تشبعت من زوجي غير الذي يعطيني ؟ فقال رسول الله r : (( المتشبع بما لم يعط كلابس ثوب زور )) أخرجه الشيخان وأحمد وأبو داود . ورواه مسلم عن عائشة .

قال أبو عبيد - رحمه الله - :

(( قوله : ( المشبع بما لا يملك ) يعني : المتزين بأكثر مما عنده ، يتكثر بذلك ويتزين بالباطل ، كالمرآة تكون للرجل ولها ضرة ، فتشبع بما تدعي من الحظوة عند زوجها بأكثر مما عنده لها ، تريد غيظ صاحبتها ، وإدخال الأذى عليها وكذلك في حال الرجال أيضاً )) . ا هـ 2/253 من (( الغريب ))

وقال الحافظ ابن حجر :

(( وأما حكم التثنية في قوله : ( ثوبي زور ) فالإشارة إلي أن كذب المتحلي مثني : لأنه كذب علي نفسه بما لم يأخذه ، وعلي غيره بما لم يعط . وكذلك شاهد الزور : يظلم نفسه ،ويظلم المشهود عليه ... – إلي أن قال – ويحتمل أن تكون التثنية إشارة إلي أنه حصل بالتشبع حالتان مذمومتان : فقدان ما يتشبه به وإظهار الباطل )) . ا هـ  9/ 318 من (( الفتح ))

وقال الزمخشري :

(( المتشبع علي معنيين ... والثاني : المتشبه بالشبعان ، وليس منه . وبهذا المعني الثاني استعير للمتحلي بفضيلة ترزق وليس من أهلها ... )) . ا هـ من (( الفائق )) . 2/217 .

وقال القرطبي :

(( وكيف كان – أي تفسير التثنية – يتحصل منه أن تشبع المرآة علي ضرتها بما لم يعطها زوجها حرام لأنه تشبه بمحرم )) . ا هـ بواسطة نقل المناوي عنه في (( الفيض )) 6 / 260  .

وبعد تبين معني الحديث من كلام العلماء ، نقول : إن دلالته علي تحريم (( التمثيل )) ظاهرة ، فإن (( التمثيل )) تشبع بما لم يعط صاحبه ، ولا يصح تمثيل في الدنيا بدون هذا التشبع ، إذ التمثيل لابد فيه من محاكاة آخر ، كطبيب أو عالم أو قائد ، أو ناصح ... إلخ .

فهو علي كل الأحوال والتقادير : تشبع بما لم يعط (( الممثل )) ، فهو داخل تحت مدلول هذا الحديث ، والله الموفق والهادي .

*********

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فصـــــــــــــل

الدليل الرابع علي حرمة التمثيل

 

إن الغالب علي (( التمثيل )) شوبه بالمضحكات ، حتى يسترعي اهتمام الحاضرين ، ويرغبهم في متابعته، والحرص علي ارتياد نواديه. فيضطر (( الممثل )) إلي الخروج بزي مضحك، أو التلفظ بما يثير الضحك ، وقد علم هو وعلم الحاضرون أنه كاذب في لبسه ولفظه. فهو داخل في الوعيد الشديد المعد لمن أضحك الناس وهو كاذب .

روى الإمام أحمد – وغيره – عن معاوية بن حيدة  أن النبي r قال : (( ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ، ويل له ، ويل له )) .

وقد سئل شيخ الإسلام عن الرجل يحدث بين الناس بكلام وحكايات كلها كذب . فأجاب :

(( أما التحديث بأحاديث مفتعلة ليضحك الناس ، أو لغرض آخر ، فإنه عاص لله ، ورسوله ... )) ز ا هـ  من (( الفتاوى )) 32 / 225 .

وهو بهذا الفعل قد أوجب رد شهادته قضاءً ، لأن العلماء نصوا علي أن المضحك مردود الشهادة ، وساقط المروءة .

قال في دليل الطالب :

(( فلا شهادة لمتمسخر [ أي مستهزئ ] ولا لمن يحكي المضحكات [  ومتزي بزي يسخر منه ، وأشباه ذلك مما تألف منه أهل المروءات ، لأنه يأنف من الكذب ، بدليل ما روى أبو مسعود البدري مرفوعاً : (( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولي : إذا لم تستح فاصنع ما شئت )) رواه البخاري ] . ا هـ  وما بين معقوفين من كلام الشارح (( المنار )) 2/489 .

وقال النووي في (( الروضة )) :

(( الشرط الخامس – من شروط قبول الشهادة : المروءة وهي التوقي عن الأدناس ، فلا تقبل شهادة من لا مروءة له . فمن ترك المروءة : لبس ما لا يليق بأمثاله ... والمشي في السوق مكشوف ارأس والبدن ... أو يكثر من الحكايات المضحكة )) . ا هـ  11/ 232 .

وقال الدردير في شرح مختصر خليل في مبحث من تقبل شهادته :

(( ولم يباشر ( سفاهة ) أي مجوناً . بأن يكثر الدعابة ، ولم يبال بما يقع منه من الهزل )) 4/ 147 .

وفي سنن ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : لا تكثروا الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب )).

*********

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فصـــــــــــــل

الدليل الخامس علي حرمة التمثيل


ما رواه أب داود – وغيره عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : وحكيت له - r - إنساناً . فقال : (( ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا )) .

وقد تقدم بيان دلالة هذا الحديث علي تحريم (( التمثيل )) في الكلام علي الدليل الثاني .

وقوله : (( وأن لي كذا وكذا )) أي لو أعطيت من الدنيا شيئاً كثيراً بسبب ذلك فهي جملة حالية وإرادة للتعميم والمبالغة . ذكره المناوي 5/ 411 .

وقد يقال : أن هذا الحديث وارد علي حكاية إنسان معين ، فلا يتناول غيره .

فنقول : إن تناوله غير المعين أولي ، لأن محاكاة غير المعين إلي الجنون والخبل أقرب من غيرهما .

وقد تقرر في علم الأصول : أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وقوله : (( إنساناً )) نكرة في سياق النفي فتعم المعين وغير المعين ، بل هي في غير المعين أولي – كما ذكرنا – لأن العاقل إذا استولي عليه الغضب قد يحاكي شخصاً أساء إليه انتقاما . أما غير العقلاء ، فالمعهود منهم ، محاكاة الخيال وتمثيل الأحلام .

ولا يرد علي هذا الحديث ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال : (( رأيت النبي r  يحكي نبياً من الأنبياء يمسح الدم عن وجه )) .

لأن هذه المحاكاة ليست علي سبيل التنقص .

ولأنها محاكاة جزئية جري الناس عليها دون نكير – إذا لم يرد بها الانتقاص – كما تقول ضرب المدرس الطالب ضرباً شديداً هكذا . ثم تشير إلي هيئة الضرب .

وأما أصحاب (( التمثيل )) فإن محاكاتهم كلية . والفرق بينهما وبين الجزئية أن الأولي مسقطة للعدالة ، والثانية ليست كذلك . بدلالة العرف الجاري .

وإذا استدل أصحاب التمثيل بهذا الحديث علي جواز المحاكاة الكلية فإننا نطلب منهم أن يمثلوا دور أحد ملوك العصر ، أو دور أحد العلماء الموجودين ويقلدوا حركاتهم وسكناتهم الحميدة ، لننظر عاقبتهم عند المسؤلين ، وسمعتهم عند العامة .

*************

فصـــــــــــــل

الدليل السادس علي رمة التمثيل

إن هذا (( التمثيل )) لا يتم غلا بارتكاب احد المخالفات الشرعية – الآتية – أو كلها . وأهله هم أول المنكرين علي من فعلها خارج (( التمثيل )) فما الذي أباحها علي منصة (( المسرح )) وحرمها في غيره ؟

فمن هذه المخالفات الشرعية :

1-   الكذب :

وقد تقدم الكلام عليه .

2-   اليمين الغموس :

وهي التي يحلف بها المرء علي أمر ماض ، عالماً كذب نفسه . وسميت غموساً لأنها تغمس صاحبها في الإثم ، ثم في النار .

ووجه كون (( التمثيل )) مشتملاً علي اليمين الغموس ، أن (( المثل )) يحلف – أحياناً – علي أ،ه فعل كذا وكذا ، وأنشأ كذا ، أو قال كذا ، وقد علم كذب نفسه .

فما وجه إجازة هذا الفعل له دون غيره ؟

3-   الإنتساب إلي غير الأب الحقيقي أو التبني :

وهذا محظور شرعي ، ورد النهي الشديد عنه ، كما في قوله تعالي :

) أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ( [ الأحزاب : 5 ]

وقول النبي r : (( لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فهو كافر )) .

وقوله r : (( من أدعي أباً في الإسلام غير أبيه يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام )) .

أخرجهما في الصحيحين ، الأول من حديث أبي هريرة . والثاني من حديث سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة – رضي الله عنهم - .

قال أبو بكر الجصاص – رحمه الله تعالي – علي قوله تعالي : ) أدعوهم لآبائهم .... ( الآية :

(( فيه إباحة إطلاق اسم الأخوة وحظر إطلاق اسم الأبوة من غير جهة النسب . ولذلك قال أصحابنا – الحنفية – فيمن قال لعبده : هو أخي لم يعتق ولو قال هو ابني عتق لأن إطلاقه ممنوع إلا من جهة النسب وروي عن النبي r  أنه قال : (( من أدعي إلي غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام )) . ا هـ من (( أحكتام القرآن )) 3/354 .

وقال المناوي - رحمه الله تعالي - :

(( من أدعي إلي غير أبيه : أي من رغب عن أبيه ، والتحق بغيره تركاً للأدنى ، ورغبة في الأعلى ، أو خوفاً من الإقرار بنفسه أو تقرباً لغيره بالانتماء أو غير ذلك من الأغراض )) . ا هـ من (( الفيض )) 6/46 .

وقال الألو سي – رحمه الله تعالي - :

(( فظاهر الآية حرمة تعمد دعوة الإنسان لغير أبيه ، ولعل ذلك فيما إذا كانت الدعوة علي الوجه الذي كان في الجاهلية . وأما إذا لم يكن كذلك كما يقول الكبير للصغير علي سبيل التحنن والشفقة : يا بني . وكثيراً ما يقع ذلك فالظاهر عدم الحرمة )) . ا هـ  من (( روح المعاني )) 21/149

ووجه الانتساب لغير الأب ، والتبني ، في (( التمثيل )) ظاهر جداً . فإن (( الممثل )) يقول لممثل آخر لا يمت إليه بصلة : أبي . أو ابني . وهذا داخل في عموم النهي عن ذلك . ولا يقال : يحمل هذا علي : التحنن والشفقة ، أو علي التعظيم والتبجيل . لأن استخدام هذه اللفظة في هذه الأغراض معروف مكانه ، إذ يقولها الصغير من هو أكبر منه سناً ، مرة أو مرتين ، لإظهار احترامه أو يقولها الكبير للصغير إظهاراً للشفقة والرحمة . وهذا لا يوجد في التمثيل وإنما الذي فيه نسبة فلان لفلان علي أنه أبوه الحقيقي ، يأمره وينهاه ويجبره حتى كأنه ولده الصلبي ، وهذا ما نهي عنه .

قال ابن كثير – رحمه الله - :

(( فأما دعوة الغير ابناً علي سبيل التكريم والتحبب ، فليس مما نهي عنه في هذه الآية . بدليل ما رواه أحمد وأخل السنن إلا الترمذي ... عن ابن عباس – مرفوعاً – (( أبني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس )) . ا هـ بتصرف من التفسير )) 3/ 486

تغيير خلق الله :

4-   ويحصل ذلك للمثل عندما يتظاهر بالعور والعمى أو الشيخوخة والكبر ، وأو العرج والشلل ، أو يصل بشعره شعراً آخر ، أو يضع علي وجهه شعر كأنه لحية أو يطلي نفسه بالسواد ... إلخ

5-   فكل ذلك تغيير لخلق الله سبحانه وتعالي ، نهي عنه المولي عز وجل وعلا في قوله حكاية عن إبليس :

) وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِيَنَّهُمْ وَلآمُرَنُّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِياًّ مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً ( [ النساء : 119 ]

قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالي :

(( تغيير خلق الله وسوء التصرف فيه : عام يشمل التغيير الحسي ... ويشمل سائر أنواع التشويه والتمثيل بالناس الذي حرمه الشرع ... ويشمل التغيير المعنوي ... )) ا هـ (( التفسير )) 5/ 428 .

وهل التغيير المنهي عنه ما كان باقياً أم ما كان باقياً وغيره ؟

ذهب بعض العلماء إلي أن النهي فيما كان باقياً ، لأنه من باب تغيير خلق الله .

والصحيح – إن شاء الله – أن النهي عام فيما يكون باقياً أو غير باقي لما ثبت في الصحيحين – وغيرهما – عن عبد الله بن مسعود : (( لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن والمغيرات خلق الله تعالي )) وما لي لا ألعن من لعن رسول الله r

قال الحافظ (( قوله المغيرات خلق الله )) : صفة لازمة لمن يصنع الوشم والنمص والفلج .. )) ا هـ 10/373 (( الفتح )) .

ومن المعلوم أن النمص يزول بخروج شعر الحاجب ، ولذا تحتاج النامصة إلي معاهدة شعر الحاجب بالمنماص بين آونة وأخري ، وقد وصفها بن مسعود بتغيير خلق الله

وقد ذكر المفسرون حديث ابن مسعود المتقدم عند هذه الآية ، تفسيراً لها .

قال الطبري : (( لا يجوز للمرآة تغيير شيء من خلقتها التي خلقها الله عليها بزيادة أو نقص ... إلي أن قال ، أو لحية أو شارب أو عنفقة فتزيلها بالنتف ... فكل ذلك داخل في النهي ، وهو من تغيير خلق الله تعالي ... )) إلخ . ا هـ بواسطة نقل ابن حجر في (( الفتح )) 10/377 .

فتقرر بهذا أن التغيير يكون فيما يبقي وفي غيره مما يزول ( 1 ) فدخل في ذلك ما يعمله (( الممثلون )) من تغيير هيئاتهم وألوانهم . والله تعالي أعلم .

وقد وردت أحاديث صريحة في المنع من وصل الشعر بشعر غيره ، فعن عائشة أن جارية من الأنصار  تزوجت ، وأنها مرضت فتمعط شعرها ، فأرادوا أن يصلوها . فسألوا النبي r فقال (( لعن الله الواصلة والمستوصلة )) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما .

قال الحافظ ابن حجر علي حديث ابن مسعود – المتقدم - :

(( ويستوي في ذلك الرجل والمرآة )) ا هـ (( الفتح )) 10/372 .

وفي فعل (( الممثل )) بنفسه أشياء مستكرهة كبعض العاهات مخالفة لقول النبي r : (( إن الله يحب أن يري أن نعمته علي عبده )) . رواه الترمذي وغيره .

5-                      الاستهزاء بالدين وأهله :

ويحصل هذا عندما يمثل رجل دور مستهزئ بالدين وأهله ، فيحتاج إلي محاكاته فيما يلمز به الدين وأهله . وقد علم شناعة هذا العمل ، وغلظ تحريمه .

حتى لقد نص بعض العلماء علي جعله من المكفرات المخرجة عن الدين .

قال ابن حجر الهيتمي في كتابه (( الإعلام بقواطع الإسلام )) :

(( ومنها – أي المكفرات – لو حضر جماعة ، وجلس أحدهم علي مكان رفيع ، تشبيهاً بالمذكرين ، فسألو المسائل ، وهم يضحكون ، ثم يضربونه بالمجراف .

أو تشبه بالمعلمين فأخذ خشبة ، وجلس القوم حوله كالصبيان ، فضحكوا واستهزؤوا .

أو قا لقطعة من ثريد خير من العلم : كفر .

زاد في (( الروضة )): قلت : الصواب أنه لا يكفر في مسألتي التشبيه . أنتهي .

ولا يغتر بذلك ، وإن فعله أكثر الناس ، حتى من له نسبة إلي العلم ، فإنه يصير مرتداً علي قول جماعة ، وكفي بهذا خساراً وتفريطاً ... )) ا هـ .

وما ذكره – رحمه الله – هو حقيقة التمثيل الذي يعمل الآن ، ولا سيما في تمثيل دور الاستهزاء ، فليعتبر بذلك أهل التمثيل ‍‍.

6-                      تمثيل دور الكفرة والتلفظ بأقوال الكفر :

ويحصل ذلك عندما يمثل الرجل دور أحد الكفرة ، فيحاكي أفعاله و يتلفظ بأقواله ، وهو مجتهد في إتقان ذلك ، متفاعل فيه ، كما حصل لبعضهم حين مثل نفسه من أهل الجاهلية ، فسجد للقبر ، بمشهد من الناس . وكما حصل لآخر حينما مثل دور رئيس دولة كافر ، فسب الإسلام وصرح بخطره علي الحضارة ، وتناول من رسول الله r . كل ذلك وقع بحضرة ملأ من الناس .

وأمثاله كثير

 

ولا شك أن هذا العمل كفر مخرج من دين الإسلام ، علي أي وجه قام به (( الممثل )) .

قال تعالي :

) يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِءُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ (65)  لاَ  تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ( [ التوبة : 64-66 ]

روى ابن جرير الطبري في (( تفسيره )) وابن أبي حاتم ، بإسناد لا بأس به عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال : قال رجل في غزوة تبوك ، في مجلس : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء ، أرغب بطوناً ولا أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء . فقال رجل في المجلس : كذبت ولكنك منافق ، لأخبرن رسول الله r، فبلغ ذلك النبي r ونزل االقرآن . قال عبد الله بن عمر : فأنا رأيته متعلقاً بحقب ناقة رسول الله r تنكبه الحجارة وهو يقول يار رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب . ورسول الله r يقول ) (( أبالله وأياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ))( . ا هـ   [ التوبة 65-66 ]

قال الإمام أبو بكر الجصاص علي هذه الآية :

(( فيه الدلالة علي أن اللاعب والجاد سواء في إظهار كلمة الكفر علي غير وجه الإكراه . لأن هؤلاء المنافقين ذكروا أنهم قالوا ما قالوه لعباً ، فأخبر الله عن كفرهم باللعب ذلك إلي أن قال - :

فأخبر عن هذا القول كفر منهم علي أي وجه قالوه من جد أو هزل ، فدل علي استواء حكم الجاد والهازل في إظهار كلمة الكفر )) . ا هـ من (( أحكام القرآن )) 3/142 .

وقال الإمام أبو بكر بن العربي علي هذه الآية :

(( لا يخلوا أن يكون ما قالوه من ذلك جداً أو هزلاً ، وهو كيفما كان كفر . فإن الهزل بالكفر كفر لا خلاف فيه بين الأمة .. إلخ )) ا هـ من (( أحكام القرآن .

و قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في آخر (( نواقض الإسلام )) .

(( ولا فرق في جميع هذه النواقص بين الهازل ،والجاد ،والخائف ، إلا المكره . وكلها من أعظم ما يكون خطراً ، وأكثر ما يكون وقوعاً ، فينبغي للمسلم أن يحذرها ، ويخاف علي نفسه ، ونعوذ بالله من موجبات غضبه ، وأليم عقابه )) .ا هـ .

وقال أيضاً في كتاب (( التوحيد ))

باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول . وقول الله تعالي : ) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ( [ التوبة : 65 ]

قال الشيخ سليمان بن عبد الله في شرحه لكتاب ( التوحيد ) مبيناً مراد المؤلف بهذا الباب :

(( أي أنه يكفر بذلك ، لاستخفافه بجانب الربوبية والرسالة ، وذلك مناف للتوحيد .

ولهذا أجمع العلماء علي كفر من فعل شيئاً من ذلك ، فمن استهزأ بالله ، أو بكتابه أو برسله أو بدينه ، كفر ، ولو هازلاً لم يقصد حقيقته الاستهزاء  إجماعاً )) . ا هـ .

فتبين من كلام هؤلاء العلماء وحكاياتهم الإجماع : أن من تلفظ بكلمة الكفر ، ولو هازلاً ، فهو كافر فما هو حال العامل بالكفر هزلاً ؟

قال العلامة بن حجر الهيتمي عفا الله عنه :

(( وقد أجمع السلف والخلف علي حكايات مقالات الكفرة والملحدين في كتبهم ومجالسهم ، لبيانها وردها )).

وإن كان علي وجه الحكايات والأسمار ، والظرف وأحاديث الناس ، ومقالاتهم في الغث والسمين – وهو الكلام الجامع لاختلاف الدلالات حسناً وقبحاً ، إذ الغث : الهزيل ، ونوادر السخفاء ،والخوض في قيل وقال ، وما لا يعني – فكل هذا ممنوع منه ، وبعضه أشد في المنع والعقوبة من بعض .

وقد سأل رجل مالكاً عمن يقول : القرآن مخلوق ؟ فقال مالك : كفر . أقتلوه . فقال إنما سمعته عن غيري . فقال : إنما سمعناه منك )) ا هـ .

وقد جاءت أحاديث عن رسول الله r  في التحذير من الحلف بملة غير ملة الإسلام سواء كان الحلف كاذباً أو صادقاً .

ففي الصحيحين – وغيرهما – عن ثابت بن الضحاك قال : قال رسول الله r  : (( من حلف بغير ملة الإسلام فهو كما قال )) الحديث .

وفي سنن النسائي عن بريدة قال : قال رسول الله r : (( من قال إني بريء من الإسلام ، فإن كان كاذباً فهوكما قال ، وإن كان صادقاً لم يعد إلي الإسلام سالماً . ))

صححه النسائي – كما في ((  فتح الباري )) 1010/539 .

7-                      الدعوة – غير المباشرة – إلي أخلاق هابطة ، وصفات مرذولة :

وذلك أن (( الممثل )) قد يخرج بصورة الحاسد، أو النمام أو السارق ، أو الداعية إلي الفساد ..، وغير ذلك من الصور المقوتة . فيجيد – أحياناً – في عرض هذا (( الدور)) الموكول إليه ، مما قد يؤثر في بعض المشاهدين – لا سيما قليلي الإدراك – فيعجب ببهرجته ويستحسن تصرفه ويكبر عمله ولا يلتفت إلي نتيجة (( التمثيل )) التي تقضي بسوء عاقبة هذا (( الممثل )) .

ومن نظر إلي أوساط (( المتفرجين )) علي هذا النوع من (( التمثيل )) علم أن أكثر ما يرسب في أذهانهم ، أدوار المنحرفين ، من النمامين ، والمحتالين ، مما قد يؤدي تدرجاً إلي التساهل بهذه المنكرات ، ومن ثم الوقوع فيها . والله أعلم .

8-                      الرضا بالمنكر :

فإن (( التمثيل )) مشتمل علي أنواع من المنكرات – كما تقدم – كالكذب ووصل الشعر ،والاستهزاء ، وغيرها . والسكوت علي هذه المنكرات دليل علي الرضا بها ، والرضا بالمنكر والسكوت عليه لا يجوز إقراره لما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله r (( من رأي منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان )) .

وفي السنن عن أبي بكر الصديق – رضي اله عنه – أن النبي r قال : (( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا علي يديه ، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه )) .

فصل 

وأما إذا اقترن (( التمثيل )) بنية العبادة ، كمن أقامه يدعو الناس به إلي الله تعالي ، ويرى أنه بذلك فعل قربة يؤجر عليها ، فإن تحريمه أشد والمنع منه آكد فكما أنه معصية لله تعالي – كما سبق شرحه – فهو بهذه النية بدعة منكرة شنيعة ، تضاهي ما كان عليه اليونانيون الوثنيون ،والنصارى الضالون .

وبيان ذلك أن الدعوة إلي الله تعالي عبادة كما دل علي ذلك القرآن والسنة والإجماع ، قال تعالي : ) ومن أحسن قولاً ممن دعا إلي الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ( .

وثبت عن النبي r أنه قال : (( لئن يهدي الله بك رجلاً خير لك من حمر النعيم )) .

وكل عبادة في شرعنا يتوقف قبولها علي اجتماع أمرين فيها :

الأول : الإخلاص لله تعالي ، قال سبحانه : )وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ( [ البينة : 5 ]

الثاني : متابعة الرسول r لحديث : (( من عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) وفي لفظ : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) ، أي : مردود علي عامله لا يبله الله تعالي .

وقد أجمع السلف علي هذين الأمرين ، فقالوا : جماع الدين أن لا نعبد إلا الله ولا نعبده إلا بما شرع .

قال تعالي :

 )ليبولكم أيكم أحسن عملا (      [ الملك : 2 ]

قال الفضيل بن عياض – رحمه الله - : (( أخلصه وأصوبه .

قالوا : يا أبا علي ، ما أخلصه وما أصوبه ؟

قال : إن العمل إذا كان خالصاً ، ولم يكون صواباً لم يقبل .

وإذا كان صواباً ، ولم يكن خالصاً لم يقبل ، حتى يكون خالصاً وصواباً )) . ا هـ

والخالص أن يكون لله تعالي .

والصواب : أن يكون علي السنة .

قال أبو سليمان الداراني :

(( ليس لم نألهم من الخير أن يفعله حتى يسمع منه بأثر ، فإن سمع بأثر ، كان نوراً علي نور )). ا هـ ([28]) .

ومن المعلوم بالضرورة : أن النبي r إنما بعث لإخراج الناس من الظلمات إلي النور .

وقد سلك في ذلك مسالك وسن وسائل ، كفيلة بهداية من شاء الله تعالي هدايته من العصاة ، والكافرين . ومن المحال أن يبين النبي r آداب قضاء الحاجة ، وما هو أدني من ذلك ويدع وسائل الدعوة – التي هي أصل مبعثه وأصل تبليغ رسالته لأمته من بعده – خفية ، أو ناقصة ، تحتاج إلي تكميل أو تحسين .

قال تعالي :

) اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ( [ المائدة : 3 ]

وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي r قال : ( ما بعث اله نبياً إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته علي خير ما يعمله لهم ،وينهاهم عن شر ما يعمله لهم )) . وفي السنن من حديث العرباض بن سارية أن النبي r )( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي ، تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ،وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة )) .

وثبت عنه r أنه قال : (( ما تركت من شيء يبعدكم من النار إلا وحدثتكم به )) .

وقال : (( تركتكم علي البيضاء ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها بعدى إلا هالك )) .

ففي هذه الأحاديث وأمثالها : إخبار النبي r - وهو الصادق المصدوق – أمته :

أنه ما ترك شيئاً يبعدهم من النار إلا وقد حدثهم به ، تحذيراً لهم ، وإنذاراً .

وإن الواجب عليهم التأسي به r وبخلفائه الراشدين .

وأن كل ما أحدث في الدين بعدهم بدعة ضلالة ، وشر الأمور محدثاتها وأن من زاغ عن هذا الهدي البين الواضح فقد هلك .

وإذا تبين هذا : فإن التعبد لله تعالي بإقامة هذا التمثيل ، منكر من القول وزور ، لما فيه من تشريع ما لم يأذن الله تعالي به في دينه . فهو – بهذه النية – بدعة يذم أصحابها ، ويعرف أن الله لا يتقبلها منهم ،وإن كان قصدهم بها العبادة كما أن الله لا يقبل عبادة الرهبان ، ونحوهم ممن يجتهدون في الزهد والعبادة ، لأنهم لم يعبدوه بما شرع ، بل ببدعة ابتدعوها .

ونظير هذا قول شيخ الإسلام – رحمه الله تعالي – في جوابه عن (( السماع )) :

(( فأما سماع القاصدين لصلاح القلوب في الاجتماع علي ذلك : إما نشيد مجرد ، نظير الغبار ([29]) وأما بالتصفيق ونحو ذلك :

فهو السماع المحدث في الإسلام ، فإنه أحدث بعد ذهاب القرون الثلاثة الذين أثني عليهم النبي r حيث قال :

(( خير القرون : القرن الذي بعثت فيه ، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم )) .

وقد كرهه أعيان الأمة ،ولم يحضره أكابر المشايخ .

وقال الشافعي – رحمه الله - : خلفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير ، يصدون به الناس عن القرآن .

وسئل عنه الإمام أحمد ، فقال : هو محدث ، أكرهه . قيل له : أنه يرق عليه القلب ؟ فقال : لا تجلسوا معهم . قيل له : أيهجرون ؟ فقال : لا يبلغ بهم هذا كله .

فبين أنه بدعة ، لم يفعلها القرون المفضلة لا في الحجاز ،ولا في الشام ولا في اليمن ، ولا في مصر ، ولا في العراق، ولا خرسان ، ولو كان للمسلمين به منفعة في دينهم لفعله السلف )) . ا هـ .

فتأمل في كلامه – رحمه الله تعالي – قوله :

(( نشيد مجرد )) وأن من سمعه أراد (( صلاح القلوب )) .

ثم تأمل حكمه علي هذا بأنه (( محدث في الإسلام ))

ثم تأمل الدليل علي هذا الحكم ،وهو أنه إنما (( أحدث بعد ذهاب القرون المفضلة )) . ثم تأمل القاعدة العظيمة التي يجهلها كثير ممن ينتسب إلي العلم ، وهي قوله :

(( ولو كان به للمسلمين منفعة في دينهم لفعله السلف )) .

تري – أيها المنصف – أن هذا الكلام ينظبق بجميع أفراده علي (( التمثيل )) المحدث عند المسلمين في الأزمان المتأخرة !؟ .

* * * *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فصـــــــــــــل

 

وإذا تقرر ما سبق : فإن وسائل الدعوة توفيقية ، لا يحل لأحد إحداث شيء فيها بغير دليل ، من الكتاب ،والسنة ، وعمل السلف الصالح .

قال السيخ العلامة المحقق بكر عبد الله أبو زيد – حفظه الله تعالي – في كتابه (( حكم الإنتماء إلي افرق والأحزاب والجماعات الإسلامية ([30]) )) :

(( والأصل في وسائل نشر الدعوة – كذلك – التوقيف علي منهاج النبوة وقد صح عن النبي r أه قال :

(( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) .

وفي لفظ : (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا ، فهو رد )) .

ومن رحمه الله تعالي بعباده ، وبالغ حكمته في تشريعه لما يصلح الله به العباد والبلاد ، أنه لما شرع الجهاد ، وشرع الدفاع ، وشرع الأمر بالمعروف ،وشرع تغيير المنكر ،وشرع النصيحة ،وشرع الدعوة ، شرع للأمة وسائل متعددة في ذلك ولم يجعلها إلي عقولهم بل أحالهم علي ما شرع لهم ... )) ا هـ .

فمن دعا إلي الله تعالي بغير هدي النبي r وصحابته – رضوان الله عليهم – فهو مبتدع ضال إن كان صادقاً في الدعوة إلي الله تعالي ، وإن كان كاذباً فهو منافق أثيم .

وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالي – هذه القاعدة في جواب سؤال ورد عليه ، هذا نصه :

(( سئل شيخ الإسلام جماعة يجتمعون يجتمعون علي قصد الكبائر : من القتل وقطع الطريق ، والسرقة وشرب الخمر ، وغير ذلك .

ثم إن شيخاً من المشايخ المعروفين بالخير، وإتباع السنة : قصد منع المذكورين من ذلك ، فلم يمكنه إلا أن يقيم لهم سماعاً يجتمعون فيه بهذه النية ، وهو بدف بلا صلاصل ، و،وغناء المغني بشعر مباح بغير شبابة .

فلما فعل هذا تاب منهم جماعة ،وأصبح من لا يصلي ويسرق ولا يزكي : يتورع في الشبهات ويؤدي المفروضات ،ويتجنب المحرمات .

فهل يباح فعل السماع لهذا الشيخ علي هذا الوجه ، لما يترتب عليه من المصالح ؟ مع أنه لا يمكنه دعوتهم إلا بهذا ؟

فأجاب شيخ الإسلام إجابة وافية جلية ، بدأها بمقدمات مسلمة ،هذا حاصلها :

أن الله بعث محمداً r بالهدي ودين الحق ، ليظهره علي الدين كله وكفي بالله شهيداً .

وأنه أكل له ولأمته الدين .

وأمر الخلق أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلي ما بعثه به .

وأخبر أنه يأمر بالمعروف ، وينهي عن المنكر ، ويحل الطيبات ، ويحرم الخبائث .

وقد أمر الله الرسول rبالتمسك بسنته ، وسنة الخلفاء الراشدين .

ثم قال شيخ الإسلام :

وشواهد هذا الأصل العظيم من الكتاب والسنة كثيرة ، وترجم عليه أهل العلم في الكتب : (( كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة )) كما ترجم عليه البخاري ، والبغوي وغيرهما .

فمن أعتصم بالكتاب والسنة كان من أولياء الله المتقين ، وحزبه المفلحين ، وجنده الغالبين .

ثم قال شيخ الإسلام :

إذا عرف هذا : فمعلوم أنما يهدي الله به الضالين ، ويرشد به الغاوين ويتوب به علي العاصين :

لابد أن يكون فيما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة . وإلا فإنه لو كان بعث الله به الرسول r لا يكفي في ذلك لكان دين الرسول ناقصاً ، محتاجاً تتمة .

ثم قال شيخ الإسلام :

وهكذا ما يراه الناس من الأعمال مقرباً إلي الله تعالي ، ولم يشرعه الله ورسوله : فإنه لابد أن يكون ضرره أعظم من نفعه .

وإلا فلو كان نفعه أعظم غالباً علي ضرره : لم يهمله الشارع ، فإنه r حكيم لا يهمل مصالح الدين ، ولا يفوت المؤمنين ما يقربهم إلي رب العالمين .

إذا تبين هذا ، فنقول للسائل :

إن الشيخ المذكور قصد أن يتوب المجتمعين علي الكبائر ، فلم يمكنه ذلك إلا بما ذكره من الطريق البدعي : يدل أن الشيخ جاهل  بالطرق الشرعية ، التي بها تتوب العصاة ، أو عاجز عنها فإن الرسول r والصحابة والتابعين : كانوا يدعون من هو شر من هؤلاء ، من أهل الكفر ، والفسوق ، والعصيان : بالطرق الشرعية ، التي أغناهم الله بها عن الطرق البدعية .

فلا يجوز أن يقال أنه ليس في الطرق الشرعية التي بعث الله بها نبيه ما يتوب به العصاة ، فإنه قد علم بالاضطرار ، والنقل المتواتر : أنه قد تاب من الكفر ، والفسوق ، والعصيان ، من لا يحصيه إلا الله تعالي من الأمم بالطرق الشرعية التي ليس فيها ما ذكر من الاجتماع البدعي .

بل السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان – وهم خير أولياء الله المتقين ، من هذه الأمة – تابوا إلي الله تعالي بالطرق الشرعية لا بهذه الطرق البدعية .

وأمصار المسلمين وقراهم قديماً وحديثاً : مملوءة ممن تاب إلي الله واتقاه ، وفعل ما يحبه الله ويرضاه : بالطرق الشرعية لا بهذه الطرق البدعية .

فلا يمكن أن يقال : إن العصاة لا تمكن توبتهم إلا بهذه الطرق البدعية

بل قد يقال : أن في الشيوخ من يكون جاهلاً بالطرق الشرعية ، عاجزاً عنها ، وليس عنده علم بالكتاب والسنة ،وما يخاطب به الناس ، ويسمعهم إياه ، مما يتوب الله عليهم ، فيعدل هذا الشيخ عن الطرق الشرعية إلي الطرق البدعية إما مع حسن القصد إن كان له دين .

وإما أن يكون غرضه الترأس عليهم ...

ثم قال شيخ الإسلام :

وقول السائل وغيره : هل هو حلال أو حرام ؟

لفظ مجمل فيه تلبيس ، يشتبه الحكم فيه ، حتي لا يحسن كثير من المفتين تحرير الجواب فيه .

وذلك أن الكلام في السماع وغيره من الأفعال علي ضربين :

أحدهما : أنه هل هو محرم ؟ أو غير محرم ؟ بل يفعل كما يفعل سائر الأفعال التي تلتذ بها النفوس ، وإن كان فيها نوع من اللهو ،واللعب ، كسماع الأعراس وغيرها مما يفعله الناس لقصد اللذة واللهو ، لا لقصد العبادة والتقرب إلي الله .

والنوع الثاني : أن يفعل علي وجه الديانة ،والعبادة وصلاح القلوب .... وغير ذلك مما هو جنس العبادات ،الطاعات ، لا من جنس اللعب والملهيات .

فيجب الفرق بين سماع المتقربين وسماع المتلعبين ،وبين السماع الذي يفعله الناس في الأعراس ، والأفراح ، ونحو ذلك من العادات ، وبين السماع الذي يفعل لصلاح القلوب والتقرب إلي رب السماوات .

فإن هذا يسأل عنه : هل هو قربة وطاعة ؟ وهل هو طريق إلي الله ؟ وهل لهم بد من أن يفعلواه لما فيه من رقة قلوبهم ، وتحريك وجدهم لمحبوبهم .... ؟

كما أن النصاري يفعلون مثل هذا السماع في كنائسهم علي وجه العبادة والطاعة لا علي وجه اللعب واللهو واللعب .

إذا عرف هذا فحقيقة السؤال :

هل يباح للشيخ أن يجعل هذه الأمور التي هي : إما محرمة ، أو مكروهة ، أو مباحة : قربة وعبادة وطاعة ، وطريقة إلي الله يدعو بها إلي الله ، ويتوب العاصين ،ويرشد به الغاوين ، ويهدي به الضالين .

ومن المعلوم أن الدين له أصلان : فلا دين إلا ما شرع الله ([31]) ،ولا حرام إلا ما حرمه الله . والله تعالي عاب علي المشركين أنهم حرموا ما لم يحرمه الله ،وشرعوا ديناً لم يأذن به الله .

ولو سئل العالم عمن يعدو بين جبلين : هل يباح له ذلك ؟ قال : نعم . فإذا قيل له : أنه علي وجه العبادة ، كما يسعي بين الصفا والمروة ؟ قال :إن فعله علي هذا الوجه : حرام منكر ، يستتاب فاعله ، فإن تاب وإلا قتل )) . ا هـ  كلامه رحمه الله ([32])

والممعن في هذا التقرير البديع يري من خلاله إبطال كل حجة تعلق بها المبتدعون في جعل التمثيل وسيلة من وسائل الدعوة إلي الله تعالي ، ينشدون به إصلاح العباد ، وحصول الثواب .

فحجتهم أن التمثيل يترتب عليه مصالح ، نقضها قول الشيخ : (( وهكذا ما يراه الناس من الأعمال مقرباً إلي الله ورسوله : فإنه لابد أن يكون ضرره أعظم من نفعه .... )) إلخ .

وقال في موضع أخر [ 11/ 594 ] :

(( وبالجملة فعلي المؤمن أن يعلم : أن النبي r لم يترك شيئاً يقرب غلي الجنة إلا وقد حدث به ولا شيئاً يبعد عن النار إلا وقد حدث به )) .

وإن هذا السماع لو كان مصلحة لشرعه الله ورسوله ، فإن الله يقول ) اليوم أتممت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً (

( وحجتهم : أنه تستجلب به النفوس ، نقضها قول الشيخ ) : (( فإن الرسولr ولأصحابة والتابعين كانوا يدعون من هو شر من هؤلاء ، من أهل الكفر ، والفسوق ، والعصيان ، بالطرق الشرعية ، التي أغناهم الله بها عن الطرق البدعية .. )) إلخ .

وقال شيخ الإسلام في موضع آخر [11/ 601 ] :

(( وأما قول القائل : هذه شبكة – يشير إلي السماع – يصاد بها العوام فقد صدق ، فإن أكثرهم إنما يتخذون ذلك شبكة لأجل الطعام ، والتوانس علي الطعام ....

وأما الصادقون منهم : فهم يتخذونه شبكة ، لكن هي شبكة مخرقة ، يخرج منها الصيد إذا دخل فيها ، كما هو الواقع كثيراً ... )) ا هـ .

وعلي كل : فإن جل ما قاله الشيخ في مسألة السماع ، ينطبق تماماً علي التمثيل المحدث ، إذا أريد به التعبد . والله تعالي أعلم .

*  * ** * *  * *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فصـــــــــــــل

وقد ذهب بعضهم إلي إجازة هذا (( التمثيل )) ، محتجين بأدلة وأراء ، سنذكرها إن شاء الله تعالي ([33])  متحرين الأمانة في النقل ، ثم نعقبها بالإجابة عليها وبيان ضعفها علي وجه الإشارة والاختصار . والله الموفق والهادي إلي سواء السبيل .

الدليل الأول

ثبوت تشكل الملائكة في صور بشر . كما هو الحال في مجيء جبريل لمريم في صورة رجل . وتمثله في صورة دحيه الكلبي لنبينا محمد r . وكما هو الحال في الملائكة الذين أرسلهم الله علي صورة أقرع وأبرص وأعمي .

فهذه الوقائع تدل علي جواز القيام بمحاكاة الآخرين ، علي سبيل الإفادة والتعليم .

والتمثيل هو القيام بمحاكاة الآخرين ، للإفادة فيلحق بها ،ويقاس عليها .

الجواب من وجوه :

الأول : أنكم غير قائلين بمدلول هذا الدليل في جميع صور التمثيل ، فإنكم تحرمون تمثيل (( الأنبياء )) و(( الصالحين )) . ومقتضي الدليل – علي هذا الرأي – جوازه لأن الملائكة مثلوا (( الصالحين )) – وهم أفضل منهم علي الصحيح – فيلزم علي ذلك جواز تمثيل المفضول للفاضل . فلماذا يمنع تمثيل (( الأنبياء )) و(( الصالحين )) ؟ وحيث قلتم بالمنع ، فإن هذا دليل علي ضعف حجتكم ،وعدم صحة الاستدلال بها .

الثاني : أن تشكيل هؤلاء الملائكة إنما هو بأمر الله لهم . ولم يأمرنا الله سبحانه بذلك ولا أمرنا أيضاً بالإقتداء بهم في ذلك .

الثالث : أن تشكيل هؤلاء الملائكة حقيقي ، بحيث أنهم أوتوا القدرة علي الظهور في قالب آخر ، غير قالبهم ، فها هم ضيف إبراهيم ملائكة ، ولكن من رآهم قال : هم بشر ،ولذا سارع إبراهيم بتقديم الأكل لهم ، وهذه هو جبريل الذي رآه النبي r علي حقيقته ساداً الأفق له ستمائة جناح – يخرج في صورة دحية الكلبي حتى أن الرائي يظنه هو دون تفريق .

أما التمثيل فإنه تشكيل وهمي مكشوف ، وطاقة محدودة يعلم الرائي تصنعه ومضاهاته لخلق الله سبحانه وقدرته – ولعل هذا وجه في التحريم – وبهذا الوجه الذي قبله يعلم بطلان وجود أصل صحيح يقاس عليه .

الرابع : أنه قياس لعالم الشهادة علي عالم الغيب ، وهو ممنوع . وهذا وجه آخر في إبطال هذا القياس .

 

الدليل الثاني

قياس التمثيل علي الأمثال المضروبة ،والتشبيهات الواردة في الكتاب والسنة مثل قوله تعالي :

) لو أنزلنا هذا القرآن علي جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله ( [ الحشر : 21 ]

وقوله تعالي )واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السناء ( [ الكهف : 45 ]

الجواب من وجوه :

الوجه الأول : أنكم استدللتم بهذه الأمثال القولية المضروبة ،والتشبيهات القولية المذكورة ، علي جواز (( تمثيلكم )) ومنعتم تمثيل الأنبياء والصحابة والملائكة ، فما الذي أخرجهم عن الدخول في أفراد هذا الدليل ؟

إن قلتم لعلو قدرهم ، وشرف ذواتهم وخشية من انتقاصهم .

قلنا : وهذا هو الحال في علماء الأمة وقادتهم المخلصين ، فإن حرمتهم كبيرة ، ومكانتهم عالية ، بنص القرآن ،والسنة ، وكلام الصحابة ، وعلماء الأمة .

الوجه الثاني : أن هذا القياس فاسد الاعتبار ، لأنه في مقابلة نص عام يندرج تحت أفراده : التمثيل .

هذا النص هو النهي الصريح عن مشابهة المشركين في عاداتهم بله عباداتهم .

وقد تقرر أن (( التمثيل )) عبادة وثنية يونانية ،وطقوس كنيسية نصرانية فينصب النهي عن مشابهة المشركين علي هذا (( التمثيل )) بل هو أولي من النهي عن مشابهتهم  في زيهم وهيئاتهم .

وإذا النبي r نهي عن الصلاة لله في وقت يسجد فيه المشركون لآلهتهم فما بالك بمشابهتهم في طقوس العبادة التي يتقربون بها إلي معبوديهم .

قال : شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالي :

(( وقد نهي النبي r عن الصلاة وقت طلوع الشمس ، ووقت الغروب ، معللاً ذلك النهي بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان ،وأنه حينئذ يسجد لها الكفار .

ومعلوم أن المؤمن لا يقصد لا سجود إلا لله .

وأكثر الناس قد لا يعلم أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان ، ولا أن الكفار يسجدون لها ثم أنه r نهي عن الصلاة في هذا الوقت حسماً لمادة المشابهة )) .ا هـ .

فإلي المذيبين لجريمة المشابهة ، المتعلقين بخيوط العنكبوت لإيهانها ، نقول :

لا حيدة لكم عن القول بأن (( التمثيل )) مأخوذ من الكفار ، وليس هو من عاداتهم – حتى  تلوذون بحججكم المعهودة – بل هو من عباداتهم وشعائرهم ، وأنتم شابهتموهم في هذا العمل تماماً ،وإذا اقتبستموه منهم ، ثم جعلتموه عبادة لله لله تتقربون إلي الله بإقامتها ، وتعدونها من أعظم وسائل الدعوة إلي الله تأثيراً . ثم ترجعون إلي تلمس الحجج الغامضة الملوية لتقيمونها مبرر لهذه المشابهة المشئومة ، المجمع علي تحريمها . إن هذا لهو الضلال المبين ، والجهل المشين .

الوجه الثالث : ما قاله العلامة الشيخ بكر أبو زيد – حفظه الله – في رد الشبهات حول إباحة التمثيل :

((  وأما قياسه علي ضرب الأمثال في الكتاب والسنة فهذا قياس مقدوح فيه بقيام الفارق بين المقيس والمقيس عليه ، إذ الأمثال قولية ، وأما ( التمثيليات ) فهي فعلية تمارس بالذوات ، فكيف هذا علي هذا مع عدم تطابقهما . فثبت فساد القياس ... )) ا هـ .

***********

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الدليل الثالث

قيام الصحابي الجليل محمد بن مسلمة بدور الصديق المقرب لكعب بن الأشر ف الكافر ، وذلك أثناء قتله .

وكذا قيام الصحابي نعيم بن مسعود في غزوة الأحزاب بدور الصديق الناصح والموالي للقبائل التي تحزبت ضد المسلمين ، وتمثله الابن البار والولي المخلص لبني قريظة ،وتصوره وقيامه بدور الناصح الأمين لقريش وغطفان والمحرض القوي لمقاتلة محمد r .

الجواب : أن هذه الوقائع وأمثالها إنما هي في مجال الحرب ،ومقاتلة الأعداء ، وقد قام الدليل علي تخصيص الحرب بمثل هذه الحيل ،وأكبر منها ، وذلك في قوله r : (( الحرب خدعة )) .

هذا آخر ما تيسر جمعه حول هذه القضية . والله الموفق والهادي إلي سواء السبيل . وصلي الله علي نبينا محمد وعلي آله أجمعين


[1] ) كانت كتابة أصل هذا البحث في 10/10/1403 هـ وقد بعثت بها إلي الشيخ عبد الله بن محمد الدويش – رحمه الله تعالي فقرأها ومرني بطباعتها في تلك السنة . وقد عبثت يد بعض الأخوة في ذلك الأصل فزيد فيه ونقص منه وحرفت بعض كلماته فوجب التنبيه لئلا يعتمد عليه . والله الموفق .

[2] ) طبعة دار الملايين : ص 1324

[3] ) ينظر الشريعة الإسلامية والفنون لأحمد مصطفي القضاة : ص 346 .

[4] ) ينظر الشريعة الإسلامية والفنون لأحمد مصطفي القضاة . 

[5] ) يريد هنا : سلامة نية القائمين بها ، والله أعلم .  .

[6] ) ط 3 – مكتبة : دار صادر ، بيروت : ص  308 -309 -310 .

[7] ) ص 427 . ط الرسالة عام 1374 هـ .   .

[8] ) وللمزيد من هذه المعلومات ينظر : (( الأدب اليوناني القديم )) للدكتور علي عبد الواحد وافي . ط دار المعرب بمصر ص 132 -245 ، و (( النقد الأدبي )) للدكتور بدوي طبانة . ص 142   .

[9] ) الاقتضاء 1/478   .

[10] ) زكي طليمات وعلي باكثير – اللذان نقلت عنهما – من كتاب التمثيلية العربية ، وليسا من العلماء والكلام المنقول عنهما هو في محاولة تفسير السبب المانع للعرب من إحياء هذا الفن اليوناني . وهناك تفسيرات لذلك عند الأدباء العصريين كثيرة ،ولكن المتأمل ري أن ما ذكره الكاتبان هو أرجى الأسباب وأقربها من الصواب . ينظر : (( القصة في الأدب العربي )) لمحمود تيمور ص 62 مبحث لماذا لم يعرف العرب المسرح ؟ .   .

[11] ) فن المسرحية – علي أحمد باكثير ص 22 . وقد نقله عنه أنور الجندي في كتابه (( الفنون والمسرح )) بتصرف ص 22 وهو المثبت هنا .    .

[12] ) الفنون والمسرح ص 23 .      

[13] ) أر إلي ذلك الدكتور يوسف عوض في مقدمته ترجمة لكتاب (( لاندو )) ( تاريخ المسرح العربي ) . ص 5 ط دار القلم بيروت 

[14] ) البداية والنهاية ( 10/21 )  .   .

[15] ) المسرحية – عمر الدسوقي ص 16 . ط دار الفكر العربي .

[16] ) ينظر اللسان 2/143 . ط المعارف المصرية . 

[17] ) تاريخ المسرح العربي – تأليف (( لاندو )) ترجمة يوسف عوض . ص 19   .

[18] ) المصدر السابق .

[19] ) (( التبر المسبوك في ذيل السلوك ))  ص 353 ط الكليات الأزهرية وقد أفاد ذلك العلامة أحمد تيمور في كتابه (( التصوير عند العرب )) ص 85 ، ط لجنة التأليف والترجمة والنشر بمصر .

[20] ) بواسطة (( التصوير عند العرب )) ص 85

[21] ) الفنون المسرحية – أنور الجندي – ص 17-19 . ط دار الإصلاح .

[22] ) المسرحية ص 18 – ط . دار الفكر العربي .

[23] ) المسرحية في الأدب الحديث ص 17 . 17 . ط . دار الثقافة .

[24] )الرحلة الحجازية ج 1 /159 .   

[25] )  ينظر (( الأعلام )) للزركلي  1/248 ، أفاد ذلك العلامة بكر أبو زيد .       

[26] )  إذا كان هذا حكم الشيخ فيما فعله المسلمون والكفار اتفاقاً لا تشبهاً ولا تقليداً ، فما الظن بما فوق ذلك ؟ فتنبه ! .       

[27] )  إذا كان هذا حكم الشيخ فيما فعله المسلمون والكفار اتفاقاً لا تشبهاً ولا تقليداً ، فما الظن بما فوق ذلك ؟ فتنبه ! .       

[28] )  أنظر الحلية لأبي نعيم ، والفتاوى 11/585 .       

[29] )  الفتاوي 11/591-592  .      

-[30] )  ص .  157-158، ط 2 . وانظر كتابي : احجج الوية علي أن وسائل الدعوة توفيقية )) .

                                           

-[31] )  الأصل الثاني من الإخلاص  .

                                           

-[32] )  من الفتاوي ( 11/620-635 ) . وفي هذه المجلدة ( 11 ) كلام بديع في هذه القضايا الدعوية يتعين علي الداعية الرجوع إليه والنظر فيه . أعرضت عن نقله لطوله والله الموفق .

                                           

-[33] )  ص .  157-158، ط 2 . وانظر كتابي : احجج الوية علي أن وسائل الدعوة توفيقية )) .

                                           

adidas calabasas cream factory san jose menu - GZ3194 - adidas Ultra Boost 2021 White Multicolor | IetpShops , New Balance 327 Moonbeam Leopard , men air max jordan 13 , 4011496719 , Where To Buy

الأقسام الرئيسية: